في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، حينما غادرت بلدي العراق، كانت المحال التجارية والأزقة والشوارع والمقاهي والفنادق في معظم مدن الوسط والجنوب وحتى كـُردستان تكاد تختنق بملايين الوافدين المصريين ( قيل أن عددهم بلغ فيما بعد خمسة ملايين! ) الذين فتح النظام السابق أبواب العراق على مصراعيها أمامهم في محاولة منه لتغيير الواقع السكاني في البلاد، مثلما يتكرر الآن في البحرين. كان العديد من هؤلاء الإخوة باحثين جادين وكادحين عن فرص عمل وحياة أفضل، شأنهم شأن غيرهم من الناس في كل زمان ومكان، ولكن كان العديد منهم أيضا مستقدمين من قبل النظام المقبور للعمل في الأجهزة الأمنية والمخابرات بتنسيق مباشر بينه وبين الحكم المصري الحالي، بزعامة الرئيس حسني مبارك نفسه، الذي تحول من شريك وحليف ضمن مايسمى بـ quot; الإتحاد العربي quot; الذي أقيم أثناء الحرب العراقية الإيرانية بين بغداد والقاهرة وعمّان، إلى مجرد علكة على لسان الرئيس العراقي المعدوم السابق تدعى quot; حسني الخفيف quot; وذلك عندما دعمت القاهرة القوات الأميركية أثناء حرب استعادة الكويت مطلع العام 1991.
كان الوضع طاحنا ً للأعصاب بشكل فظيع. إذ بينما كان يعيش نصف إجمالي عدد العراقيين تقريبا ً تحت خط الفقر، ولايجد الكثير من الخريجين وظيفة جاهزة ( شخصيا ً خضت غمار العديد من المقابلات وتحملت الكثير من الإهانات قبل الفوز بوظيفة متواضعة ) كان الأخ المصري يأتي على بساط الريح ليجد أفضل الوظائف الحكومية في انتظاره، أما الأعمال الخاصة فله الأفضلية في الإستخدام وفق قرارات حكومية حازمة تدعمها سلطات الأمن الوحشية المسلحة بالفكر الشوفيني. ليس هذا فحسب، بل إن خدمة الزميلين الزراعيين المصريين الوافدين جودة محمد علي ووديع ميخائيل في بلدهما والبالغة ndash; حينئذ ٍ ndash; أكثر من عشرة أعوام ونيف تم احتسابها لهما لأغراض الراتب والتقاعد فبلغ راتباهما أضعاف رواتبنا نحن المواطنين المساكين. وكانت نكتة كبيرة وطويلة وممتدة لم يشهد لها مثيلا أي بلد تديره حكومة عاقلة. ففي العديد من لغات العالم الحية ثمة مثل يقول: مايحتاجه المنزل يحرم على الجامع. ولو كان العراقيون شبعانين لهان الأمر ولكن على من يقرأ مزاميره داود، إذ متى كان معتنقو الفكر الشوفيني الضيق ذوي عقل وحكمة وفطنة!
في تلك الأيام السوداء التي أدعو الله أن يبعد عراق اليوم عن ظلالها القاتمة رغم بعدي عن الوطن وعدم وجود ضرر مباشر يلحقني جراء أية سياسة خرقاء لأية حكومة فيه، شاعت قصة لا أعرف مدى واقعيتها، تقول إن موظفا مصريا وافدا كان يعمل محاسبا في مصرف الرافدين الحكومي لم يداوم في محل عمله ذات يوم، وحينما روجعت الحسابات اتضح أنه سرق مبلغا ً طائلا ً من خزينة المصرف، ولم يترك في درج مكتبه سوى قصاصة ورق صغيرة كتب عليها: نفط العرب للعرب.. وقد أخذت حصتي منه!
الوضع تغير اليوم في العراق بالتأكيد، ولم يعد العراقيون مضطرين ndash; كما كانوا خلال العهود الشوفينية منذ 1963 وحتى 2003 ndash; إلى الهتاف حتى في مواكبهم الحسينية: والله ابتلينا بها العصر.. أموالنا تروح المصر! الوضع تغير ولا نقاش في ذلك، فالعراق الحالي دولة ديمقراطية ( بل أفضل ديمقراطية في المنطقة على الإطلاق ) والقول الأول والأخير هو للناخب والمقترع والإنسان الواعي العادي، الذي يختار لحكمه وإدارة شؤون حياته من يجده الأقرب إلى نبضه اليومي وطموحاته اللصيقة بواقعه المعاش، وقد شهدنا ذلك بوضوح تام في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي اختار العراقيون خلالها نوابهم المحليين بعناية ودقة بشكل ربما يكاد يرقى إلى مستوى ماأشهده هنا في بريطانيا أم الديمقراطية ومهد الإختيار الحر والواعي، لكن هل يكفي كل ذلك للركون إلى الراحة وعدم تنبيه المسؤولين في البلاد إلى أهمية إعادة تقييم العلاقات مع الدول الأجنبية على ضوء تعاملها مع العراقيين؟
مناسبة هذا الكلام، مانسمعه على ألسن بعض المسؤولين العراقيين من مختلف الدرجات والإختصاصات والمستويات حول الإستعانة بالخبرات المصرية لإعادة بناء العراق، رغم البطالة التي تكاد أن تفتك بمئات الآلاف من شبابنا وكوادرنا وطاقاتنا الوطنية وتورثهم الكآبة أو تدفعهم إلى التفكير بالهجرة إلى أوروبا وأميركا اللتين تعانيان أصلا من ركود اقتصادي ومعدلات عالية للبطالة. فمرة يقول الوزير الفلاني إنه في صدد استيراد مليون عامل أو فلاح مصري، بينما يعاني عمالنا وفلاحونا من البطالة المستشرية وتسبخ الأراضي وعدم وجود خطط زراعية ناجعة. ومرة يقول المسؤول العلاني إنه سيتعاقد لاستيراد أساتذة جامعيين من مصر، بينما يوجد على مقربة من مكتبه مئات الأساتذة الجامعيين العراقيين الذين يتوقون إلى خدمة بلدهم ويخشون نسيان ماصرفوا أثمن سنيّ أعمارهم لتحصيله من علوم وخبرات. ولماذا تذهبون بعيدا يا مسؤولو بغداد وهاهم مواطنوكم العراقيون المتخرجون من أفضل الجامعات الأوروبية رهن إشارتكم للتعاقد وخدمة بلدهم؟
أغرب ماقرأته مؤخرا أن السيد فخري كريم زنكنة صاحب مكتبة وجريدة المدى التقى في القاهرة وزير التعليم العالي المصري وبحث معه سبل الإستفادة من الخبرات الجامعية المصرية لإعادة بناء العراق!
هذا الخبر الطريف لم تنشره مجلتا quot; الفكاهة quot; و quot; المتفرج quot; العريقتان!
العراقيون يهانون في مطار القاهرة هذه الأيام ويعادون إلى البلدان التي قدموا منها على نفس طائراتهم بدون تقديم تفسير مقبول، وهذا لعمري مبرر أكثر من مقنع لإعادة النظر في العلاقات العراقية المصرية، والمبادرة إلى تقييمها بشكل واقعي يتجاوز العواطف والأغاني الرومانسية وحكايات الشقيقة الكبرى التي تحولت إلى صداع دائم لانهاية له!
علاء الزيدي
التعليقات