مع ربيع العام 1978،اندلعت أولى الشرارات الجماهيرية بالتظاهر ضد حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وكان الظرف الدولي الفاعل والمؤثر على سلطة الشاه المطلقة في حكمه لإيران وبقبضة حديدية منذ أن اعيد من المنفى بإيطاليا العام 1953 بالإنقلاب المشهور الذي نفذه أمريكيا (كرميت روزفلت) وإيرانيا الجنرال (زاهدي)، حيث كان الرئيس الأمريكي (جيمي كارتر) قد استلم الرئاسة الأمريكية بعد فوزه في إنتخابات العام 1976 وتحت شعارات الديمقراطية والحرية والشفافية كي يحرر الشعب الأمريكي من دوامة فضيحة ( ووتر كيت) التي ضربت الرئاسة الأمريكية في الصميم وأجبرت الرئيس الأمريكي (ريتشارد نيكسون ) على الإستقالة العام 1974 وليكمل بقية الفترة الرئاسية نائبه (جيرالد فورد)،في هذا الجو الضاغط على شاه إيران بدأت تلك التظاهرات بالتمدد والإتساع بسرعة وشملت المرجعيات الدينية الإيرانية ذات السلطة والسطوة وكذلك قلب الحياة الإقتصادية في طهران وهو (البازار) أي السوق التجاري والبقية معروفة ومعاشة في كيفية فلتان الأوضاع ورحيل الشاه ووصول الخميني من باريس في شباط 1979..


علاقات الشاه ونظامه مع إسرائيل كانت مشخصة ومعروفة حيث توسعت هذه العلاقات والحضور الإسرائيلي السياسي تمثل في مكتب بطهران فيه من الإمكانات ما لم تحزه العديد من السفارات الممثلة للدول الأجنبية في إيران وفي هذا المكتب كان هناك قسم استخباري تابع للموساد الإسرائيلي مهمته في رصد الأوضاع الداخلية الإيرانية وتقديم (المشورة والنصيحة ) لسلطات الشاه..يذكر محمد حسنين هيكل في كتابه الذي نشره عن إيران وثورتها تحت عنوان (مدافع آية الله) بأن المكتب الإسرائيلي كان متيقظا تماما لإندلاع تلك التظاهرات وقدم توصيات عاجلة لسلطات الشاه بضرورة التصدي بعنف لتلك التظاهرات وسحقها في مهدها الا أن تلك التوصية لم يجر الأخذ بها للعوامل السياسية التي قدمت لها في التعامل مع مواصفات عصر (كارتر آنذاك) من قبل شاه إيران ونظامه..واليوم وبعد أكثر من ثلاثين سنة على تلك الأحداث تعود تلك التوصية الإسرائيلية للتنفيذ في شوارع طهران ولتشهد العاصمة طهران هذا الحجم من القمع القاسي لمن تظاهروا وأحتجوا على نتائج الإنتخابات الأخيرة التي جرت خلال هذا شهر حزيران-يونيو الماضي، وأسفرت عن فوز الرئيس الحالي محمود أحمدي نجاد برئاسة ثانية على منافسه الأول المهندس مير حسين موسوي..


قبل أيام تهاتفت مع صديق يعيش خارج لندن وكنا فيما تناولناه في الحديث الوضع الحالي في ايران واحتمالات تطوره واتجاهات ذلك التطور وللمعلومات فإننا الصديق وأنا لسنا من المعبئين عن سابق تصور وتصميم وقصد قديم أم مستحدث ضد الثورة الإيرانية للعام 1979 التي أنشأت الجمهورية الإسلامية الحالية في طهران، أقتربت منها آنذاك في التأييد والدعم والدفاع عنها منطلقا بذلك من قاعدة الحق الفلسطيني الذي كانت ثورة الخميني رحمه الله قد رفعت شعاراته عاليا ومارست فهمها له على أرض الواقع حيث طردت ممثلية (إسرائيل) وعناصرها في طهران وأعطت المبنى لسفارة فلسطين ورفع العلم الفلسطيني في العاصمة الإيرانية بدل العلم الإسرائيلي المحترق والمداس بأحذية الجماهير الإيرانية الثائرة على الشاه وأمريكا وإسرائيل وكان عدد من القيادين الجدد للوضع الثوري في طهران أساسا من المناضلين الإيرانيين المقاومين لعهد الشاه والمواصلين نضالهم التحرري المشروع من على الأرض السورية واللبنانية وفي خلايا الثورة الفلسطينية وتنظيماتها المقاتلة آنذاك..


قلت لصديقي الذي حدثني قبل أيام بأني أرى الذي حدث في إيران قبل وأثناء وبعد الإنتخابات الأخيرة التي جرت في شهر حزيران ndash;يونيو-الماضي،لم يحدث شرخا في النظام الذي صار له في السلطة نيف وثلاثة عقود متصلة بل بما يمكن تشبيهه بالمثل العراقي والعربي القائل بأن الماء المسكوب من المستحيل جمعه!! وتفسيري لهذا بأن الأساس الذي بنيت عليه هذه الجمهورية وما زال قائما ليومنا هذا ألا وهو (ولاية الفقيه) قد أخترق بشكل ما سيؤدي الى إنهياره وبالتالي فإن التحول والتغيير في إيران قادمان لا محالة وليس لدى المرء ما نسميه بالكرة البلورية كي يحدد من خلالها متى ؟ وكيف؟، في العام 1979 لم أكن قد سمعت من خلال مسموعاتي أو قرأت شيئا عن ( فقه الولاية ) وما يتبعها عن (ولاية الفقيه)..ألا أن السنوات الثلاثون التي مضت أضافت الكثير لمعلوماتي وقراءآتي عن هذا الموضوع الخطير والمهم في المنظور والفكر الإسلامي ومن جوانب متعددة ومتناقضة أيضا !!..


