تداعت المعارضة السورية على نحو مريع ومحزن، وخفت صوتها وانكفأت أذرعها الإعلامية إلى حدودها الأدنى، وفقدت شرعية وجودها مع تشذيب مخالب اليمين المحافظ في واشنطن، وأفول الحقبة البوشية بقضها وقضيضها واندحار الشرق أوسطية، والتي كان من أبرز تداعياتها انهيار quot;همروجةquot; المحكمة الدولية على ذلك الشكل البائس، وكانت، في الواقع، القشة التي قصمت ظهر البعير. إذ ليس من المصادفة، البتة، أن تتزامن الإعلانات المتتالية عن الإفلاسات والإغلاقات والانسحابات وquot;الخناقاتquot; وانقراط حبات المسبحات، وهمروجة التشويشات، أيضا وأيضاً، مع إسدال الستار النهائي على آخر الفصول التراجيكوميدية للمحكمة الدولية، وانتهاز آخر فرص الظهور لالتقاط صور الوداع التذكارية، وذلك قبل مشاهد الفجائع النهائية، وتماماً، كما كان يجري في المشاهد الأخيرة للملاحم والأساطير الإغريقية.
وبناء على ذلك، تم إغلاق أكثر من موقع ومنبر سوري معارض. ففي الحقيقة لم يعد لتلك المعارضة ما تقوله، اللهم باستثناء ما تنقله، قصاً ولصقاً ونسخاً، عن وسائل الإعلام السورية، كالثورة والبعث وتشرين ووكالة سانا، من تحقيقات وأخبار تتعلق بمكافحة الفساد، والتصدي للمخالفين، وتسليط الضوء على بعض أوجه الحياة اليومية العادية وإفرازاتها التي لا تخلو منها حتى الدول الاسكندينافية، كما بالنسبة لأوجه ونشاطات أخرى تتعلق بتفاعلات في عمق المجتمع السوري سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. فلقد تحول الناس في سوريا وخارجها، عن الكثير مما تزعمه تلك الأدوات الإعلامية المعارضة بعد انكشاف الخديعة الكبرى، والكذبة الفظيعة التي حاول البعض تسويقها وترويجها، وظهر لاحقاً أنها مجرد هراء وتهويل وتضليل لا أساس له من الصحة البتة، ولم يعد في واقع الأمر، بالنسبة للبعض ما يقوله، أو يقنع به مجرد طفل صغير بعد انكشاف مسلسل التلفيق والأكاذيب المكسيكي الطويل.
وطبعاً هذا الواقع الجديد، لم يستثن ما أفرزته الحقبة إياها من محطات فضائية حاولت أن تلعب، أيضاً، ذات الدور التضليلي والتشويهي، الذي لعبته موجة الجبهات والشخصيات والأحزاب والجماعات الدينية والإعلانات والمنابر وجمعيات عقوق الإنسان ( وكالعادة، لا يوجد خطأ إملائي هنا)، والذي طال أول ما طال وجه سوريا الحضاري الجميل ورسالته الحضارية والتنويرية عبر التاريخ وثراءه التعددي المميز الأصيل، ومن ثم محاولة التشويش على المواطن البسيط وبث روح التخاذل والاستسلام واليأس فيه، بغية جعل الوطن لقمة سائغة وسهلة في أنياب ونواجذ وفك المحافظين الجدد وتابعهم الإقليمي.
ومع الانهيار الشامل للبرنامج التضليلي واجهت تلك المحطات الفضائية ما واجهته المنابر الإليكترونية ومنصات التهريج الإعلامية الأرضية المختلفة، من حالة عجز ويأس وانكشاف مرعب فظيع، ولم تجد بداً من إقفال معظم تلك الدكاكين، وإلقاء شنط التهريب في أقرب برميل، وضب ولملمة تلك quot;البسطاتquot; البائسة والفقيرة، التي افترشت بها وجه الفضاء، كما افترش الذين من قبلها أديم الأرض والخلاء، ولكن كان ينقصها العذر والتبرير المنطقي لذلك، وهي تعاني سكرات الإفلاس السياسي والأخلاقي والعقائدي والمالي القاتل المميت. ولذا بات يتردد لسماعنا اليوم، وبشكل اجتراري جنائزي ممجوح وفج لعين، كلاماً من غير محطة فضائية سورية، ومن مالكيها الذين يجمع فيما بينهم مشتركاً واحداً وهو المافيوزية والفساد المالي واللصوصية والسلطوية المريضة وتورم الأنا النفسي والنرجسي، عن عمليات تشويش أوقفت بث هذه المحطة أو تلك، والتي بالكاد يتابعها ثلاثة quot;أنفارquot; بمن فيهم المخرج والمصورين وعموم الكادر الفني.
