بغداد تنهض من رمادها

الطريق إلى بغداد طويلة دائما، شاقة ومليئة بالمفاجآت. لا يصل المرء إلى بغداد مباشرة لأنه يحتاج إلى محطة قريبة منها كي يتزود بالصبر والتجمل وبعض التعاويذ إذا تطلب الأمر لان بغداد لم تعد تشبه المدن الأخرى. ينبغي على زائر المدينة إن يمر ببيروت أو دمشق، الكويت أو اسطنبول قبل إن يدخل من احد المنافذ التي أصبحت ألان كثيرة بفضل السيد الأمريكي الذي فتحها أمام الجميع وغادر مبكرا. تقلع الطائرة من مطار أمستردام لتحط في لندن ومن ثم إلى الكويت. انتظار وضياع وقت ولكنه محتمل إلى حد ما غير إن المشقة تبدأ عند الطريق البرية من الكويت إلى البصرة ومن البصرة إلى بغداد. ما إن يدخل المرء الحدود العراقية حتى يحاصره الغبار والارتجال والفوضى، يتجلى ذلك بقوة في الحدود الكويتية العراقية في صفوان. كل شيء يدعو للرثاء، الغبار في كل مكان والوجوه كالحة بذقون كثة لكن غير متجهمة والملابس سوداء متربة في فضاء مسمم بالدخان والعوادم. لا يوجد عراقي لا يسعل، العراقيون متشابهون حتى في أمراضهم.


ما يخفف من كل ذلك إن التعامل مع القادمين من الكويت إلى البصرة سلس وعملية ختم الجوازات سريعة والتفتيش أسرع بحيث لا يتأخر المرء أكثر من خمس دقائق. أسئلة قليلة مختصرة لا تشبه التحقيق والأكثر أهمية من كل ذلك انك لا تخاف أو تتردد حين تجيب عن هذه الأسئلة العادية، شيء يشبه الإزعاج ولكن عندما تفكر به بعد ذلك تشعر انه لم يكن إزعاجا على الإطلاق بقدر ما هو استجابة ضرورية لظرف قيد التشكل. سوف يتكرر هذا الشعور بالإزعاج في السيطرات العسكرية الكثيرة المنتشرة في عموم البلاد والأسئلة التقليدية quot; من أين قادم والى أين ذاهب quot; ولأنني اختلف عن الجميع بشعري الأبيض الطويل كنت أطالب دائما بإبراز هويتي العراقية وكانت كلمة عربية باللهجة العراقية كافية للمرور من هذه السيطرات.

الوصول إلى مدينة بابل

تقطع السيارة quot;: جي أم سي quot; الأمريكية الطريق في ست ساعات متواصلة بين البصرة والحلة وبسرعة تصل إلى مئة وخمسين كيلومترا في الساعة. الطريق تبدو خالية في صحراء مترامية الأطراف يظهر فيها بين فترة وأخرى بدوي مع جماله القليلة وعلى مقربة من ذلك خيام كالحة صغيرة وواطئة وعدا هذه الأشياء القليلة الحية لا يرى المرء سوى الغبار طيلة هذه الساعات. الطريق الدولية التي تسلكها السيارات لا تمر في المدن إلا نادرا ما يجعلها موحشة قفراء وتوحي بالضياع خصوصا في مدينة الناصرية التي تبدو كما لو إن إعصارا مر بها ورؤية مساحة خضراء مهما كانت صغيرة تعيد الحياة إلى العابرين في هذا المكان. في مدخل مدينة الحلة يفاجأ المرء بصور ولافتات كثيرة تحتل كل المساحات المتاحة في الفضاء، أنها الانتخابات وهي مفاجأة أخرى كبيرة بحد ذاتها. هناك صور لأشخاص اعرفهم ومن بينهم أصدقاء كانوا في المنفى وآخرين لم يغادروا الوطن رشحوا أنفسهم احدهم زوج أختي فاجأتني صورته الكبيرة في مدخل احد الشوارع. قبل يوم واحد من الانتخابات عبرت الزوجة لزوجها وهو فنان تشكيلي صديق عن حيرتها في اختيار احد المرشحين الذين يملأون الساحة فقال لها انك تكرهين ارتداء العباءة، اختاري إذن من يجعلك تخلعينها. هكذا نجحت الأحزاب الليبرالية وتراجعت الأحزاب الدينية في هذه المدينة التي كان يطلق عليها في يوم ما موسكو الصغيرة.
أطرف ما حصل في هذه المدينة إن احد الأحزاب الدينية الكبيرة والمدعوم من جهات خارجية وشعاره الرئيس quot; معكم.. معكم quot; كان يستميل سكانها بالهبات، فقد وزع هذا الحزب على الناس أجهزة موبايل مع خمسين ألف دينار عراقي quot; 43 quot; دولارا مقابل القسم على القرآن الكريم بانتخاب قائمته. غير إن ما حصل إن هذا الحزب مني بخسارة فادحة وغير متوقعة ما حدا بعامل مقهى كان سجينا سياسيا إن يعلق بتهكم.. quot; انتخبوا مع قم.. مع قم quot; محرفا كلمة quot; معكم.. معكم quot;.

