مفارقة الحكومة الدينية والديمقراطية في العراق
كيف ينظر المجتمع العراقي لرجل الدين؟ وهل هناك ملامح يمكن رسمها للعلاقة بين رجل الدين (شيخ، سيد، ملا، ميرزا، المومن، العالم..وغيرها من التسميات المتداولة على ألسن العراقيين) وبين الناس العراقيين على مختلف مشاربهم ومستوياتهم المعيشية؟ ثم، إلى أي مدى يمكن تلمس خطوط تلك الصورة (صورة رجل الدين) من خلال الأمثال الشعبية التي هي خلاصة لقناعات راسخة عامة لفكرة جمعية صيغت على شكل quot;حكمةquot; اجتماعية تقف خلفها قصة، تلخص تلك القصة عالما كاملا من الرؤى التي تجسد واقعا اجتماعيا معاشا.


quot;عامي وشاميquot; علم الاجتماع
المتتبع لكتابات أستاذنا في الاجتماع الدكتور علي الوردي يلحظ بوضوح أنه جعل الشخصية العراقية في كثير من قراءاته موضوعا للدراسة، الأمر الذي أفقد تلك القراءات الكثير من التركيز، ومن ثم دخول البحث في خلط القيم، والمفاهيم، والسلوكيات، والظواهر الاجتماعية ببعضها، تماما مثل من يأخذ الجسد البشري ككل ليدرسه مرة واحدة، من رأسه حتى أخمص قدمه، فيما يفترض بدارس الجسد البشري أن يتتبع مثلا الخلية وحدها، ثم أنواعها كل نوع على حدة ليتوصل إلى نتائج محددة لكل خلية، ما تركيبها، ما دورها، ما هي خصائص الجسد البشري الذي يحويها بشكل من الأشكال. أو أن يدرس عالم الاجتماع جسد المجتمع مركزا بحثه على نظام اجتماعي، أو عادة، أو عُرف.. مثلما يحدد الباحث الطبي بحثه في جهاز من الأجهزة الحيوية، كالجهاز العصبي، ابتداء من الخلية العصبية، وتركيبتها، وحتى دور ذلك الجهاز في نقل الإحساس بالألم، ومدى قدرة الأجهزة الأخرى على التناغم مع هذا الجهاز في الجسد البشري، وشيئا فشيئا يتم التوصل إلى فهم كامل لهذا الجهاز الحيوي، ومن ثم الارتقاء بقدراته لخدمة البشرية، أو وقايته من الأخطار أو الأمراض التي قد تصيبه، سواء بالعلاج النفسي أو الفيزيائي.
من هنا، أريد لنفسي، ولكل الباحثين في علم الاجتماع ألا يسلكوا مسلك المرحوم الوردي في دراسة المجتمع كله مرة واحدة، وبالنتيجة إطلاق أحكام استنتاجية كلية، لا تسهم في أكثر الحالات في استجلاء موضوع الدراسة، لا لأن الباحث لم يبذل الجهد الكافي، بل لأنه بذل جهده على موضوع واسع فضفاف فضاع الجهد هباء، بعدما اختلط quot;العامي بالشاميquot; كما يقول المثل الشعبي. ومن هنا، سأحاول في السطور التالية قراءة صورة رجل الدين (الملا، المومن، شيخ، سيد. كدلالات أفرزها المجتمع للإشارة إلى طبقة رجال الدين.) في المجتمع العراقي.

