لقد أدرك البعثيون بعد تصفيتهم لمعظم القوى المضادة بعيد انقلابهم في تموز 1968م بأقل من سنتين، وعجزهم الكامل عن تصفية الثورة الكوردية في كوردستان العراق، أنهم قد سرقوا دولة خاوية لا تكاد تفي بمعاشات موظفيها وعسكر جيشها المنتشر في أنحاء كوردستان، والبدء بتنفيذ برنامجهم المخابراتي والتسلطي في انجاز مجال حيوي كالذي حاول انجازه ادوولف هتلر لينتهي الى حرب كونية تدمر بلاده وبلدان كثيرة اخرى، باستخدام ذات الشعارات القومية المتطرفة والتبشير بدولة البعث من المحيط الى الخليج واذابة الهوية الوطنية للعراق تحت تلك الشعارات والممارسات.

النفط والتأميم والايام السوداء 1

هذا المجال الحيوي وترسانته العسكرية تتطلب خزائن لا تنضب، وإن الهيمنة على الثروة النفطية بكامل مراحلها هي اول الطريق لامتلاك الثروة وتكريس السلطة ومن ثم تمزيق العلاقة التوأمية بين الشيوعيين العراقيين والسوفييت والالتفاف على اتفاقية اذار ومصادرة كوردستان وشعبها، وهكذا بدأت اللعبة الميكافيلية التي انتهجها النظام السابق بعقده السيكولوجية منذ تموز 1958 مع كل القوى العراقية الوطنية التي كانت سائدة في الشارع العراقي ومكوناته، ولم ينسى هذا النظام عقده ومركبات نقصه إزاء الآلاف المؤلفة من جموع المقهورين والجياع والمستلبين والمهمشين وملايينهم في كل أنحاء العراق الذين خرجوا من دهاليز الملكية المستوردة إلى المالك الأصلي الآتي على صهوة (زعيمنا الأوحد) في صبيحة الرابع عشر من تموز 1958م، أو نصف بغداد الذي خرج لاستقبال القائد الكوردي الكبير مصطفى البارزاني بعد عودته من منفاه في الاتحاد السوفييتي.


وكما ذكرنا كان لابد لكل هذه المعارك القومية من أموال وعسس وسلوك لا مثيل له لا في أقصى اليمين ولا في أقصى اليسار، وسرعان ما جمعوا حولهم أقرانهم من الشوفينيين ومرضى الهوس القومي والثقافة القروية وبقايا حرسهم القومي وبدأوا برنامجهم في بناء دولة البعث، لتبدأ مهرجانات الدماء وكرنفالات الإعدامات في الساحات العامة منذ الشهور الأولى ( للثورة البيضاء) حاصدة المئات وربما الآلاف من الذين لم نسمع أنينهم أو عويلهم فاختفوا في أعظم مدرسة من مدارس الإرهاب في العالم ( قصر النهاية ).

وما أن انتهت تلك الحمامات الدموية حتى التفت الرفاق إلى كوردستان فأمطروها بقنابل النابالم وعبوات البنزين ليحرقوا الأخضر واليابس وتدور معارك وحروب دون ما أن يحقق البعثيون ما كانوا يحلمون به من ابتلاع العراق والانطلاق صوب الأشقاء.


لقد أجبرتهم قمم هندرين وكاره وهورمان وبارزان وسفين ورجال الشمس من بيشمه ركة كوردستان والعراق إلى التقهقر إلى الحل السلمي والاقتناع بأن برنامجهم لن يتحقق في ربى كوردستان وجبالها، وان ما لديهم من موارد لاتتلائم مع مشاريعهم في تأسيس إمبراطورية الرئيس والحزب القائد فبدأوا تكتيكا من نوع آخر لاحتواء الثورة الكوردية والتغلغل من خلالها إلى مبتغاهم إلى الرأي العام وتغطية حملاتهم في التطهير العرقي التي تعرض لها مئات الآلاف من الكورد الفيليين وغيرهم من العراقيين من الأصول غير العربية وحمامات الدم التي أقاموها للقوى الوطنية العراقية في بغداد وبقية المحافظات.
ولم تكن اتفاقية آذار عام 1970 بين قيادة الثورة الكوردية والحكومة العراقية إلا تكتيكا ( كما اثبتته السنوات اللاحقة ) استخدمته قيادة حزب البعث متمثلة بالدكتاتور السابق صدام حسين تمهيدا للعبور إلى المرحلة الثانية من برنامجهم السياسي والاقتصادي والمتمثل في تحسين سمعتهم عالميا والتحالف مع السوفييت وإغرائهم بالتقرب من المياه الدافئة في الخليج وإحداث تغييرات اجتماعية واقتصادية سطحية وإيمائية تصرف النظر عن إمكانية إعطاء أي دور للشيوعيين العراقيين وبرامجهم في نفس المضمار، بل والعمل من تحت خيمة التحالف مع السوفييت على سحق الحزب الشيوعي العراقي وبقية الأحزاب الوطنية وفي مقدمتها الحزب الديمقراطي الكوردستاني من خلال مسخ وتفريغ مشروع الحكم الذاتي بما يؤدي إلى إنهاء الوجود الوطني الكوردي.