الوصول إلى مدينة أين؟

الطريق من الحلة إلى بغداد أصبح أكثر أمنا من السابق بما لا يقاس، وما كان يسمى بمثلث الموت أصبح في خبر كان بعد إن كلٌ المسلحون ووضعوا أيديهم في يد الحكومة مقابل أموال طائلة تكفل لهم عيشا كريما وباتوا يسمون بقوات الصحوة بدل تسمية المتمردين بعد إن انقلبوا على تنظيم القاعدة. الخبز سيد القوانين في العراق. لكن هذا لا يعني إن الأمور قد انتهت فهناك الكثير من المناطيد البيضاء التي تشهق في سماء بغداد مزودة بالكاميرات التي ترصد أدنى حركة للتمرد. قلنا في البداية إن الطريق إلى بغداد مليئة بالمفاجآت وهذا ما فاجأنا شخصيا عندما دخلنا إلى أول مدينة في بغداد، السيدية المعروفة عرقيا أنها مدينة سنية. أغلق الأمريكان المدن العراقية بالجدران العالية ووضعوا لكل مدينة مدخلين ومخرجين مع تفتيش جاد لكل داخل وخارج بأجهزة صغيرة لكشف المتفجرات. بالإضافة إلى تفتيش العربات هناك غرفتان صغيرتان لتفتيش المارة واحدة للنساء وأخرى للرجال وما إن ترجلت من السيارة حتى استوقفني شرطي شاب لتفتيشي، نظر إلي مليا وقال : quot; أستاذ ألست شاعرا أنا أعرفك، أنت غير خاضع للتفتيش، مع السلامة quot;. في كل مساء يتكرر هذا الأمر وأحيانا يطلب مني بعض الشرطة إن اقرأ لهم قصيدة لذلك قررت إن أحفظ بعضا من الشعر الشعبي العراقي لكي لا أبدو أمامهم شاعرا جاهلا.
في مساء أخر وكنت منتشيا قررت إن اسأل هذا الشرطي الشاب من أين له هذه المعرفة بشخصي وكانت المفاجأة اكبر مما كنت أتوقع. قال : quot; أنا من خريجي كلية التربية في بغداد قسم التاريخ ولم أجد فرصة للعمل كمدرس وحين أعلن عن الحاجة إلى متطوعين في الجيش والشرطة ابلغني خالي إن العمل في هذا المجال ليس عيبا وقدم لي مثلا عنك وقال إن لدي صديقا صحافيا وشاعرا يعمل في كراج النهضة وهو يبيع البيض في ساحة الطيران لذلك كنت أتابع كل ما تنشره وكانت صورتك حاضرة في ذهني طيلة الوقت quot;.

بغداد تعود

السعادة الحقيقية في شوارع بغداد هو خلوها من جنود الاحتلال وهذا هو احد أهم مظاهر الاستقرار الأمني الذي بدأت تنعم به المدينة لان وجودهم كان يصيب الناس بالتوتر والخوف، إما ألان فأن الناس يسيرون في الشوارع باسترخاء خصوصا وان الكثير من الجدران الكونكريتية قد أزيلت. شارع السعدون في قلب بغداد عاد مرة أخرى إلى الحياة بعد إن تم فتح بعض البارات لكن الازدحام في هذا الشارع لا يطاق وعبوره يعد معجزة لعدم وجود أماكن للعبور وإشارات المرور لا تعمل. إما شارع أبي نؤاس الذي كان يستقبل البغداديين في كل مساء فبدأ ينتعش هو الآخر لكنه خسر امتيازه في بيع السمك المزكوف بعد إن بقي مغلقا طيلة هذه السنوات واخذ الناس يسكفون quot; يشوون quot; السمك في كل مكان لكن بدون تلك النكهة القريبة من دجلة.
انتخاب مجالس المحافظات الذي تم أخيرا بدون حوادث تذكر دليل قوي على التحسن الأمني في العراق وقد أماط اللثام عن قدرة العراقيين في حماية بلدهم عن طريق اختيار ممثليهم في أول تجربة ديمقراطية في هذا البلد. تراجع الأحزاب الدينية وصعود القوى الليبرالية والمدنية سيسرع في عملية الانسجام ويقضي على التباغض الطائفي وأفضل دليل على ذلك إن الكثير من القوائم الانتخابية تضم مرشحين من مختلف الطوائف والقوميات. في الزيارات الماضية كنت تسمع العراقيين يقولون إن كل يوم يمر هو أفضل من اليوم القادم لكن المعادلة تغيرت ألان وأصبح العكس هو الصحيح quot; كل يوم قادم أفضل من اليوم الماضي quot;.

