بادية الجزيره تلتقي ببادية الشام في أرض العراق غرباً بدءً من الشمال والى اقاصي الجنوب مشتركة مع كل من سوريا والاردن والعربيه السعوديه والكويت، هذا الامتداد الجغرافي له دور كبير في المناخ على مدى التاريخ.. ولا مجال للدخول في تفاصيل الانواء الجويه وحالات الطقس بقدر ما يتعلق الموضوع بتفاقم التغيرات المناخيه في غضون العقدين الماضيين. فقبل ثمانينات القرن الماضي لم تكن هبوب الرياح الترابيه على معظم البلدان المحاذيه لباديتي الجزيره والشام الا بضعة مرات سنويا وفي ايام معدوده لأشهر آب/اغسطس وايلول/سبتمبر خلال السنه وفيما عدا ذلك لم تكن الاجواء الا حر الصيف الشديد والبرد شتاءً. من البديهي ان تصاعد الاتربه والغبار في الصحراء يحدث بهبوب الرياح التي تحرك الطبقات العلويه غير المستقره من الرمال، وتعتمد كميات الرمال المتصاعده على ثبايتها بالاضافه الى شدة الرياح التي توصلها احيانا الى المدن البعيده. كما وان المزروعات التي تحيط بهذه المدن لها دور كبير في صد تلك العواصف الترابيه. وتعزى ثباتية او استقرار الطبقات الرمليه السطحيه الى سقوط الامطار رغم قلتها والى عدم وجود مسببات الحركه. ومن المعروف ان وسائط النقل في الصحراء لم تكن الا قوافل الابل على مدار التاريخ وكذلك بضعة سيارات لمفارز شرطة الكمارك تجوب البوادي ولأيام معدوده من السنه والقادمه من المناطق الحضريه وهذين العاملين لم تحركا رمال البوادي المستقره منذ آلاف السنين الا بشيئ بسيط وبخط مستقيم كما نعرفه لحركة قافلة الجمال السفينه الصحراويه المعروفه بعمق التاريخ.. هذه العواصف المعدوده لبضعة ايام في السنه امتدت اليوم باتجاهات مختلفه ومخيفه باتت تهدد الحياة البريه بشكل واضح دون ان يتمكن احد من تحديد الاسباب ولا التفكير بايجاد حلول مما ستسبب في تحول البيئه الخصبه لبلاد الرافدين الى صحراء قاحله بعد بضعة سنوات، انها محنه جديده مضافه على العراق ليست باليسيره..

هذه المشكله تفاقمت للاسباب التاليه في غضون العقدين الماضيين :

1. في الثمانينات وبعد الحرب العراقيه الايرانيه امتد البناء العسكري في العراق الى اعماق الباديه بتاسيس المنشآت العسكريه والقواعد الجويه وشبكة اطلاق الصواريخ. فقد تسبب هذا النشاط في تحريك مساحات رمليه ليست بالقليله بالاضافه الى تجفيف الاهوار والقضاء على مناطق شاسعه لغابات النخيل في جنوب البلاد ضمن مقتضيات الاله الحربيه..

2. في التسعينات وبعد غزو دولة الكويت واثناء عمليات عاصفة الصحراء من قبل القوات الدوليه تحت قيادة الولايات المتحده فان المساحات الرمليه التي تعرضت للحركه تضاعفت بشكل كبير. فمن بضعة جمال وبضعة سيارات خفيفه لشرطة الكمارك بلغت هذه الحركه المتواضعه عشرات الالوف من الدبابات والعجلات العسكريه بالاضافه الى قيام الحكومه العراقيه بتفجيرات الصواريخ االبالستيه ضمن تنفيذ عقوبات الامم المتحده والتي تجاوزت الى تدمير اضخم منشأتين للتصنيع العسكري وهي الاثير والحكم في عمق الصحراء الغربيه..

3. بعد عام 2003 بلغت حركة القطعات العسكريه براً وجواً درجه لا يمكن اطلاقا مقارنتها مع اي وقت مضى. فيكفي ان تقدمت قطعات الجيش الامريكي التي زحفت نحو بغداد بعشرات الالوف من الافراد ومعهم اعقد انواع الدروع والدبابات بالاضافه الى اعمال انشاء معسكرات ومطارات مرحليه ومتنقله لا تزال مستمره ليومنا هذا.

منذ تسعينات القرن الماضي بدأت العواصف الترابيه تتعدى مدينة بغداد نحو الشمال ولكن اليوم فقد بلغت المناطق الحدوديه لايران وتركيا وسوريا والاردن بالاضافه للمملكه ودول الخليج وهناك رصد جوي لوكالة ناسالاحدى العواصف من الاقمار الصناعيه في 15/3/2009 ببلوغها بحر قزوين بعد تغطية العراق بالكامل. هذه العواصف كانت تظهر في نهاية الصيف فقط ولكنها اليوم تطرق ابواب المدن جميع ايام السنه قبل سقوط الامطار واحيانا حتى بعد سقوطها.. اما المخاطر فهي :

1. تستقر كميات من الاتربه الناعمه على اوراق الاشجار وتختلط بالافرازات النباتيه مشكلة طبقه صعبة الازاله معوقة عملية التركيب الضوئي لصنع الغذاء مما تسبب في تردي المحاصيل الزراعيه وموت البعض منها.

2. تتفاقم الاوضاع الصحيه لدى السكان المصابين بامراض مزمنه كالربو والتهابات القصبات الهوائيه بالاضافه الى تاثيراتها السلبيه على صحة الاطفال وخصوصا الرضع..

3. انتشار بعض الامراض السرطانيه بفعل حمل تلك الرياح آثار اليورانيوم المنضب وبقية مخلفات الاعتده المتنوعه التي استخدمت في الصحراء وظهرت ولادات مشوهه كثيره في مدن العراق..

4. تغيير التركيب الطبيعي لتربة الاراضي الزراعيه وتحويلها الى ارض غير صالحه للزراعه بمرور الزمن.

تقع مسؤولية هذه المشكله على جانبين اساسيين وهما اولا اصحاب ستراتيجيات الحروب وهذا الجانب له مخطط بعيد المدى والجانب الثاني سكان المنطقه فلولا ضعفهم الشديد لما تغلبت عليهم هذه السيناريوهات وهم منهمكون بامور تبعدهم كثيرا عن المشكله.. ربما توضح الان سبب تفاقم هذه المشكله الكبيره التي تجابه بعض دول المنطقه وخصوصا العراق الذي يكاد لا يمر يوم الا واجواء مدنها مملوءه بالعواصف الترابيه التي تهدد صحة السكان والمحاصيل الزراعيه ومواردها الطبيعيه. بجانب ذلك تتناقص المساحات الزراعيه واليوم يكاد العراق يستورد اغلب غذاءه بالاضافه لمحروقاته. فلا بارقة امل في الاوساط الشعبيه نظرا لهجرة عقولها ومفكريها ولا الحكوميه والرسميه، فاصحاب الكلمه والخطاب اما جهله او يتعمدون السكوت ويقفون بعيدا لوضع حل لهذه المخاطر وسوف لن تجد الاجيال القادمه ارض السواد الا وخلت من العشب والكلأ..


مصطفى احمد محمد

باحث كيميائي

في مجال النفط والبيئه ـ المانيا