- الاخيرة -

في عشرينات القرن الماضي حددت بريطانيا سياستها تجاه الكورد، حيث تخلت نهائياً عن أي مشروع يهدف إلى إقامة دولة كردية مستقلة في المنطقة، بل إنها تمسكت بالجزء الجنوبي لكردستان ( ولاية الموصل ) وإلحاقه بالجزء العربي من العراق ( ولايتا البصرة وبغداد ) وتركت القسم الشمالي ليكون للأتراك، وبعد تعقد الأوضاع في المنطقة وما حققه الأتراك من بعض الانتصارات المهمة وعدم إيجاد حل جذري لمشكلة المضايق وأسباب أخرى دفعت بدول الحلفاء إلى عقد مؤتمر جديد لبناء جبهة موحدة جديدة وفعالة ضد متطلبات المرحلة الراهنة، حيث اتفقوا على عقد ذلك المؤتمر في سويسرا بمدينة لوزان، وكانت بريطانيا من أكثر الدول التواقة إلى عقد ذلك المؤتمر بأسرع وقت ممكن بسبب تكبدها خسائر فادحة في سياستها تجاه الأتراك من خلال بنود معاهدة سيفر.


لتلك الأسباب وغيرها من تداعيات الأوضاع انعقد مؤتمر لوزان بمرحلتين، المرحلة الأولى بدأت في 20/11/1922 والثانية في 23 نيسان سنة 1923، وفي كلا المرحلتين لم تحتل القضية الكوردية موقعاً على أنها قضيــــة مستقلة محددة في جدول أعـمال المؤتمر، إذ أن الحلفاء ومنذ عام 1921م تركــــوا الكورد يلاقوا مصيرهم وتخلوا نهائياً عن المطالبة بتقرير مصيرهم القومي.
وهكذا استحوذ الخبثاء على نفط العراق عموما وكوردستان خاصة، واغتالوا وطنا وغيبوا شعبا في ( لوزان ) حيث اجتمع تجار الشعوب والحروب والعقارات ليوزعوا الغنائم فيما بينهم ويجروا صلحا تدفع الشعوب ثمنه دماءً ودموعا عبر عقود من الزمان في فلسطين وكوردستان، وهنا يقول احد الدبلوماسيين الامريكان ( امريكا والاتحاد السوفييتي حضرا بصفة مراقبين ) الذين حضروا توقيع تلك الاتفاقية مخاطبا الموقعين بأنهم وقعوا على مآسي وآهات شعوب وحروب دموية في تلك المناطق؟


لقد استبعد الكورد منذ اللحظات الأولى لإنتاج النفط في كركوك من التقرب منه أو العمل فيه حتى كعمال في مراحل إنتاجه واستقدموا آخرين من قوميات أخرى ومناطق خارج إقليم كوردستان للعمل والاستيطان ومن ثم غلق الطريق أمام أي بادرة لتطور هذا الإقليم اقتصاديا وسياسيا، وفي هذا الصدد يذكر المستشار البريطاني أدمونز الذي عمل مستشارا لوزارة الداخلية العراقية لما يقرب من ربع قرن، في محاضرة له بمعهد الدراسات الإستراتيجية في لندن حزيران عام 1966م:

( إن الأكراد سيستمرون في مشاكلهم ضد الحكومة العراقية ما لم يمنحوا حكما ذاتيا في اربيل والسليمانية والمناطق ذات الأغلبية الكردية في الموصل، وانجاز حزام عربي كبير حول كركوك وإبعادهم تماما عن تلك المنطقة.. )!؟

وحول نفس الموضوع يقول الكاتب والمفكر العراقي المعروف الدكتور كاظم حبيب في هذا الصدد:

( إن النزاع الراهن حول كركوك أو خانقين أو غيرها هو ليس بالأمر الجديد، بل بدأ من عقود حين بدأت الحكومات العراقية بترحيل عشائر عربية إلى منطقة حويزة (الحويجة) في كركوك، وإلى رفض شركة نفط العراق بتعيين عمال كرد من أصل أهل المنطقة بل تعيين عرب أو كلدان بشكل خاص أو حتى أجانب من خارج العراق).