دراسة المجتمعات من خلال أمثالها

تشكل أمثال الشعوب مادة غنية لدراسة المجتمعات التي صنعتها وتداولتها في اليومي من التعاملات والسلوكيات الاجتماعية كمسلمات أحيانا. ويستطيع عالم الاجتماع أن يتكئ على الأمثال كمراجع اجتماعية لأية قراءة يقوم بها من أجل دراسة هذه الظاهرة الاجتماعية أو تلك، أو من أجل تحديد الموقف الاجتماعي العام لشعب من الشعوب من الحياة، أو الموت، أو من المرأة، من العجائز، من سود البشرة، من الحكمة، من اللواط، السرقة، من التسامح، ومن طبقة التجار البخلاء، أو سائقي سيارات الأجرة، أو من جنود المشاة، أو من حاملي شهادات الدكتوراه، وما إلى ذلك من مفردات الثقافة الاجتماعية التي لا تخطيء في الأغلب.
ومن هنا ارتأيت، أيضا، أن أقارب الظاهرة الدينية في إدارة الدولة العراقية بعد عام 2003، الظاهرة التي أعدها غريبة نوعا ما على المجتمع العراقي، والتي استبق ظهورها وزير الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قبل الانتخابات العراقية الماضية بقوله: quot; إن الانتخابات العراقية ستأتي بحكومة جهاديةquot;. وها نحن وخلال فترة ليست بالقصيرة نحيا هذه الظاهرة شئنا أم أبينا. ولعل الكثير منا يدرك المفارقة التالية. دولة تعمل بالديمقراطية ويسير أمورها نظام ليبرالي علماني كالولايات المتحدة، تطيح بالحكم الديكتاتوري لصدام حسين، لتكون النتيجة حكومة إسلامية، ابتداء من الدستور الذي اعتبر الإسلام مصدرا أساسيا للتشريع، وميز رجال الدين quot;الرموز الدينيةquot; عن باقي طبقات المجتمع، لمن يقول بالطبقية، وليس انتهاء، بإبقاء البرلمان العراقي وبدعوة من الأكراد العراقيين عبارة quot;الله أكبرquot; التي أضافها صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية للعلم العراقي.

مظانّ العمائم
لقد أسفرت الانتخابات البرلمانية العراقية عام 2005 بما اعتراها من تدخل رجال الدين في تحديد الكثير من مساراتها، وإدخال الكثير من الأحزاب الفتية منها والقديمة رموزا دينية كان أبرزها الضغوط التي مارستها quot;الحوزة الدينيةquot; في محافظة النجف من الدعوة المباشرة لقائمة الائتلاف العراقي الموحد تارة، والدعوة غير المباشرة لها تارة أخرى، حيث تزامنت تلك الدعوات مع quot;تهجمquot; أحد ضيوف قناة الجزيرة على المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، الأمر الذي استغله المرشحون في قائمة الائتلاف استغلالا كبير. لقد أسفرت تلك الانتخابات عن وصول أعداد كبيرة من المعممين إلى الواجهة الإدارية للدولة. وسواء كانت تلك العمائم سنية أو شيعية أو عريبة أو كردية، فإن هذا المشهد يعد ظاهرة غريبة في التحول الإداري والاجتماعي العراقي، حيث لم يسبق أن شهد بلد عربي، أو شرق أوسطي بمثل ظروف العراق أن وصل فيه هذا العدد الكبير من المعممين إلى المناصب الإدارية في الدولة، أللهم إلا في الدولة العثمانية التي كانت العمامة أقرب إلى الزي الإجتماعي منها إلى الزي الديني. إن ما يزيد من غرابة المشهد أمام أعين العراقيين أولا وأمام العرب والغربيين ثانيا هو أن التحول الإدراي في العراق جاء بواسطة قرار الإدارة الأميركية من quot;تحرير العراقquot; وما رافق ذلك من ترقب وصول حكومة ديمقراطية مدنية quot;علمانيةquot; أقل ما سيقال فيها أنها quot;معتدلةquot; ليبراليا، لا تحاول إقصاء الآخر الديني، إلا أن الأمور سارت باتجاه مختلف تماما، حتى بات رجال مثل الشريف علي بن الحسين، وأحمد الجلبي، وإياد علاوي غرباء في خضم العمائم التي وصلت إلى إدارة الدولة العراقية بعد غزو 2003.
العمائم التي لم تكن ترى إلا في المساجد والحسينيات، والمآتم أو في عقد القران (حديث آخر عن تولي المعممين شؤون الزواج) أما اليوم فباتت ترى يوميا في مظان غير مظانها.

quot;المومنquot; في الأمثال الشعبية
على الرغم من أن ثمة مثلا عراقيا طاغيا يقول: quot;ذبها بركَبة عالم، واطلع منها سالمquot; تبدو تسليما اجتماعيا بضرورة ترك خوض الأمور المعقدة للعلماء لحلها، إلا أن هذا المثل يحمل في دلالته اتكالية وهروبا من القيام بالامور المهمة، لأننا نجد صورة رجل الدين quot;المومنquot; في الأمثال العراقية صورة مرضية في الغالب، فهو نهاز للفرص تارة، وموارب تارة أخرى، وشحيح مرة، واستغلالي غير واضح مرة أخرى، وهو إلى كل ذلك يريد أن يتصدر المجلس كما يقال.
quot;مثل مومن أبو الخصيبquot; وهي إشارة إلى من يدعو الناس للمعروف ولا يعمل به أو ينهاهم عن المنكر ولا ينتهي عنه، لكنني هنا أورد رواية أخرى قراتها لكاتب اسمه سعد العمري حيث يورد القصة التالية كالآتي: quot; كانت أبو الخصيب قرية صغيرة في محافظة البصرة وكان أهلها من البسطاء وكان فيها شيخ معمم يطلق عليه ـ المومن ـ يقرأ لأهلها منذ أكثر من ثلاثين سنة في مجالس العزاء وفي أيام عاشوراء وحتى في أيام رمضان وكانوا يجمعون له الأموال ويوفرون له ما يريد حتى إنه أصبح من الأثرياء فيها.. وفي أحدى السنوات ذهب أحد شباب القرية للدراسة في الحوزة العلمية في النجف الاشرف واندهش للفرق الشاسع بين ما يقوله ( مومنهم ) وبين ما يتعلمه في النجف على أيدي العلماء ورجال الفقه، وعرف أن ( المومن ) كان يستغل عقولهم ويتحدث بما لا يمت للدين بصلة، وبعد عام من الدراسة عاد لقريته فحضر أحد مجالس ( المومن ) وبعد انتهاء المجلس نهض الشاب وقال مخاطبا ً ( المومن ): يا شيخنا أن ما قلته في مجلسك كان خطأ ً!! إنتفض ( المومن ) وقال له: أتعلمني أصول الدين؟ يعني رحت سنة وأجيت تصورت نفسك أحسن مني!!! ولأن هذا ( المومن ) كان خبيرا ً في مهنته!! ويعرف كل دروبها فقد قال للشاب: على العموم وكي أبرهن للناس أني أفضل منك، تعال غدا ً للمناظرة معي أمام الناس ليعرفوا من صاحب الحق!! قبل الشاب بما طرحه الـ ( مومن ) وجاء في اليوم الثاني لمناظرته، وسمع أهل القرية بهذا الحدث لذا حضر الجميع ولم يتغيب أحد كي لا تفوته مشاهدة هذه المباراة في الدين ndash; وربما لكسب الثواب! ndash; جلس الشاب قبالة ( المومن ) وتجمع الجميع حولهما ليستمعوا، فقال المومن للشاب: عمي أسمع، أنا أكبر منك في العمر فلا ضرر إن بدأت أنا أولا ً بطرح السؤال؟ قال الشاب: تفضل شيخنا لا مانع من أن تكون أنت الأول.. قال المومن: أنا أسألك سؤال، هل قرأت القرآن الكريم؟ قال الشاب: نعم. قال المومن: هل أنت متأكد من ذلك، يعني هل تعرف كل سور القرآن؟ فرد الشاب: نعم، أنا متأكد من أني قرأت القرآن وأعرف كل سوره.. سأله المومن: حسنا ً، إذا كنت قد قرأت القرآن فأني أسألك هل نزلت آية أو سورة باسم الإمام الحسين عليه السلام؟ قال الشاب: كلا، لا توجد آية أو سورة تحمل أسم الإمام الحسين عليه السلام.. قال المومن مخاطبا ً الجميع: هل سمعتم جوابه؟ رد الجميع بصوت واحد: نعم سمعنا الجواب.. ثم أردف الشيخ سؤالا ً آخر: حسنا ً، وهل نزلت سورة أو آية بأسم البقرة ndash; يعني الهايشة!!!! ـ رد الشاب واثقا ً من نفسه: نعم نزلت سورة باسم البقرة.. هنا وقف المومن وصاح بأعلى صوته مخاطبا ً أبناء القرية: الله اكبر.. الله أكبر، هل سمعتم جواب هذا الكافر!! يقول نزلت آية باسم البقرة ولم تنزل باسم الحسين عليه السلام.. الله أكبر!! نهض الجميع وهم يرددون: الله أكبر ويشيرون للشاب ويقولون أقتلوا هذا الكافر.. هرب الشاب من قريته، وبقي فيها من يستغل عقول السذج ويلقنهم بما يتماشى مع أهوائه وميوله وأطماعه!! أنا في سردي لهذه الحكاية لا أقصد الإساءة للمؤمنين المصلحين من أبناء هذا الوطن الذين أخذوا على عاتقهم ومنذ الوهلة الأولى لسقوط البعث الحفاظ على وحدة هذا البلد وفضح الظواهر السلبية وإصلاحها وكشف مخططات البعث القذرة وإنما كان المراد بيان الوسائل والأساليب التي يتبعها البعثيون اليوم واستغلالهم للبسطاء وتمرير مخططات تهدف إلى زعزعة أمن البلاد مستندين على حقدهم الدفين على أبناء العراق وحلمهم النتن في سلب الأخلاق وقيم الخير من نفوس العراقيين والقضاء على أصالة هذا الشعب وعشقه الأزلي للحبيبة ـ الوطنquot; انتهى الاقتباس.


