يفتتح الأستاذ فهد الشقيران مقالته المنشورة في موقع إيلاف في 20 آذار 2009quot; ثمرة الطرح الفلسفيquot; بالقول quot;يمكن اعتبار الحداثة من آثار الفلسفةquot; ولو تكلم عن الحداثة الفلسفية لكان كلامه صحيحاً، ولكنّه يعمم القول، ليفهم منه: إن كلية مشروع الحداثة هي نتاج الطرح الفلسفي، ويعزز هذا التحليل، قول فهدquot; إن الفلسفة تشتغل على لغة القرون ولا تعرف لغة السنوات والأيامquot;. وبالتالي يسند إلى الفلسفةquot;أثراًquot; يتحول إلى قانون يحرك المجتمعات والفكر والعلوم وكل تاريخ الإنسان وتاريخ الحداثة. هذه الرؤية تخطيء لأنها لا تميز أن هناك مراحل تاريخية متباينة في التاريخ البشري، وأن الفلسفة قبل الحداثة غير الفلسفة بعد الحداثة، والمجتمعات قبل الحداثة ليست نفس المجتمعات بعد الحداثة، والتاريخ برمته قبل ظهور الأديان ليس هو نفسه عقب ظهور الأديان. وبالتالي المجتمعات البشرية متغيرة بتغير القرون. وأحياناً هناك تغيّرات تحسب بالسنوات، فما تشهده البشرية في الخمسين سنة المنصرمة في إطار الثورات العلمية والصناعية يعادل ما شهدته البشرية في كل تاريخها. ولكل ذلك لا بد من الخروج من لغة الماهيات الثابتة إلى لغة الصيرورة والتحول، والتي تفترض جدل التقدم والتخلف بالضرورة وليس التقدم المنساب بصورة مستمرة.


الحداثة بدورها وكما يشير فهد ليستquot; نقلة ضيقة- تقنية- للحياةquot;.أي هي مشروع يتكامل في كل مستويات المجتمع، وقد يتراجع أحياناً في قضايا ويتقدم في قضايا أخرى. ولكنّه وبكل الأحوال تتحدّد الحداثة بالثورة الصناعية والاقتصاد الرأسمالي، وبتقدم دور الإنسان في صناعة التاريخ، وبالعقلانية حيث أحّل العقل البشري مكان النص الديني، وهناك الانتماء لقضايا المواطنة والمساواة القانونية للأفراد في الدولة، ويتم تحويل الدين والمذهب والقبيلة والمناطقية إلى قضايا أهلية وشخصية محضة. هذه المستويات تنتمي إلى الاقتصاد والسياسة والفلسفة والعلاقات الاجتماعية والعلم والفن وغيرها. وبالتالي يمكن أن نحيل الفلسفة العقلانية إلى الحداثة وليس العكس.


وهنا ولكي يستقيم القول، لا يمكن اعتبار الحداثة حدثاً نتكلم عنه وكأنه يأتي للتاريخ من خارجه، بمعنى أن الحداثة ذاتها تبقى كلمة جوفاء إن لم تحدد وتشرط وتميز، وإذ أردنا إكسائها روحاً وجسداً، فهي مشروع يتضمن ما أشرنا إليه أعلاه. ولحظة الفصل والقطع مع القرون الوسطى هي لحظة تطابق الثورة الصناعية مع النظام العلمانيquot;الديموقراطي لاحقاًquot; بالتوافق مع تسيّد البرجوازية كطبقة - مفتوحة وليست مغلقة كالإقطاعية أو العبودية- نظام الحكم والاقتصاد والمجتمع، وهذا التطابق سيرورة تاريخية وليس زمناً مشروطاً بمكان وزمان محددين.


في هذا السياق، كان للطرح الفلسفي والأدبي والروائي وكل أشكال الفكر الحديث، أثراً كبيراً في الواقع. وتمثل بالفعل في دور الإنسان الصانع ومبدأ الذاتية والفضاء العلماني وإقصاء السحر عن العالم، كما يشير فهد.
أردنا مما تقدم أن نربط الفلسفة بالحداثة والنظر إلى العلاقة المركبة والمعقدة، والتي حتماً لا تختصر برد ميكانيكي للفلسفة إلى الحداثة.


ولكن أليس للفلسفة تاريخ مستقل بذاتها، نقول نعم، ونؤكد أن للعلم تاريخ خاص كذلك، وأيضاً للفنون، ربما للصناعة، وغير ذلك، وهو يتجلى تحديداً باللغة المفاهيمية لكل ميدان من الميادين المذكورة. ولكن القول بهذا الأمر شيء والقول بأن الفلسفة محرك للواقع شيء آخر. حيث أن القول ألأخير، يتجاهل قضايا أساسية، ومن ضمنها السؤال: لماذا لا تستمر الفلسفة في تأثيرها بشكل دائم؟ ولماذا يزداد تأثيرها في زمن معين ويخف في زمن آخر؟ وبالتالي هناك جملة شروط تحرك التاريخ، الواقع، وهي شروط متعلقة بكل مستويات المجتمع، وما هو صحيح في الحضارة اليونانية العبودية ليس صحيحاً في الحضارة العربية الإسلامية وذات الأمر ينطبق على العصر الحديث.


نخلص للقول: هناك تأثير للفلسفة في الواقع في عصرنا والعصور الأخرى، ولكنه يأتي في سياق جملة شروط مجتمعية عامة، وربما تلعب الثورة الصناعية دوراً مركزياً في مشروع الحداثة وفي اثر هذه الأخيرة على الفلسفة والعكس.

عمّار ديّوب