بقدر تجربتنا الإعلامية في العراق و لا سيما أقليمه الشمالي ( كردستان العراق) و بمنظار تعاطينا الإعلامي مع الملفات العراقية الساخنة، التي تَهُم جميع العراقيين، دون أستثناء، و تمس مصيرهم و مستقبلهم مباشرةً، نرى أن أية مساهمة إعلامية في تفعيل الجهود السلمية في العراق وتدعميم المساعي الرامية الى المصالحة الوطنية أو السعي الى الحد من المشاكل و الأزمات الأمنية و السياسية التي تعاني منها البلاد، يدعونا أحياناً، نحن الإعلاميين جميعاً، سيما مع ما نراه بأم أعيننا في العراق من صراعات سياسية ساخنة، يدعونا الى ترجيحنا، بعض الشيء، للقيم الإنسانية و المُثل الرفيعة على المهنية المطلقة في عملنا الإعلامي، والتي تجعلنا، أحياناً، نظهر من خلالها و كأننا غير مبالين بما يحدث و يقع، أو كأننا لاحول لنا و لا قوة تجاه الأحداث، هذا في الوقت الذي نعلم أن الإعلام بات اليوم يلعب دوراً أساسياً في توجيه الأحداث أو حشد الرأي العام أو بلورة المواقف و السياسيات في أغلب دول العالم هذا إذا لم نَقُل بصراحة - كما قال السويولوجي الفرنسي الراحل بيار بورديو بشأن الإعلام و خاصةً التلفزيون في حينه - بأنه منتج لآليات التلاعب بالعقول، أي آليات موجهة للوعي أو مُسيطرة على المعرفة أو مُنتجة لأنماط معينة من الحقائق، تغدو دائماً، فيما بعد، سيما لدى المتلقي: مشاهداً كان أو مستمعاً أو قارئاً، و كأنها حقائق موجودة سلفاً لا كحقائق مُنتََجة من جانب القنوات الإعلامية، التي تحجُب ما تريد و تُبرز ما تُبغي و بالتالي تُزيف ماينبغي معرفته على صورته الواقعية.


كما نعتقد أن أية تقوية للقوى و التيارات السياسية و الإجتماعية المعتدلة في العراق، التي يمكن أن توجه البلاد نحو بر الأمان و تُنقذها من الكوارث السياسية و الأمنية التي تعيش فيها، تستدعي منا، قبل أي شيء، الإيمان العاقل بعدة مفاهيم والإشتغال عليها ضمن رسالاتنا الإعلامية دون أخذ خطاب و إتجاه الجهات السياسية التي يُعتقد أنها حاملةً لتلك المفاهيم، بعين الأعتبار. وقد يكون أبرز هذه المفاهيم هو :-


أولاً : الحيادية الإيجابية : ونعني بها، بحسب مفهومنا للحيادية، عدم الوقوع في فخ إبراز أو تمديح قوى سياسية معينة في العراق أو طائفة و قومية ما على حساب القوى السياسية أو الطوائف و القوميات الأخرى. ولا نقصد هنا، دون شك، بالحيادية عدم ممارسة النقد، أو التحليل البناء، أو التغطية الجريئة لمجريات الأحداث و المواقف، أو السياسات و الإجراءآت التي تُُلمس و تُرصد من هنا وهناك في مواقف جهات أو تيارات سياسية معينة، و إنما نعني بها حصراً الإبتعاد عن أية سياسة إعلامية تؤدي الى تأجيج الصراعات، أو تعميق الخلافات، أو توتير العلاقات بين الأطياف العراقية المتآخية أصلاً، إجتماعياً على الأقل، أو بين الحكومة و القوى المعارضة التي تتصارع من أجل الوصول الى السلطة حتى و لو كان ذلك بطرق غير ديمقراطية؛ أي بالطرق التي لاتجلب، في آخر الآمر، للعراق و العراقيين سوى المزيد من الفتن و الفوضى، أو الخراب و الدمار، و هذا ما لاينبغي أن نقع في دعمه إعلامياً.


