مع اقتراب موعد الانتخابات المحلية في العراق واستعداد أحزاب ومنظمات وأفراد للتنافس فيها ولو بشيء من الحدة والاحتكاك تبقى مسألة الحرية التي يتمتع بها الناخب للتعبير عن رأيه واختيار المرشح الذي يؤيد برنامجه الانتخابي قضية تستحق النقاش على مستوى الناخبين على الأقل.

وليس المقصود بالحرية هنا هو مجرد أن يتوجه الناخب صباح يوم الانتخابات ويدلي بصوته لصالح هذا المرشح أو المرشحة أو غيرهما دون صعوبات او تعقيدات، بل أن يعي الناخب أسباب قناعته بقرار اختياره (س) بدل (ص) وفيما اذا كان ذلك القرار يجسد حقاً إحساسه بالحرية المطلقة في الاختيار دون أية ضغوط أو قيود كامنة في داخله تكبل حريته الانتخابية.


ان مفهوم الحرية الانتخابية يعني قبل كل شيء ان يشعر الناخب بأنه يمتلك حريته الكاملة في الاختيار بعد ان يكون قد تخلّص من جميع أشكال القيود والكوابح التي تؤثر في ذلك الاختيار.. مثل الانتماء الديني والمذهبي والمناطقي والعشائري.. ويتخلص من الرأي الجمعي الموروث في بيئته ومجتمعه والذي يجعله كالببغاء أو المسحور بانغام المزمار يردد ما يقوله غيره دون وعي وإدراك خشية إقتراف (عيب) اجتماعي يخلق له مشاكل هو في غنى عنها.. أو خوفاً من مساءلةِ منْ فرضوا أنفسهم قوّامين على المجتمع تحت مختلف البدع والذرائع.


فالحرية في العراق ما تزال تحت مستوى المقبول عالمياً حيث أشار تقرير صدر في الثاني عشر من شهر كانون الثاني/ يناير 2009 عن مؤسسة (فريدم هاوس)، وهي منظمة غير حكومية تدعم انتشار مبادئ الحرية وترصد حالات انتكاسها في جميع العالم، الى تراجع ملحوظ في مدى تمتع الافراد بحرياتهم الاساسية رغم بعض التحسّن نتيجة لتقلص العنف والإرهاب السياسي و ردع الميليشيات الطائفية والحزبية التي ترعاها احزاب وجماعات بعضها مرتبط بصورة مباشرة وغير مباشرة بأطراف مشاركة في الحكومة الحالية، لكن البلاد بقيت تحت لائحة الدول التي تغيب فيها الحريات الاساسية وقيم الديمقراطية.


وتشير المؤسسة الى انه في الوقت الذي أصبح فيه أعداء الديمقراطية أحزاباً وجماعات أكثر عدائية وشراسة يعاني مؤيدو الحرية والديمقراطية من غياب التنظيم والفوضى، ولذلك يتعين على الانظمة الديمقراطية المؤثرة في صنع القرارات الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وحتى الامم المتحدة أن تركز على ضرورة ترويج مبدأ الحريات الأساسية وحمايته وتقديم الدعم اللازم لمنظمات المجتمع المدني والافراد المدافعين عن قيم الحرية والديمقراطية في بلدانهم ومجتمعاتهم والموجودين في خط المواجهة أمام قوى التخلف والاستبداد.


من المؤسف القول ان اللوم يقع في معظمه على الناخب العراقي نفسه والذي غالباً ما يتحجج بأنه لا يريد ان (يغرّد خارج السرب) ويفضّل أن يترك مسألة الخروج عن المألوف لمن هو أقوى منه وأكثر نفوذاً وهيمنة، وربما هو محق في تردده خصوصاً في مجتمع ما تزال تهيمن عليه قوى وتيارات عرفت كيف ومتى ولأية غاية تحرك الافراد ضمن مسارات وإطارات تخدم مصالحها ولا تهددها بأي شكل من الأشكال مستفيدة من موروث غير قابل للجدل علانية على الأقل، ومن منظومة قواعد أضفت عليها شرعية التقاليد وقدسيةً لا يجوز المساس بها.


وفي هذه اللحظات الحرجة التي يمر بها المجتمع العراقي والمؤثرة في تقرير مستقبله لأعوام مقبلة يتعين على الناخب العراقي أن يدرك قبل فوات الأوان أن أي تلكؤٍ من جانبه في استرداد حقه في حرية الاختيار وتردده حتى في التعبير عن ذلك مع نفسه ومع أمثاله من الطامحين لكسر تلك القيود وتحقيق تغيير شامل في قواعد ومفاهيم الانتماء للمجتمع، ستتبدّد جميع أحلامه وتطلعاته في بناء عراق مزدهر ولن تتحقق الرغبة المشروعة في تكوين وإنماء علاقات اجتماعية متطورة أساسُها إحترام الفرد لشخصه وصيانة حرياته الاساسية.. علاقات تغيب عنها نزعات الهيمنة والاستبداد والعصبية الدينية والمذهبية والقومية والعشائرية الناخرة للنسيج الاجتماعي.
أيام وساعات تفصل بين واقع سياسي واجتماعي أثبتت السنوات الماضية عجزه التام عن الحركة نحو الأمام ومرفوض من جانب شرائح اجتماعية واسعة من المتنورين والمجددين ودعاة التغيير.. وبين واقع جديد يضع البلاد والمجتمع على أعتاب مرحلة تسود فيها قيم الحرية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطات ويحتل فيه المواطن المناسب المكان المناسب في مسؤولية الحكم والادارة والتنظيم في جميع الميادين.. وهذا الواقع الجديد لن يرى النور ما لم يمارس الناخبُ حريته في الاختيار ويرفض كل الضغوط والاملاءات والتهديدات ويقف بحزم وشجاعة ليمنح صوته بوعي وإقتناع لدعاة التغيير والحرية والديمقراطية، وبعكسه ستشهد البلاد سنوات عجاف أخرى تسودها الفوضى والفساد والتناحر والتخلف.

عبد الرحمن جميل