- 3-

أكثر ما كان يمثل سلوك النظام البعثي طيلة حكمه منذ انقلابه على الزعيم عبدالكريم قاسم في شباط 1963م وحتى سقوطه في نيسان 2003م، هو هوسـه وتفرده في السلطة واعتبار الاخرين من الحركات السياسية والاحزاب مراحل مؤقتة في مسيرته سينتهي منها

النفط والتأميم والأيام السوداء 2

حين ما تنتهي المهمة التي من اجلها تم التعامل معها، فقد تميز النظام بأساليب المراوغة والغدر مع كل الاطراف السياسية والاجتماعية وحتى مع كثير من مفاصل تنظيماته وقياداته كما حصل لاحقا في تموز 1979م حينما ذبح قيادات مهمة في حزب البعث لمجرد انها حاولت أن تختلف مع رئيس النظام صدام حسين في موضوع رئاسة الدولة سواء مع السوريين حينما (يندمجوا على خلفية الميثاق القومي) او بدونهم.


فخلال السنوات الأربع التي تلت اتفاقية آذار 1970م مارس النظام شتى أنواع التحايل السياسي والميكافيلية الرخيصة في تعامله مع كافة القوى السياسية والشخصيات الوطنية العراقية دونما أي وازع وطني أو انساني، أو احترام لما تمثله هذه القوى في تاريخ العراق منذ تأسيسه وحتى وقوعه فريسة بيد النظام السابق، بل عمل على تنفيذ أبشع عملية تطهير عرقي في تاريخ المنطقة بتهجيره لمئات الآلاف من الكورد الفيليين من بغداد وجنوب وشرق العراق وقتل الآلاف من شبابهم في معسكرات لاتقل بشاعة عن معسكرات النازية الألمانية.


ومن جهة أخرى كان النظام قد نجح تماما في استدراج الاتحاد السوفييتي ومنظومته في أوروبا الشرقية وتحييد فرنسا بإغرائها تجاريا في المستقبل القريب على افتراض تحول العراق إلى قوة اقتصادية مهمة في المنطقة وتعويضها عما ستخسره من عملية السيطرة على الثروة النفطية، وبذلك لم يعد أمام النظام وبرنامجه سوى الشيوعيين المتورطين معه في تحالف هش.


وفيما تواصل الحكومات في موسكو وملحقاتها في مشارق الأرض ومغاربها الدفاع عن التجربة الاشتراكية البعثية وتطور الاتجاه التقدمي للرفاق القوميين في العراق كان النظام قد أعد عدته للانقضاض على كوردستان ومحاولته في إنهاء الحركة الوطنية الكوردستانية، وفي الجانب الاخر كانت محاولاته على قدم وساق مع الإخوة الأعداء ( اصحاب القطار الذي اقلهم الى قمة السلطة ذات يوم ) في الولايات المتحدة وعمتها إنكلترا حينما باشر اتصالاته معهم بقنوات دقيقة غير مرئية لطمأنتهم من الحبكة مع السوفييت.
وخلال سنة من القتال الضاري والمعارك الكبيرة في كوردستان العراق كان النظام قد رتب أموره تماما مع نظام الشاه من جهة ومع الولايات المتحدة من جهة أخرى، قبل أن ينهار عسكريا، وهذا ما أعترف به الدكتاتور السابق في أكثر من مناسبة حينما قال لم يعد لدينا في الأيام الأخيرة من المعارك شيء مهم من الأسلحة والاعتدة، إلى جانب انهيار معنويات قواته التي كانت تقاتل في كوردستان.
وكما هو معروف عن طبيعة ذلك النظام وحزبه في تغيير مواقفه ومبادئه وتكييفها مع بقائه في سدة الحكم بصرف النظر عن طبيعة تلك العلاقات وأهدافها، فقد كانت الغاية امتلاك الثروة وسحق القوى الوطنية في الشمال والجنوب وعليه فلا أثم من علاقة مع الإمبريالية والاستعمار من اجل تحقيق أهدافه.