المالكي يعول على المثقفين

خلال فترة قصيرة لا تتجاوز الشهر اجتمع المالكي ثلاث مرات مع عدد كبير من المثقفين وقال لهم بشكل صريح انه يعول عليهم كثيرا في تحقيق المصالحة الوطنية وان الثقافة بكل فروعها هي الطريق الوحيد للوصول إلى مجتمع مستقر وآمن. انه يعول أيضا على التبادل الثقافي بين العراق والعالم من اجل اعادة العراق إلى الواجهة. وقبل ذلك دعا المثقفين في الخارج إلى العودة إلى وطنهم والمساهمة في بنائه حين عقد مؤتمرا لهم في بغداد استقر بعده عدد كبير منهم بعد إن لمسوا الجدية التي صدرت عنه. المثقفون الذين قضوا فترات طويلة من حياتهم في أوربا ينتظرون بفارغ الصبر إن تتاح لهم الفرصة في بناء الثقافة العراقية الجديدة من خلال خبراتهم في البلدان التي عاشوا فيها بحرية وتعلموا منها الديمقراطية والتسامح.
المجلس الأعلى للثقافة يولد شيئا فشيئا وهناك أجندات كثيرة لتفعيل العمل الثقافي، بيت الشعر العراقي ينتظر إن يعلن عنه قريبا ويفكر القائمون عليه بأن يكون في كل عاصمة عربية بيتا للشعر العراقي يشكل مركزا ثقافيا للثقافة العربية التي غاب عنها العراق طويلا.

لوب توب وفانوس ونخل بلاستيكي

أشياء كثيرة تتغير في العراق اليوم لكن الكهرباء والنفط من الأشياء التي يبدو من العسير تغيير حالتها، ست ساعات في اليوم موزعة بين فترات مختلفة وأكثر الكلمات المتداولة حول الكهرباء هي كلمتا وطنية ومولدة. الوطنية تعني الطاقة التي تقدمها الدولة، إما المولدة فتعني الطاقة التي تقدمها المولدات الكهربائية الصغيرة والكبيرة المنتشرة في كل مكان في العراق والتي تعمل على البنزين المستورد من إيران والكويت وتركيا. يستورد العراق من إيران كل شيء حتى أدوات اللطم من سلاسل وأكفان وسيوف والأكثر إثارة للضحك إن يستورد العراق نخيلا بلاستيكيا يوضع على الأرصفة، حتى حجر الأرصفة يستورد منها.! بالمقابل يصر روائي عراقي شاب على إكمال روايته بكومبيوتر من نوع لوب توب ولكن على ضوء الفانوس.

المسيرات المليونية

في طريق العودة من مدينة الحلة إلى مدينة البصرة وهي مسافة تصل إلى ستمئة كيلومتر لم ينقطع تدفق أفواج الذاهبين إلى زيارة ضريح الإمام الحسين. رجال ونساء وأطفال وشيوخ وشبان كثيرون يرتدون الملابس السوداء وهم يحملون رايات مختلفة الألوان يندفعون إلى مدينة كربلاء وقد نصبت في الطريق الكثير من الخيام التي تقدم لهؤلاء الناس الماء والطعام. هناك أيضا سيارات بيك اب مزودة بكاميرات وسماعات تحث هؤلاء الناس على المسير قدما، اغلب الظن أنها تابعة لأحزاب إسلامية راديكالية فشلت في الانتخابات الأخيرة. الكثير من هؤلاء الزوار اشتروا خرافا صغيرة لكي يضحوا بها عند وصولهم إلى الضريح، هذه الخراف طليقة لكنها تتبع الناس إلى حتفها.

صلاح حسن