وهكذا أعطت اتفاقية آذار متنفسا للنظام ينطلق من خلاله إلى موضوعة السيطرة على الثروة النفطية مع وجود حليف مهم هو الاتحاد السوفييتي ومجاله الحيوي في أوروبا الشرقية بما يشكل عمقا استراتيجيا لمرحلة الانقضاض على الثروة النفطية ومن ثم الالتفاف على القوى الوطنية العراقية وسحقها ابتداءً بالحزب الديمقراطي الكوردستاني الذي تعرض بعد أشهر قليلة من اتفاقية آذار عام 1970 إلى مؤامرة اغتيال رئيسه الزعيم الكوردي مصطفى البارزاني وشروع النظام بسياسة سلخ وتشتيت وتعريب إقليم كوردستان وعملية تمزيق التحالف الاستراتيجي بين الشيوعيين العراقيون والثورة الكوردية بالتحالف الذي أجرته قيادة البعث آنذاك تكتيكيا ومن ثم الاستفراد بالقوى الفاعلة في الساحة السياسية العراقية تاريخيا وسحقها تماما كما حصل لاحقا للشيوعيين ولحزب الدعوة وبقية القوى الوطنية.
على هذه الخلفية التأمرية والدكتاتورية أعلنت حكومة حزب البعث السيطرة على الثروة النفطية في حزيران 1972م لتوهم الشعب والرأي العام بقرارها الوطني، خصوصا ما كان يعاني منه العراقيون من فقر وبؤس وتخلف مريب في البنى التحتية والحضارية لدولة مهمة في الإنتاج النفطي.


لقد جاء قرار السيطرة على الثروة النفطية في حزيران 1972 على خلفية سحق القوى الوطنية في البلاد والاستفراد كليا بالنظام السياسي من خلال لعبة مافيوية وميكافيلية معقدة تخللتها تحالفات تكتيكية مع تلك القوى التي كانت تندفع إليها حرصا على مصالح البلاد العليا وخشية من حمامات دماء جديدة يروح ضحيتها الآلاف من البشر، إلا إن ذلك لم يكن يهم قيادة النظام بل ولم يك جزء من أجندته التي أعدها لمرحلة ما بعد إنجازالسيطرة على الثروة الرئيسية في البلاد.


ولكي تكون العملية ذات بعد عسكري فقد هيأ النظام معاهدة للصداقة والتضامن بينه وبين الاتحاد السوفييتي، وأقنع الشيوعيون العراقيون بالتحالف في جبهة وطنية وقومية في تموز 1973 للتصدي ومقارعة الإمبريالية التي أمم نفطها، وخصوصا انه أوحى لهم وللسوفييت بتنفيذ برامجهم الاشتراكية في البناء الاقتصادي والاجتماعي من خلال جملة التغييرات السطحية والهامشية التي أنجزها وبأدوات وقيادات قروية متخلفة وبائسة وسطحية في فهمها لمعطيات ما يجري من كوادر حزبه في كافة المجالات والقطاعات التي شملتها تلك التغييرات، ويتذكر العراقيون تلك الجمعيات والاتحادات والنقابات البائسة التي شكلها النظام في تلك الفترة وأوهم الكثير من الذين تعاملوا معه انه ينتهج نهجا اشتراكيا قابلا للتطوير.