لكن الحقيقة، في الحقيقة، هي غير هذه أو تلك. ( وحقيقتنا حقيقية، طبعاً، وللتوضيح هي غير حقيقة المحكمة الدولية التي باتت معروفة للجميع). ولنا هنا أن نتساءل، بادئ ذي بدء، لماذا لم تشوش الولايات المتحدة، وهي تحتل العراق، على قنوات فضائية عراقية، بعينها، أقضـّت مضجع الأمريكي، وساهمت في مراكمة ضحاياه وخسائره بالشيء الكثير، إضافة لقنوات عربية، أخرى، متهمة بدعم، والترويج للقاعدة واستضافة أعضائها، وهي التي عندها ما عندها من إمكانيات وتقنيات استثنائية وقدرات فنية وهائلة في هذا المجال، وتتحكم بالفضاء بسهولة عجيبة. هذا وكانت قد سرت في زمن ما quot;همروجةquot;، أيضاً، عن رغبة بوش بقصف قناة عربية مشاغبة، بسبب عدم قدرته على التشويش عليها ووقف بثها؟ لماذا لا تقوم أمريكا بالتشويش على كل تلك القنوات التي تروج للإرهاب والقتل والحقد والكراهية، وترتاح وتريح، وهي معروفة بالنسبة لها، وعلماً بأنها تتحكم بكل الأقمار الصناعية وحتى الطبيعية في الفضاء اللامتناهي السحيق؟ وحين أزعجتها قناة عربية مقاومة أعلنت عن وقف بثها في الفضاء الأمريكي، رسمياً، وبأساليب تقنية تتعلق بالبث، ووقف البث، ولم تقم بالتشويش عليها، وكان الأمر سهلاً عليها دون أن تقحم نفسها في منازلات هي في غنى عنها، شكلياً على الأقل، وهي quot; الداعية والراعية للحريات والديمقراطيةquot;، وبقية القصة معروفة للجميع؟ ولماذا لا تقوم إسرائيل، أيضاً، بالتشويش على قناة الأقصى، وقناة المنار، اللتين تشكلا صداعاً مزمناً لها، وحاولت قصفهما مراراً، ولكن عبثاً، ودونما أية جدوى تذكر؟ أليس التشويش هنا أيسر وأسهل من القصف وquot;لا من شاف ولا من درىquot;؟ ولماذا لم تقم سورية، نفسها، وفي أوج الاندفاعة والهجمة البوشية العدوانية الشرسة بالتشويش على تلك القنوات المعارضة وكان الأمر آنذاك، على الأقل، مبرراً، وأكثر من ضروري واستراتيجي بالنسبة للسوريين من الآن، وهي تشعر اليوم ما تشعر به، ونتلمسه جميعاً، من استقرار، واسترخاء على صعد مختلفة؟ وإذا كانت سوريا قد تفوقت وبحنكة واقتدار وتبصر، سياسياً ودبلوماسياً، في مواجهتها الصعبة تلك على قوى وquot;رؤوسquot;، إقليمية ودولية، وأكبر بكثير من هؤلاء الوكلاء الإقليميين الصغار وquot;الفراطةquot; المحليين، فهل يمكن لها أن تعتبر هؤلاء، وتحت أي حساب واعتبار، وفي أي ظرف، مجرد خصوم محتملين تعيرهم أي بال واهتمام؟ وإذا كانت وسائل الإعلام السورية الرسمية، نفسها، تقول ما تقول والكل يسمع ويرى ويتابع، وتتجاوز في طرحها النقدي، أحياناً، الجريء بعضاً مما لدى تلك المحطات من أقاويل، فما هو الداعي، وقتئذ، لمتابعة تلك القنوات الهجينة المعارضة بالنسبة للمتابع المحلي؟ وبنفس السياق، لماذا لم تشوش سوريا، أيضاً، إذا كانت بصدد ذلك وتعيره أي بال، على بعض المحطات الإقليمية المجاورة والقريبة جداً منها، والتي دأبت على سياسة quot;اقطوش وألحوشquot; الإعلامية المميزة، وبث الأراجيف والسخافات والفبركات والطرح العقيم التي ألفها، وصارت تبعاً لذلك محط تندر، الجميع؟ من تنطلي عليه، بعد ذلك كله، همروجة التشويش؟
ليس ذنب السوريين، أبداً، إذا كان البعض قد انهزم، واندحر وانكشف وهزل وبان عجافه، وأصيب، ويا حسرتاه، ويا ويلتاه، بآفة قصر النظر السياسي العضال، وفقد كل شيء، وأفلس، بالتالي، سياسياً، ومالياً، وربما خلقياً. إذن، ونصيحة بالمجان ولوجهه تعالى وتبارك، لا داعي لتحميل الآخرين الفشل والإخفاق الذاتي، ولا مكسب من عزو ذلك لهمروجة التشويش التي، بحسب خبراتنا التقنية المتواضعة، غير ممكنة، بالمطلق، وإلا لصارت الأمور سداحاً مداحاً، وquot;شوريا، وخبيصةquot;، وصار بإمكان أي كان، يزعجه عندها، أي كان، أن يشوش عليه، ويقضي عليه، وكفى الله المعارضين شر البث الفضائي وquot;بلاويهquot;؟
باعتقادنا الراسخ، لا أحد يشوش على أحد، وليس بمقدور أحد فعل ذلك، من حيث المبدأ، وهناك سبل عدة متوفرة للتهرب من التشويش، كما هو الحال بالنسبة للحجب والتشفير، ولكن الخواء، والانهزام، والإفلاس العام والنهائي، وبمختلف وجوهه السياسي والمالي والعقائدي، والأخلاقي، وهو الأهم، هو وراء كل ما يشاع عن وقف بث وتشويش. لكن نتوسل أن تسمحوا لنا بالاعتراف بحقيقة وجود تشويش داخلي فعلاً، وفي داخل البعض، حصراً، يمنعهم من التقاط الحقائق والمتغيرات الجذرية والإشارات الجيو- ستراتيجية التي يعج بها الفضاء السياسي، ويعزون كل ذاك التعامي وعدم الوضوح بالرؤية، وما يجلبونه لأنفسهم من فضائح وإخفاقات وهزائم مجلجلة نكراء، وبالجملة، إلى quot;همروجةquot; التشويش.
نضال نعيسة
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات