لايمكن على أي حال بروز قوى إجتماعية فاعلة و مستقلة أبداً على الساحة العراقية الراهنة طالما وجِد جشعاً حزبياً و آيديولوجياً ملحوظاً للسيطرة على كافة المنافذ الشعبية التي تريد أن تتبلور و تُنظم نفسها دون تدخل الدولة و الأحزاب السياسية في شؤونها.


المشكلة الأساسية في العراق، كما في الكثير من الدول العربية، هي أن الأحزاب لا سيما القوى السياسية القريبة من السلطة و النظام أو المشارِكة في الحكومة أو حتى العديد مما توصف بالأحزاب المعارضة، تلعب الآن دوراً سلبياً في عدة أمور ترتبط مباشرةً اليوم بإختبار مدى قوة المجتمع العراقي في ولادة قوى و حركات إجتماعية أو إنتاج إنماط جديدة من العلاقات الإجتماعية، التي يحتاجها العراق حالياً أكثر من أي وقت لتجاوز إصطفافاتها الطائفية التي طغت، كما هو الواقع، على جميع الأصعدة و على كافة الأوجه من وجوه النشاط الجماعي و الإجتماعي في البلد. و جوهر المشكلة الآن، برأيي، ليس في قبول الطائفية أم لا أو في الإعتراف بحقيقة مستوى التطور في المجتمع أم اللاإعتراف و التصميم على إرادة رفضه أو تغييره، و أنما يكمن في تجربة مريرة أكدت لنا أن هذه الإصطفاف و التمحور الطائفي لم يفرز لنا و ما يزال شيئاً سوى سياسات و عقول و ذهنيات دوغمائية متقوقعة في سباتها العقائدي و الآيديولوجي حرمت العراقيين حتى هذه اللحظة من ممارسة الديمقراطية و طقوسها بعقول مغايرة و مدنية و بالتالي رؤية قواسمهم المشتركة و تلاحمهم التاريخي و ترابطهم المصيري على وطن واحد، و الدليل هو أن أغلب الأحزاب أو التنظيمات السياسية الحالية في العراق بدل أن تكون إمتداداً أو عنصراً مكملاً لتركيبة نسيج المجتمع المدني العراقي الجديد الذي نطمحه جميعاً أو ندعوا اليه على الأقل على مستوى الخطاب و الشعارات، أصبحت ألآن، بعكس المنوال، مصادراً خطيرة لإستبعاد أو تدمير أية شروط تسهيلية لولادة مجتمع مغاير قائم على مفاهيم حديثة و عصرية. فالأحزاب السياسية، للأسف، التي هي أصلاً، من الناحية نظرية، تمثل في كل مجتمع ديمقراطي حقيقي جزءاً من تركيبة المجتمع المدني، تحولت عندنا في العراق الى بؤرة شمولية شاملة و خانقة تستقطب جميع الطاقات الإجتماعية و الثقافية في المجتمع في قوقعتها النزاعية عن طريق إغراءآت مادية و معيشية هي مشروطة سلفاً بتقديم كل جهة مُستَقطَبة تبعيتها أو ولاءها العمياء للحزب أو التنظيم السياسي، هذا فضلاً عن أن أغلب الأحزاب و القوى السياسية عندنا تسعى بكل الطرق و الوسائل المتاحة الى الأستحواذ التام على كافة الإرادات الحرة، الفردية منها و الجماعية، و المتطلعة دائماً في كل مجتمع الى الأستقلال و التنظيم الذاتي و عدم الذوبان في بوتقة الحزب أو التنظيم الذي يجعلها عادةً خاضعة تماماً لإرادته، و ذلك لإهداف واضحة المعالم أبرزها تشكيل هيكلية حزبية تكون أكثر توسعاً و إنتشاراً في ربوع المجتمع و بالتالي تنميط هذه الإرادات بأنماط آيديولوجية غير مستقلة و إعادة إنتاجها في أُطر إجتماعية مزيفة داخل أوساط شعبية سعياً وراء تكثيف نفوز الحزب أو تقوية هيبته و سلطته أو فرض الهيمنة على الجميع، و أعني هنا الهيمنة التي كان يطلقها المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي على روح التوسعية لأي حزب من الأحزاب التي من قبيل الأحزاب البلشفية أو على شاكلتها.


إذن علينا نحن العراقيين جميعاً هنا، مجتمعاً و دولة، بعد أن شخصنا مشكلة أخرى كبيرة من مشاكلنا الجمة، أن نقف بوجه هذه البادرة السيئة في ممارسة حياتنا الديمقراطية في العراق، و لكي نتخطى هذه الظاهرة الخطيرة التي تتمثل في حب السيطرة لدى الأحزاب و القوى السياسية على كافة البقع الإجتماعية التي لا تريد أن تكون جزءاً مكتملاً لهياكل الأحزاب و مساحاتها السلطوية التوسعية، و من أجل مساعدة جميع المؤسسات الحديثة النشئة و التأسيس على تحقيق مطامحهم المدنية و الديمقراطية و العصرية، ينبغي فوراً مراجعة كل حزب أو تيار أو تنظيم لسياساته التنظيمية و آلياته التي أعتمدتها حتى الآن لتوسيع دائرة نقوذه الآيديولوجي و الحزبي، و بالتالي التفكير في توسيع هوامش الحرية و تفعيل مطامح تشكيل نقابات و جمعيات و أندية و إتحادات إجتماعية و ثقافية مستقلة و من ثم الخضوع لمبدأ الأستقلال الإرادي و الفكري و الخطابي داخل الأوساط الأجتماعية و الثقافية في المجتمع العراقي دون أي تدخل يعرقل عملية ولادة بوادر تكويننا للمجتمع المدني المتحضر، القائم حتماً على قيم المعاصرة و المفاهيم العقلانية و الحقوقية التي ترتكز على مبدأ المواطنة و قيم العدالة الإجتماعية و فكرة تساوي الجميع أمام القانون و سياسة روح الوطنية و المواطنية.

عدالت عبـدالله