عقد في لندن قبل أيام مؤتمر من أجل الاستثمار، وأعمار العراق، حضره رئيس الوزراء نوري الملكي مع وفد كبير من المسؤولين والمستشارين!

يمكن القول إن مؤتمراً كهذا ينبغي أن يكون هو المنعطف النوعي والأساسي في العمل في العهد الجديد، وإن كل ما جرى من ترتيب واصطفاف سياسي أو أمني ولسنوات طويلة هو من أجله،فهو ليس مناورات ومباريات كلامية أتعبت آذان الناس وأصابتهم بالقرف والإحباط،بل هو خطة عمل مادية كبيرة صلبة تجعل العراق يترك ماضيه المثقل بالعوز والتخلف والشقاء والشعارات الخلابة ويدخل مستقبله الزاخر بنعم الحضارة والخير والازدهار!

لكن لا يسع المراقب إلا أن يقلق ويخشى أن يكون هذا المؤتمر كسابقاته من المؤتمرات المماثلة التي عقدت في الأردن وغيرها والتي اتخذت فيها قرارات وتوصيات وتعهدات مالية ومعنوية سخية ومثيرة للآمال ثم كان مآلها بعد أسابيع، وحتى أيام النسيان والتجاهل والصمت فكانت قبض ريح!

نتمنى أن يكون هذا المؤتمر شيئاً آخر، أو في الأقل يستفيد من العبر والدروس التي تستخلص من فشل أو طي أوراق المؤتمرات السابقة في الأدراج! بل ما الذي يمنع من فتح الأدراج القديمة جداً ودراسة تجارب مجلس اعمار العراق الذي كان في العهد الملكي مؤتمناً على النسبة الأعظم من موارد النفط فبنى بها معظم الهياكل التحتية الذي يقوم عليه الاقتصاد العراقي وحياة المجتمع العراقي بينما بعد إنهائه مع العهد الملكي تبدد معظم ما تحقق من موارد النفط على الحروب وأجهزة القمع والفساد وفوضى التخطيط وأمزجة الحاكمين وأتباعهم الفاسقين!

هنالك اليوم هيئة عليا للاستثمار يعمل فيها مختصون وخبراء عراقيون كبار،وقد مرت كما قيل بفترة مخاض صعبة حتى تم تشكيلها ومنحها فرصة الاستقرار والعمل، ومن السابق لأوانه الحكم على أدائها ومنجزها، ومن الأفضل الثقة بها ومنحها فرصة للعمل الكبير والجذري والأمل في أن تكون أهلاً لتطلع الشعب العراقي إليها إذ ستكون هي من يمنحه رغيف الخبز لا دخان التنور ولهبه وحسب!

قالوا أن ثمة غرفة عمليات في هيئة الاستثمار الوطنية قد فتحت وستبقى خافرة ساهرة على تنفيذ مقررات هذا المؤتمر وتطويرها وترسيخ منجزها وستكون مسؤولة عن تجسيدها على أرض العراق لا على الورق وشاشات الحاسوب فقط!

ولكن على هذه الهيئة مهام جسيمة: فهي لوحدها لا تستطيع تحقيق المرتجى والمنتظر منها! لا بد أن تكون معها الدولة كاملة بكافة أجهزتها وكوادرها والمجتمع بكافة قواه وتشكيلاته المدنية!

ماذا يجدي أن يقنع مستثمر إنجليزي أو فرنسي أو روسي أو صيني أو إماراتي وحتى عراقي غني مغترب بأن يأتي إلى العراق ويصطدم بجهاز الدولة البيروقراطي، أو تسفيه فئات من المجتمع وشكهم وريبتهم به أو حتى عدم منحه الأمان والطمأنينة الكافية؟

من هنا ينبغي إدراك أن الاستثمار والإعمار والبناء العام ليس قراراً يأتي من فوق، بل هو إرادة وطنية تنهض من أعماق المجتمع، وتقتضي مجهوداً فكرياً وأخلاقياً وروحياً كافياً!

ما يزال العراقيون يتصارعون في ميدان السياسة الهوجاء مبددين دماءهم وثرواتهم في مسارب العنف والفساد والفوضى واللامبالاة ممتثلين لإرادة هي غير إرادتهم،وقد آن لهم أن يتصارعوا بروح راقية في مضمار البناء المادي ويتنافسوا حول أحسن أداء في الصناعة و الزراعة والتجارة ممتثلين لإرادتهم ومسؤوليتهم نحو أنفسهم والأجيال القادمة!

من هنا يقتضي الاستثمار المادي استثمارً في الوعي والعقل العراقي!

أن يتغير الخطاب السياسي العراقي ليقف بالدرجة الأولى على مشروعه الاقتصادي والاجتماعي لا على مشروعه الديني والطائفي والغيبي والثرثرة الكلامية!

وأن يتغير الخطاب الديني نفسه ليقف عند حدوده الصحيحة والسليمة كعلاقة بين الإنسان وربه لا كعلاقة متعسفة مفروضة بين الدين والدولة والسياسة والاقتصاد تؤدي إلى خرابه وخراب الدولة والسياسة والاقتصاد،فنرى رجل الدين يتدخل بما لا يعنيه ولا يفقه به شيئاً حيث نسمع في خطب الجمعة من يحذر من استثمار الأجانب الكفار في بلادنا،وادعاء إفسادهم للدين والناس ولا يستبعد إصدار فتاوى تحرم بضاعتهم أو التعامل معهم أو تدعوا لقتلهم!

وأن يتغير الخطاب القانوني والدستوري فتتحرك فلسفة وجوهر الملكية وطرائق تداولها لتكون بوضع ينسجم ومتطلبات الاستثمار والتطور لا في البقاء متحجرة عند مفاهيم تقليدية بالية!

وأن يتغير خطاب وفلسفة الدولة نفسها. فرغم مرور سنوات على سقوط صدام ما يزال الخطاب الشمولي يهيمن على عقل الدولة بل ما يزال من يدافع عما سمي بالاشتراكية البعثية الرشيدة، وهؤلاء لا يدافعون عن القطاع العام من أجل الفقراء والمعوزين بل لأن القطاع العام يعني لهم ( الشيء الثمين الذي لا مالك محدد له ) وبالتالي فهو يمكن سرقته دون رقيب أو مالك يطالب به!

لذا لا بد من تأكيد قوانين الاقتصاد الحر مع نظام ضرائبي تصاعدي مرن بإعفاءات مشجعة ومعقولة يضمن حقوق الشعب لكنه يشجع قدوم الرساميل وتشغيلها خاصة في مضمار الصناعة والزراعة وليس الخدمات الاستهلاكية السريعة!

لذا من الضروري عقد مؤتمر آخر في بغداد يمكن أن يسمى مؤتمر الظل لمؤتمر لندن يشارك فيه مختصون وخبراء عراقيون من مختلف القطاعات والاختصاصات،من رجال الأمن الجيش وفقهاء القانون ليرسموا السبل والطرق التفصيلية لوضع مقررات هذا المؤتمر وغيرها من المؤتمرات السابقة أو اللاحقة موضع التطبيق وان لا يلقى كل العبء على كاهل هيئة الاستثمار العليا،بل ترك الجوانب الاستراتيجية لها وإبقاءها النواة المركزية للعملية كلها!
بهذا يمكن القول أن العراق بدأ يحتضن الاستثمار ويسير على طريق الإعمار والازدهار!

إبراهيم احمد