لقد أدرك الخبثاء أن أقصر طريق لؤد كوردستان هو تقطيع أوصالها ومن ثم إذابتها في بودقات عنصرية ودينية لتلك الدول التي أصبحوا أجزاء فيها، والاستحواذ على مصادر طاقتها وثروتها وتفقير شعبها وتجهيله تارة بالفهم السطحي للدين وتارة أخرى بالعشائرية والمناطقية المقيتة والأمية اللغوية من خلال منع التعليم بلغة ألام وآدابها وتشتيت لغتها إلى لهجات وتفضيل واحدة على أخرى.
وكانت كركوك الهدف الأول لأولئك المستعمرين ومن جاء بعدهم أخذ يعزف على أوتارهم العنصرية ويأكل من سحتهم الحرام مما تنتجه ارض كوردستان منذ اكتشاف النفط فيها، وبدلا من أن يكون ذلك المال وسيلة لتطوير البلاد والسكان تحول إلى نار وبارود وطيران، يحرق الأخضر واليابس في العراق وكوردستان، وفي هذا الصدد يحدد الخبير الاستراتيجي العراقي في إنتاجيات النفط الدكتور كاظم حبيب مستويات الإنتاج من حقول كوردستان في كركوك مقارنة مع ما كان ينتجه العراق خارج الإقليم منذ 1927 ولغاية 1989:

(عوائد العراق النفطية ومساهمة كردستان العراق فيها بآلاف الدولارات الأمريكية:

الفترة الزمنية إجمالي العراق مساهمة كردستان العراق نسبة المساهمة %

1927-1958 1.473.100 1.168.200 79،30
1959-1973 9.097.545 6.665.771 73،27
1974-1989 193.722.331 141.804.720 73،2

المجموع204.292.976149.638.720 73،25

بلغت مشاركة حقول كركوك 73،25 % من إجمالي إيرادات العراق النفطية في حين كانت حقول البصرة تساهم بالباقي 26،75 % فقط خلال الفترة بين 1927و1989.


ومنذ صدور قرار رقم 986 لسنة 1995 quot;النفط مقابل الغذاءquot; عن مجلس الأمن الدولي بدأت كوردستان تحصل على نسبة 13 % من إيرادات العراق النفطية بعد استقطاعات الأمم المتحدة وما هو مفروض على العراق دفعه للمتضررين من غزو النظام للكويت وحرب الخليج الثانية.


وخلال الفترة الواقعة بين كانون الثاني/يناير 1997 و1/6/1999 تحقق لكوردستان العراق مبلغاً قدره 1،4 مليار دولار أمريكي تقريباً.
أما حصة الحكومة المركزية في بغداد فكانت 10،8 مليار دولار أمريكي تقريباً خلال ذات الفترة، أي بنسبة قدرها 11،4% من إجمالي إيرادات العراق من النفط فقط.)
من هنا ندرك مؤامرة الخبثاء في لوزان وعنصرية النظم التي حكمت العراق منذ تأسيسه وحتى سقوطها في نيسان 2003م والتي اختلفت في كل شيء إلا في اجتماعها على ثابت واحد وهو تجريد كوردستان وشعبها من مصادر الحياة والتطور الاقتصادي وهذا ما تم فعله طيلة أكثر من ثمان عقود.


وإذا كان المال المسروق أو المغتصب لا يحل بسرقته أو اغتصابه من قبل شخص آخر حسبما جاء في الأعراف و الشرائع و القوانين، فأن تأميم النفط في 1972م لم يك أكثر من تحويل تلك الأموال من سارق إلى سارق أكثر دموية في التعامل مع أصحاب المال الحقيقيين، إذ تحولت تلك الأموال خلال سنوات قلائل إلى وبالٍ وحروب راح ضحيتها الملايين من البشر في كوردستان والعراق وإيران والكويت، من قتلى ومعاقين جسديا ونفسيا، وتهجير مئات الآلاف من الكورد وتدمير الآلاف من القرى الكوردستانية وقتل مئات الآلاف من الكورد والعرب في الانفالات وحلبجة والمقابر الجماعية، وإبادة وجرف مئات الآلاف من بساتين النخيل في جنوب العراق وتجفيف الاهوار وتهجير سكانها، إضافة إلى ما كان يحيكه النظام من مؤامرات وعمليات مخابراتيه خارج العراق بما لا ينفع شعوبه وأمنهم الوطني. مقابل تبليطه لعدة ألاف من الكيلومترات ومنحه الامتيازات لأزلامه وعملائه وإنشائه لبعض المصانع والمعامل والمجمعات التي كانت تخدم توجهاته العسكرية وغيرها التي أحرقها خلال مسيرته المنحرفة عبر ما يناهز الأربعين عاما من تسلطه واستحواذه على العراق.


