إن تتبع الحياة البرلمانية والسياسية في الكويت خلال السنوات القليلة الماضية، كان يعطي، دائماً، انطباعات غير مريحة لنكسات متتالية تعرض لها العمل الديمقراطي والسياسي في هذا البلد الخليجي ذي الممارسات الديمقراطية السبـّاقة والرائدة تاريخياً. وأصبحت الديمقراطية بنسختها السلفية معوقاً قائماً بحد ذاته، ومتلازمة حقيقية للتعطيل تقف في طريق الانطلاق والتغيير، وكان عنوانها العريض هيمنة التيار المتشدد على أدوات الممارسة الديمقراطية ونعني بها البرلمان الكويتي. وتحولت تلك الممارسات الديمقراطية المفترضة، إلى مجرد كابوس يطبق الخناق على الحكومة، كما على الشعب الكويتي ويحرمهم، في كل مرة، متعة استثمار ذاك الفضاء والممكنات الديمقراطية الموجودة، عبر تدخل فج وغير مفهوم بكل شاردة وواردة تتعلق بشؤون البلد أدت إلى تعطيل الكثير من النشاطات والفعاليات والقرارات التي تصب، في النهاية، في دفع الكويت خطى نحو الأمام، في مسيرتها التحديثية المطلوبة على كافة الصعد، ولاسيما الصعد التربوية والاجتماعية التي تفتقر في الحقيقة، في معطياتها الحالية، إلى الكثير مما يؤهلها ولوج العصرنة والتحديث بكل ما للكلمة من معان ومضامين عريضة.

ولعل البعض ما زال يتذكر تلك السطحية السياسية والتحريفية الديمقراطية التي تجلت بالمداولات الساخنة والمنازلات السلفية حامية الوطيس التي كانت تجري تحت قبة البرلمان من أجل مجرد حفل فني تقوم به فنانة هنا أو هناك، أو أمسية ثقافية قد يقال فيها ما قد لا يروق لأصحاب التيار السلفي، أو حتى رحلة أو مسرحية مدرسية، أو احتمال وجود حضانة quot;مختلطةquot; في ركن ما من الكويت قد تضر بالأمن القومي الكويتي. لقد كان واجباً أن تتم quot;فلترةquot; أي نشاط أو فعالية وفق الرؤى السلفية، ذات الخلفية الإخوانية المعروفة بتزمتها وتشددها وعدائها المطلق لأي نوع من البهجة والفرح والترفيه والإبداع، والتي تجهض النشاط أو الفعالية وتخرجها من سياقها الإبداعي أوالترفيهي والإنساني المطلوب، لتقدمها بطابع صخري جامد أصم عابس جاف وخال من أي روح وحياة.

وفي الحقيقة فقد كان هناك سوء استخدام لذاك الحق والتفويض الديمقراطي الذي منحهم إياه الشعب الكويتي كون غالبية هذا الشعب محافظ ومتدين، ومن الممكن دغدغة عواطفه الدينية، والاتجار بها. وتم توظيف وتجيير هذه الطيبة والتدين الطبيعي والفطري لغايات سياسية، بكل أسف، ولفرض أجندات حزبوية وعقائدية بعينها لم تفلح عبر التاريخ، لكي تفلح اليوم في ظل سياقات ومعطيات مختلفة جذرياً عما كان في ذاك الزمن الآفل. وبدا، لاحقاً، أن الهدف منها ليس إحداث أي قدر من أية تنمية، أو تطوير أي نوع من التشريعات وتقديم أداء سياسي حداثي رفيع يواكب مجمل التطورات البنيوية الهائلة التي يشهدها العالم، بل كان الهدف منها في الحقيقة، فرملة الحداثة، ولجم العصرنة، وإعادة البلد إلى سيرته الأولى، وكبح أية محاولة لدخول العصر، أوالإذعان والتسليم والأخذ بحقائق التاريخ التي تنطوي على عملية غربلة وفرز حادة للمفاهيم، وتقديم مفاهيم جديدة تلاءم المستجدات، وتلبي كل ما هو قائم في الواقع.

إن لخسارة الإسلاميين، وفوز المرأة بالانتخابات الكويتية الأخيرة بأربعة مقاعد في البرلمان الكويتي أمر بالغ الدلالة يعكس بوادر صحوة، ورغبة في الإفلات من سطوة التيار المتشدد الذي لم يقدم في الواقع للكويت سوى ذاك النمط التقليدي السلفي المعهود في النظرة الكلية للحياة، ما أفضى إلى مراوحة تاريخية في المكان واجترار نمطي لخطاب لم يقدم ولم يؤخر ساهم في التعطيل أكثر مما أفلح في التفعيل.

أما الصعود المذهل والمفاجئ لنجم المرأة الكويتية، وتحديداً الليبرالية منها، فهو قصة أخرى، اعتراف بدور نام ومتصاعد للمرأة الكويتية، وهو في ذات الوقت رد صاعق في وجه المتزمتين، وأبلغ رسالة عن مكنونات عميقة تعتمل داخل المجتمع الكويتي الذي كان كريماً جداً و أعطى المتشددين الفرصة تلو الأخرى لتقديم الصورة المطلوبة وللتغيير والنهوض بهذا البلد إلى لآفاق أرحب تنعكس رفاهية وازدهاراً على الجميع. إنه في الحقيقة انقلاب وتحول مفاهيمي كبير في بنية التفكير الجمعي فرضته، أيضاً، مجمل التطورات والانفتاح الكبير على العالم والاتصال المباشر الذي يؤدي إلى ذاك التأثير والتأثر المتبادل الذي تشهده مختلف دول العالم.

وإنها لرمزية بالغة، ففي الوقت الذي تدخل فيه المرأة البرلمان، يقابله خروج مدو للمتشددين الذين وقفوا، تاريخياً، وبالمطلق، وكانوا أنفسهم، ضد المرأة قلباً وقالباً، وضد أي تمتع من قبلها بأي حق من حقوقها المنصوص عنها بالشرائع الأممية. حركة وجدليات التاريخ التي لا تخطئ وتصيب في كل مرة، والتي تفرض، بقوة، كل ما هو جديد وتلقي بالبالي والقديم في مجاهل النسيان.

غير أنه من المفيد، جداً، أن يكون ذلك، أيضاً، درساً وأنموذجاً، وعبرة، يحتذى بها في مجمل المنظومة الخليجية المتعطشة لأي نوع من العصرنة والتحديث والتطوير الاجتماعي والمفاهيمي المطلوب، وليس، فقط، ذاك النمط من التحديث العقاري والإنشائي والعمراني المشهود حتى الآن والذي أهمل الإنسان، ولم يعن أي شيء أمام قضية بناء وتأهيل المجتمع والإنسان الذي هو الأولوية والضرورة القصوى في أية عملية تنمية وتحديث وبناء، وذلك قبل أن تأتي عليهم رياح التغيير الحتمي، وتعصف بهم جدليات التاريخ.

نضال نعيسة