أما المثل العراقي الآخر فهو quot;جفيان الشر ملا عليويquot; أي إبعاداً للشر يا ملا عليوي (تصغير علي). حيث تذكر القصة أن امرأة تدعى عليّة ظلت تلح على زوجها الفلاح الفقير أن يصبح quot;ملاquot; من أجل الحصول على حياة مرفهة كما يعيشها quot;الموامنةquot;، وبعد الحاح الزوجة ورفض الزوج المتكرر خطرت للزوجين فكرة أن تصبح علية quot;ملاquot; وكان أن لبست المرأة عمتها ولحيتها وشاربها المستعارين وصارت تدعى quot;ملا عليويquot;. جاء الرجل إلى القرية وراح يحض الناس البسطاء مثله على القبول بملا عليوي بديلا عن ملا القرية المزمن، فوافق الناس على ذلك، إلا أن ملا القرية لم ترقه الفكرة، وأدرك بحدسه ومكره أن ملا عليوي امرأة، فقرر أن يأخذها معه إلى بيته، بحجة أن ملا القرية يدعو ملا عليوي إلى المبيت عنده. فأسقط بين يدي الزوج المسكين الذي لم يحر جوابا، فلا هو يستطيع أن يفضح سره عن امرأته ويلحقه العار في القرية، ولا هو قادر على ترك امرأته تذهب مع quot;الملاquot; إلى المبيت عنده، وظل يجر بامرأته، أي quot;بملا عليويquot; وهو يرددquot;جفيان الشر ملا عليويquot; أي لنكف الشر عنا، فذهبت أقواله أمثالا كما قالت العرب.


مثل عراقي آخر يقف على أخلاق quot;الموامنة، وهو quot;يعرف ويحرفquot; أو أعرف واحرفquot; ومفاده أن quot;مومناquot; طمع بامرأة أحد الفلاحين البسطاء وأراد أن ينكحها، فتوسل إلى ذلك وسيلة شيطانية، حيث استغل فرصة ذهاب زوجها للتبول في الخلاء ففاجأه قائلا: أنت تبول على القبلة، أي باتجاه القبلة، مرتك طالق منك. وبالفعل استجاب الفلاح المسكين لإجراءات المومن في الطلاق، ليتزوجها المومن رغما عن الفلاح وعياله المساكين. بقي الفلاح يتحين الفرص فكان أن وجد المومن يبول في يوم من الأيام باتجاه القبلة، فهرع المسكين نحوه قائلا، إنت هم مرتك طالق منك مولانا، فأجاب المومن وابتسامة السخرية على وجهه: إي أنا أعرف وأحرف، أي أنا أعرف هذا التشريع، لذلك فأنا أحرف رأس ذكري عن اتجاه القبلة.


الأمثال هنا كثيرة، لكنني أكتفي بذكر مثل آخر يشير إلى جشع quot;الموامنة، وهو quot;طمع سادةquot; أي طمع المنتسبين إلى السادة. أما السياقات الأخرى قد تأتي على غير الامثال ومنها أن مومنا سقط في البئر فلم يفلح الناس بإخراجه لأنه امتنع عن مد يده إليهم، إلا أن عارفا بهوى المومنين قال له quot;اخذ إيدي مولاناquot; فمد الرجل يده عندها. ومثله أن جلاداً في سجن أبو غريب، أيام البعثيين، كان يتلذذ بتعذيب أحد السجناء السياسيين، ولم تفلح صرخات السجين ولا دعواته في إيقاف الجلاد عن الجلد: قال السجين quot;دخيل اللهquot;، فلم يتوقف وربما سب كل المقدسات، فقال السجين quot;دخيل صدام حسينquot;، فسب الجلاد صدام حسين، فما كان من الرجل إلا أن قال: quot;دخيل جدكquot; أي رسول الله عليه السلام، فتوقف الجلاد فزعا وهو يسأل، ومن أعلمك أنني quot;سيدquot; فقال: quot;ما يدك هذا الدك إلا سيدquot;. أي ما يجلد بهذه الطريقة الوحشية إلا سيد.