ثانياً : علمنة التقييم : و هذا المفهوم هو في منظورنا الإعلامي/المهني عبارة عن عدم التسليم بأن القوى المتصارعة في العراق يمكن أن تُصنف أو تُقَسَم على أن بعض منهم هو من القوى الشيطانية والبعض الآخر منتمين الى عالم الملائكة، أي جعل المتصارعين متناسين ماهيتهم و حقيقتهم كقوى و كائنان بشرية مجتمعة قابلة لأن تخطيء و بالتالي غير معصومة أصلاً.


ثالثاً : نبذ العنف : وهذا يعني أننا، نحن الإعلاميين، لايمكننا ممارسة دورنا الطبيعي و أداء رسالتنا الهادفة في أية قضية وطنية إذا ما كنا في أجواءٍ يسودها العنف المادي و يَغيب فيها الحد الأدنى من الأمن و الأمان أو حرية التغطية و التعبير، و عليه يستدعي منا أن نعمل من أجل بلورة سياسة إعلامية فعالة تدين كافة أساليب العنف و اللجوء الى القوة في العراق لتسوية المشاكل و معالجة النزاعات و الخلافات، كما و تدين بشكل مباشر أو غير مباشر و بوسائلنا الإعلامية المتحضرة مظاهر العنف المتفشية في هذا البلد و تعرية وجوه أولئك الذين يقفون من وراءه إن كانوا من جماعات مسلحة أو أرهابية أو حتى إن كانوا من أجهزة الحكومة الأمنية والجيش، ذلك لأن الجهة التي سيتضرر دائماً و أبداً من ممارسة العنف و سفك الدماء هي الشعب العراقي، الذي تُقتل من أبنائه يومياً العشرات و المئات دون أن يكون لهم، في هذه الصراعات، لاناقة ولا جمل..


رابعاً : الرأي والرأي الآخر: ومع هذا المفهوم، ينبغي علينا أن نتعاطى مع الأحداث و المواقف، أو السياسات و التطورات من عدة جوانب و من أكثر من مصدر، أي مراعات مفهوم الرأي و الرأي الآخر و الحفاظ عليه و عدم التلاعب به، و ذلك من خلال إلتزامنا بعنصر أساسي من عناصر العمل الإعلامي الموضوعي إلا وهو الدقة و عدم أقصاء أصوات الجهات المختلفة في قراءة المشاهد، أو في نقل مسارح الأحداث و مجرياتها. وربما تأكيدنا هنا على هذا المفهوم راجع في الأساس الى ملاحظة التلاعب الخطير به من قبل بعض من القنوات الإعلامية، العالمية منها و العربية و العراقية،مما أدى ذلك الى التشكيك في مصداقية تلك القنوات في قول الحقيقة و إغلاق مكاتب بعض منهم في بغداد في حينه أو مقاطعتهم من جانب القوى السياسية أو الحكومة العراقية، مع رفضنا المبدئي هنا لأي موقف أو إجراء يؤدي الى منع القنوات الإعلامية من ممارسة عملهم.


و أخيراً : الإهتمام بالوطنية: و نقصد منه تجاوز القنوات الإعلامية و خاصة العراقية و العربية منها لإثارة أية نزعات طائفية و قومية مسيئة الى وحدة العراق أرضاً و شعباً، و ذلك عبر تعميق روح الوطنية وقيم المواطنية بين أبناء الشعب العراقي و عدم إبراز الإنتماء الطائفي للمواطن أو وصفهم و ذكرهم كإبناء طائفة معينة بل إحترامهم كمكونات أساسية للمجتمع العراقي و كواقع مجتمعي لاغنى عنه، كما تفهمهم كإخلافات مجتمعية مُثرية للحياة السياسية و الإجتماعية و الثقافية و عدم النظر اليهم بمنظور شوفيني، أو عنصري، أو طائفي، أو وطني زائف على غرار منظور و مواقف النظام السابق إزاء الطبيعة الفسيفسائية للمجتمع العراقي.

عدالـت عبدالله