لقد أنتجت كوردستان نفطا بما قيمته 184.9 مليار دولار أمريكي من عام 1927 ولغاية عام 2000 من إجمالي إيرادات العراق البالغة لنفس الفترة 252.5 مليار دولار أي بنسبة قدرها 72.2 بالمائة من إيرادات العراق بأكمله.
وبزيارة ميدانية إلى كوردستان ندرك مدى المأساة التي تعرض لها هذا البلد في كل نواحي الحياة في البنية التحتية والتنمية البشرية والاقتصادية والحضارية والصناعية. واستخدمت أموال ذلك السم الأسود بعد سرقته من سارق آخر في تدمير وحرق وأنفلة كوردستان وتعريب مدنها واستقدام مئات الآلاف من سكان محافظات جنوبية ووسطى وما تعنيه هذه العمليات من تهجير مئات الآلاف من الكورد إلى الجحيم أو إلى مهاجر أخرى، كما حصل في كركوك والموصل وسنجار وربيعة وزمار وخانقين ومخمور ومندلي بعد عام 1975م. وزرع ما لا يقل عن عشرة ملايين لغم في أرض كوردستان لوحدها.


والطامة الكبرى أن الكثير ممن أتوا بعد سقوط النظام ما زالوا يغرسون رؤوسهم في رمال وعقلية وسلوك النظام السابق في موقفهم من موضوع كركوك والموصل وسنجار وربيعة وزمار وخانقين ومخمور ومندلي، وموضوعة النفط في الإقليم ويتعالون على مآسي ثمانين عاما من السرقة والسحت الحرام وبحور من الدماء التي سالت نتيجة لتلك العقلية المتخلفة والشوفينية المقيتة وفرص التقدم والازدهار التي اغتيلت على أيديهم، ويتناسون ما جرى بعد مؤامرة 1975م ضد شعب كوردستان الأعزل لكل من ساهم فيها أو سهل تنفيذها، ولعلني أستذكر فقط أن ما حدث لإيران والعراق والجزائر والاتحاد السوفييتي بعد هذه السنة لم يكن ( ربما ) محض صدفة، أن تغرق إيران والعراق والجزائر في بحور من الدماء وتتفتت الإمبراطورية السوفييتية إلى دويلات عاجزة ينخر فيها الفقر والذل.


إن فرصة ذهبية أمامنا في إنجاز عراق جديد نتعايش فيه جميعا يضمن حقوقنا السياسية والاقتصادية والثقافية والديمقراطية، ويعوضنا عن ما فاتنا طيلة ثمانين عاما، بعيدا عن الثقافة الشوفينية أو المذهبية الضيقة أو العنصرية المقيتة، والتعامل مع ثوابت الدستور بما ينميها ويطورها في التطبيق والسلوك. والتوجه إلى كوردستان بما ينميها ويعوض خسارتها طيلة أكثر من سبعين عاما من ثروتها المسروقة وفرصها في التطور والتقدم خصوصا مع تجربتها خلال السنوات الماضية التي تمتعت فيها بقسط من الأمان والسلام، حيث أنجزت تطورا كبيرا وملحوظا في كل مناحي الحياة وبإمكانيات بسيطة قياسا لحصتها الطبيعية في الثروة الاتحادية.


إن كوردستانا قوية ومزدهرة وآمنة ستكون سندا قويا لعراق اتحادي امن متحضر، وان أي تطور في أي جزءٍ من العراق الاتحادي هو تطور وقوة لكل هذا الاتحاد، وذلك بالابتعاد كليا عن ثقافة وفكر النظام السابق وشوفينيته ومحاولة إعادة تصنيعه أو تقليده كما يحصل بين فترة وأخرى في بعض مفاصل الدولة من محاولات يائسة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بما سيعيد البلاد إلى مستنقعات التقهقر والحروب والصراع بدلا من الانطلاق إلى آفاق السلام والتقدم وتعويض سنوات الضياع والتخلف.

كفاح محمود كريم