نبوءة أم طبيعة إنسانية
تذكر التفاسير في تطرقها للآية القرآنية quot; وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّجَرَةَ ٱلْمَلْعُونَةَ فِي ٱلقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراًquot; سورة الإسراء، الآية 60. قال الزمخشري (ت538 هـ) في تفسير الكشاف: quot;وقيل: رأى [النبي محمد] في المنام أن ولد الحكم يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرةquot;. وقال الرازي (ت 606) في تفسيره مفاتيح الغيب (التفسير الكبير): quot;قال سعيد بن المسيب رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك، وهذا قول ابن عباس في رواية عطاء والإشكال المذكور عائد فيه لأن هذه الآية مكية وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة منبر، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لا يبعد أن يرى بمكة أن له بالمدينة منبراً يتداوله بنو أميةquot;. أما القرطبي (ت 7) في تفسير الجامع لأحكام القرآن فيقول: quot;إنه عليه السلام رأى في المنام بني مروان يَنْزُون على منبره نَزْوَ القردَة، فساءه ذلك فقيل: إنما هي الدنيا أعطوها، فسُرِّيَ عنه، وما كان له بمكة منبر ولكنه يجوز أن يرى بمكة رؤيا المنبر بالمدينةquot;.


وتكاد بقية التفاسير تدور في فلك أمهات التفاسير التي أوردناها، والجامع لها كلها هو أن رسول الله محمد عليه السلام رأى في منامه قردة ينزون على منبره أو أشخاصا فسرهم بالقردة، ودلالة ذلك واضحة هي أن نبوءته بأن هناك من سيخلفه على منبره، ومن يحاول أن يحل محله على سدة الحكم (المنبر) ويصبح في محله، ويستخدم صلاحياته الدنيوية والدينية (الرسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم)، لكن هؤلاء الذين سيخلفونه ليسوا بأهل لأن يعتموا بعمامته أو يرتقوا منبره عليه السلام.


بالعودة إلى ظاهرة وصول المعممين quot;الموامنةquot; إلى سدة الحكم حيث صار المشهد الغريب على العراق مألوفا من أن نرى معممين في البرلمان العراقي، في الحكومة العراقية، في الحكومات المحلية، بات الشعب العراقي في حيرة من أمره، متسائلا عن المكان المناسب لهؤلاء الرجال، لماذا لا يراهم في quot;مسطر العمالquot;، في المخابز، في المعامل، لماذا لايراهم إلا في سدة الحكم، ألم يكن الخلفاء الراشدون والذين تبعوهم بإحسان يتجولون في الأسواق، وربما رفعوا القمامة، وإماطة الأذى من الطرقات في مكة، أو شاركوا في بيع التمر في أسواق الكوفة. ومن هنا برزت بعض quot;النكاتquot; والطرائف التي يتندر بها العراقيون على المعممين، وبإمكان المتتبع لهذه الظاهرة أن يستمع إلى ما يتداوله العامة على هواتفهم النقالة من نوادر ونكات، ولعل من أقساها وقعا على المعممين قصيدة المرحوم الشاعر رحيم المالكي حيث يعتبر quot;حسنة ملصquot; أشرف مِن كل مَن في الدولة قائلا: quot;ياهو المنج أشرف حتى أشكيلهquot; (من هو أشرف منك لاشتكي له) وهو استفهام انكاري، أي لا أحد. فيما يقول شاعر آخر بمعنى قريب جداquot; ثقْ، لو بالعراق يصير طوفان، ونبي الله نوح يرد علينا، يدوّر بالبشر ما يلكَا إنسان، ويصعد وحّدة وتمشي السفينةquot;.