ومن جهة أخرى نجح النظام في إقناع قيادات شيوعية معينة بأهمية إسقاط قيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني وإنهاء حركته القومية التحررية واحتوائها من خلال تثقيف أعضاء وكوادر الحزبين المتحالفين على رجعية وعشائرية القيادة الكوردية وعدم ملاءمتها للتطورات الاشتراكية في العراق، وكانت البداية عملية الخرق لقيادة الحزب الديمقراطي الكوردستاني من خلال إحداث انشقاق ومن ثم دعمه وتهيأته لمرحلة ما بعد 1974م التي اتفق عليها منذ توقيع اتفاقية آذار 1970م وهي السنوات الانتقالية الأربع التي يفترض أن ينجز فيها التطبيع في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والجغرافية، ويصاغ إلى دستور دائم ومؤسسات دستورية وفصل للسلطات الثلاث بما يعزز الديمقراطية للعراق والتي كانت هدفا استراتيجيا من أهداف الثورة الكوردية إلى جانب الحكم الذاتي لإقليم كوردستان.


ولم يمض أكثر من ثمانية أشهر على تحالف النظام مع قيادة الشيوعيين إلا وكان التحالف الفضفاض مع الديمقراطي الكوردستاني قد بدأ بالتمزق والانهيار حسب الخطة التي وضعها النظام وفرض فيها مشروعا بائسا لقانون الحكم الذاتي ومؤسساته المفرغة من محتواها الدستوري والديمقراطي، والبدء بتهيئة القوى المضادة للثورة الكوردية مما عرف بالجحوش في كوردستان وفرسان صلاح الدين لدى النظام، وهم مجاميع من المرتزقة والانتهازيين ورجال العداوات العشائرية والمصالح الشخصية وتجار الحروب ومهربي الاغنام والاسلحة والذين احتواهم النظام وجعلهم ممثلين عن شعب كوردستان، إضافة إلى تصنيعه مجموعة حركات وأحزاب في دوائر مخابراته ممن انشقوا أو استسلموا لأرادته واستنساخ حزب ديمقراطي كوردستاني كما حصل مع المنشق هاشم عقراوي وأمثاله من أحزاب أخرى بما يشوه الحركة الوطنية وممثليها من الأحزاب والجمعيات العراقية وتحويلها إلى تكوينات كارتونية هزيلة تأتمر بأوامر من مراتب دنيا في مديرية الأمن العامة أو المخابرات.

بهذه العقلية التامرية والتخريبية بنى النظام السابق علاقاته مع حركات وطنية عراقية أصيلة ومناضلة ولها تاريخ مليء بالتضحية والمقاومة من اجل عراق متحضر وديمقراطي، بحيث لم تنجو أي حركة أو حزب عراقي مهما كانت توجهاته من تشويهات النظام ومحاولاته التدميرية لتلك الحركات والأحزاب، ولم يكتف بذلك فقاد حملة ضد الشخصيات العلمية والأدبية والثقافية والاقتصادية من العلماء والنخب التي لا تنتمي إلى فكره وتوجهاته السياسية والاجتماعية، وخيرها بين الاحتواء وبين الاغتيال أو الهروب من الوطن تحت شعار ( من لم يكن معنا فهو ضدنا )!، بهذا التوجه والعقيدة السياسية أراد النظام أن يقنع الآخرين بأن سيطرته على الثروة النفطية إنما هي خطوة اقتصادية لبناء عراق جديد على أنقاض فعالياته السياسية الأصيلة ومكوناته الأساسية ورجالاته المبدعين.


ونتيجة لتلك الحبكة المعقدة من الوسائل والغايات المليئة بالتآمر والانتقام وعقلية العصابة في الاستبداد والتفرد بكل شيء وسحق كل القوى الوطنية أو مسخها والتنازل عن أكثر الثوابت خطورة كما حصل في اتفاقية الجزائر مع الحكومة الإيرانية آنذاك ولاحقا مع حكومة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد أكثر من ثلاثة عشر عاما، ومع الحكومة التركية في سابقة لا مثيل لها في العلاقات الدولية، منح على أثرها القوات التركية فرصة التوغل واحتلال أراضي عراقية في إقليم كوردستان، وتناغما مع أهداف ومصالح دولة عظمى كان يتهمها النظام بالإمبريالية والصهيونية على طول الخط رغم تعاملاته المعروفة مع دوائرها الاستراتيجية منذ انقلابه في شباط 1963م على الزعيم عبدالكريم قاسم وحتى قبيل سقوطه في نيسان 2003م، تم سحق الثورة الكوردية في آذار 1975م بتآمر معروف وتحالف مشبوه اشتركت فيه إلى جانب النظام، إيران الشاه وجزائر بومدين وبمباركة من القوتين الأعظم في العالم ناهيك عن القوى الوطنية التي تورطت معه في هذا السلوك وأصبحت فيما بعد الضحية التالية.

وللبحث صلة..

كفاح محمود كريم