وهكذا نرى المشهد عشية انتكاسة آذار 1975م تحالفا وتوافقا بين أطراف متناقضة تماما ولكنها متوافقة في مصالحها دونما الأخذ بالاعتبار حياة ومصير شعب ومستقبله.
في الجزائر اجتمعت كل تلك المتناقضات ليوقع المتآمرون اتفاقية الجزائرعام 1975م والتي بموجبها سيتم ذبح شعب كوردستان بمباركة من القوتين الاعظم والإمبراطورية الشاهنشاهية وتصفيق حاد من تجار البترول العرب وأئمة المؤتمر الإسلامي وغيرهم في ذلك المؤتمر الذي قاده الرئيس الجزائري هواري بومدين وأبدع في ثوريته الدبلوماسية بتقريب وجهات النظر بين شاه ايران وصدام حسين في كيفية سحق الأكراد، حتى وان أدى ذلك إلى الاستغناء عن حقوقٍ طبلَ وزمر لها النظام منذ استحواذه على السلطة في 1968م سواء ما كان منها ارض عراقية أو جزر إماراتية.


وبعد ساعات من توقيع تلك الوثيقة السوداء تم محاصرة شعب كوردستان أرضا وجوا ومن كل حدوده وأغلقت إمامه كل منافذ الحياة، وكان الخيار الوحيد الاستسلام والموت وليس الموت أو الاستسلام كما هو متعارف عليه في الحروب، إذ أثبتت مجريات الإحداث ومآسيها بعد ذلك هذا الخيار.


لم تمنح حكومة الشاه الايراني قيادة الثورة الكوردية أكثر من بضعة أيام لدخول مئات الآلاف من المقاتلين الكورد وعوائلهم الى أراضيها التي اشترطت عليهم رمي السلاح وطلب اللجوء، فيما امتنعت تركيا عن استقبال هكذا أعداد من البشر، وفي الجانب العراقي كان النظام قد أصدر للرأي العام والاستهلاك المحلي عفوا عاما لكافة المقاتلين الذين وصفهم ب ( العائدين إلى الصف الوطني )، وفعلا عاد الكثير من رجال الثورة وعوائلهم لا إلى قراهم ومدنهم كما تصورا لأول وهلة بل إلى عمليات تهجير وتقتيل بنظام معد لهم بدقة خارج كوردستان وفي صحاري وقرى الجنوب والغرب العراقيين.


لقد شهدت مدن الجنوب والوسط وصحاري الرمادي معسكرات ومعتقلات ضمت الشعب الكوردي الذي تم تهجيره بوحشية لا نظير لها من قبل نظام صدام حسين وحزب البعث العربي الاشتراكي حتى لدى أسلافهم في ألمانيا وايطاليا في أربيعنات القرن الماضي، حيث اقتادوا مئات الآلاف من الاطفال والنساء والرجال في اكبر عملية تفريغ وطن من السكان وتشتيته وأبادته في التاريخ المعاصر، ويتذكر الجنوبيون مأساة تلك العوائل وأفراد أسرها التي تم تقتيل ذكورها من أعمار تسعة سنوات فما فوق ( كما حصل في عمليات ابادة البارزانيين عام 1983م ) إما بدفنهم أحياءً أو باستخدامهم كفئران تجارب في أولى عمليات التصنيع الكيماوي العسكري والمخابراتي في العراق، ولعل من أبشع أنماط السلوك العنصري وبدائيته عمليات تزويج الإناث الكورديات لرجال عرب بأستخدام المغريات المادية والترغيب والترهيب للقضاء تماما على العرق الكوردي في العراق، بل أن ما تناقلته وسائل الاعلام عن صفقات بيع فتيات من اولئك المهجرين الى اوساط مشبوهة في بعض العواصم العربية تمثل ابشع عمليات صناعة وتجارة الرقيق الابيض من قبل دولة في تعاملها مع افراد شعبها (!) كما جاء مؤخرا في الحوار بين رئيس المحكمة الجنائية العراقية والمتهم الرئيسي في تلك العمليات علي حسن المجيد حينما اتهم القاضي النظام العراقي السابق بالتجارة بالفتيات الاسيرات.

لقد بدأت ملامح البرنامج ( الحضاري وبشائر التأميم ) لثورة تموز البعثية تتضح تماما بعد التآمر الكبير الذي أداره النظام لسحق الثورة الكوردية والقوى الوطنية العراقية بتوريط قوى دولية وعظمى من خلال إغرائها في مواقع متقدمة في المنطقة أو تسهيل مهماتها الاقتصادية والاستراتيجية كما حصل مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.


وبذلك لم يعد أمام الحكومة العراقية التي يقودها حزب البعث بعد انتكاسة الثورة الكوردية سوى تنفيذ برنامج القضاء كليا على الحزب الشيوعي العراقي والقوى الوطنية الأخرى وإعلان نجاح سيطرته الكاملة على الثروة النفطية لينتقل إلى مرحلة الانتشار الحيوي في المنطقة والعالم!؟.
وللبحث صلة...

كفاح محمود كريم