ولوضع تلك الأمثال في سياقها، ولكي لا تستغل في غير محلها، يمكن القول أن من الواضح أن تلك الأمثال التي تندد بشخصية quot;المومنquot; صنعها المجتمع في وقت عصيب، ردا على واقع مزر كان رجل الدين آنذاك يستغله لتعبيد المجتمع واستغفاله والضحك عليه، ولعل نموذج quot;وعاظ السلاطينquot; الذي ذكره استاذنا علي الوردي كان واحدا من تلك النماذج التي أذاقت العراقيين الأمرين، حيث كان quot;المومنquot; عونا للأمير، الخليفة، الحاكم، الاقطاعي، ضد الناس الكادحين الذين لا يجدون قوت يومهم. أما في التاريخ المعاصر، فإنني رأيت خلال تعقبي لحركة المجتمع العراقي نحو رجل الدين، واستقصائي للفترة التي بدأ فيها رجل الشارع العراقي ينتقد quot;بعضاquot; من quot;الموامنةquot; رجال الدين علانية، أن آية الله السيد الشهيد محمد صادق الصدر رحمه الله، هو الذي فتح الباب واسعا مجددا لانتقاد quot;فئة بعينهاquot; من quot;الموامنةquot; الذين لم يشأ رحمه الله تسميتهم بالشياطين لكنه اكتفى بصفتهم حين قسّم الحوزة الدينية إلى قسمين quot;حوزة ناطقة، وحوزة صامتةquot;، حيث يروى عنه أنه لم يكن يداهن أو يماري في إعلان رفضه لتك quot;الفئةquot; التي كانت ترى الشعب العراقي يقتل، ويذبح، ويهجر وهي quot;ساكته عن الحقquot; صامتة امام ما يجري. ولذلك كان الرد العراقي على ذلك اجتماعيا، كما كان رد الصدر دينيا ثقافيا.


الرد الاجتماعي
لقد كتب جدنا الجاحظ رضوان الله عليه كتاب quot;البخلاءquot; لأن الدين الإسلامي الذي توعد البخلاء بالنار والحديد يوم القيامة، تركهم في الحياة الدنيا دون عقوبة، فأراد الجاحظ أن يقتص من هذه الطبقة الفاسدة اجتماعيا، وأن يحط من قدرهم لأنهم لا يساهمون بما يملكون من مال في بناء المجتمع، بل إنهم يضيقون على أنفسهم لكيلا يوظفوا تلك الأموال في مشاريع تصب في خدمتهم أولا، وفي تشغيل العاطلين عن العمل ثانيا. ومثل هذا يلجأ المجتمع، كل مجتمع حي، إلى السخرية ممن يكونون عالة عليه، لا يجلبون للمجتمع إلا العار. سواء كانوا طبقة التجار البخلاء، أو طبقة رجال الدين الانتهازيين، أو غيرهم ممن يشكلون ظاهرة اجتماعية منبوذة. إلا أن الأمثال مثلها مثل الحكم، والأشعار، وأدوات الحياة، لا تحيا وتواصل الحياة إلا ما دامت تخدم المجتمع quot;أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرضquot; قران كريم.


لقد سمعت في السنوات الخمس الأخيرة من كثير من العراقيين تهكما كبيرا من أفعال رجال الدين، يمكنني أن أعتبر ذلك بمثابة النار تحت الرماد، ولعل الأيام القادمة ستشهد وضوح صورة quot;المومنquot; في مخيلة العراقيين، ولعلها ستشهد أيضا بلوغ سيل النقمة والسخرية زبى الأفواه، وسيتناقل العراقيون أمثالا تشبه تلك التي رددها أجدادهم يوما ما حين كان quot;المومنquot; يأكل من خيراتهم، ويتفرج على مآتمهم.


إلا أنه تجدر الإشارة هنا، إلى أن المجتمع العراقي في الوقت عينه يكن احتراما كبيرا للدين، ولرجل الدين، لكنه من خلال تلك الأمثال إنما يطمح لأن يرى في رجل الدين صورة أخرى للإمام علي بن أبي طالب، على حد تعبير علي الوردي. وهو في الوقت الذي ينتقد quot;المومنquot;، إنما ينتقد تلك الفئة التي تحاول التستر بلبوس الدين للوصول إلى مآربها الدنيئة، تلك الفئة من quot;اللصوص المعممينquot; على حد وصف أحد الفقهاء الشيعة، الذي استمع لشكوى أحدهم quot;أن بعض المعممين يسرقونquot; فأجابه quot;هؤلاء ليسوا معممين لصوص، وإنما لصوص معممونquot;.


إن أكبر سرقات العالم حسب تقديري وقعت في العراق، خلال السنوات الماضية، ومن سوء حظ الموامنة أنها وللأسف وقعت حين كان بعضهم على سدة السلطة، فلا عجب أن يربط الفرد العراقي بين العمة، وبين السرقة. يروى أن quot;مومناquot; دعي إلى مأدبة فكانت قطعة اللحم في وسط القصعة، فأخذ quot;المومنquot; يجرف quot;التمنquot; من تحتها حتى انجرفت إلى جهته فأنشأ قائلا: quot;عرف الخيرُ أهله فتقدماquot; فأجابه رجل من quot;العوامquot; لا بل quot;كثر النبشُ فتهدماquot;. وللحديث بقية.

ناصر الحجاج

شاعر وباحث عراقي