إن الصراع الحالي في إيران بين السلطة وبعض من كان من أبنائها!! سيستمر ويقسو مع الأيام حيث ترمي السلطة بكل مشروعيتها وخطابها الديني في ساحات الصراع المادية للدولة وأجهزتها القمعية،بالمقابل ستتحرر القوى الجديدة من خلال الظلم والقهر الذي يقع عليها من كل ما كانت تعتبره أساسا وشرعيا لقيام الوضع واستمراره وستخلق من خلال التضحيات الشرعية التي تعتبرها صحيحة ومسؤولة وعملية لتخاطب الناس هناك وبالتالي تتقدم لقيادتهم نحو مستقبل جديد فيه جملة سحرية واحدة تقول (الديمقراطية وحقوق الإنسان)،متجاوزة ما يعرف بولاية الفقيه وهرميتها التى حولت كل المشروع السياسي الإيراني وشرعيته الى نوع فريد من الديكتاتورية الشمولية لمدافع (آيات الله!!).


الغريب والعجيب في الوقت نفسه أن من يجلس في قمة السلطة ndash;أية سلطة في أي بلد- زمنا طويلا من غير مراجعة أو محاسبة ومراقبة وتبدو إمكانيات التغيير معدومة أو شبه معدومة ينسى من خلال التمتع بمزايا السلطة ومغانمها حتى بعض الخصال الوطنية بما يمكن أن نطلق عليه الموروثات الإجتماعية السياسية لذلك البلد وهذا بالضبط ما يحدث الآن في إيران بالموروث الإجتماعي السياسي في إيران الذي يمتاز بمفردتين أولاهما العمل السري الدقيق والمنظم والذي يؤدي بطبيعة الحال الى المؤامرة أو الإنتفاضة الشعبية قدر الإمكان وثانيهما هو العناد الوطني الإيراني في النضال من أجل استرداد الحقوق المهضومة والمستلبة من الإيرانيين المحكومين تجاه حاكميهم..والمضحك المبكي هذه الأيام هو أن تعمد السلطة الحاكمة بطهران الى إلقاء تهم الخيانة والتخوين الى عناصر كانت العماد في قيام الوضع الراهن،كآية الله العظمى حسين علي منتظري (حبيس البيت لأكثر من عشرين سنة بعد إزاحته من موقع الخلف للخميني!!) والشيخ مهدي كروبي (المرشح الإصلاحي الثاني) والمهندس مير حسين موسوي (المرشح الإصلاحي الأول في الإنتخابات الأخيرة) ورئيس وزراء إيران طيلة أيام الحرب العراقية الإيرانية (80-1988)..

خلال السنوات الثلاثين المنصرمة أثبت الجدل الماركسي في تفسير التاريخ علميته وصوابيته في إيران وحركتها وتطورها، بين ثلاثي الجدل ذاك المعرف بالقضية وضدها والمركب، القضية كانت شاه إيران ونظامه والصراع الذي نشب بين القضية وضدها (الثورة الإسلامية ) وحسم العام 1979 بإنتصار تلك الثورة وتضحياتها الهائلة وقد ولد بعد ذاك ما يسميه الجدل الماركسي بالمركب الذي يخوض صراعه الآن،المركب هذا عناصر مهمة منه كانت في إطار الضد من سلطة الشاه وحكمه وساهمت في إسقاطه كمجاهدي خلق ومجموعة مهدي بازركان رئيس وزراء بداية عصر الخميني ما بعد سقوط الشاه وآخرين من الوطنيين الإيرانيين الذين ابتعدوا أو ابعدوا من الثورة وجرى تقسيمهم بالتسميات بالعمالة والمنافقين وبالملخص فكلهم يستحقون من وجهة نظر المهيمنين على السطة في طهران التصفية والإعدام لهم!!
إن فجرا حقيقيا يمكن أن يبزغ على إيران وتاريخها المتصل عماده هو كتلة المركب التاريخية الجديدة المتحالفة المتكونة من الإسلاميين المتنورين في إيران واليسار الإيراني الوطني (تمييزا عن يساري بغداد المتحالفين بعمالة مع المحتلين الأجانب) والقوميين الإيرانيين واللبيراليين وفصائل مجاهدي خلق الثورية..وعربيا حينما اقتربنا من الثورة الإيرانية قبل ثلاثين سنة كان طموحنا المشروع بأن تباشر تلك الثورة بتصفية سياسات الشاه التسلطية على المنطقة وجيران إيران وشعوبها ولم يحدث ذلك بل العكس هو الذي صار وجرى، واليوم يحق لنا بأن نأمل الخير مع الفجر الإيراني الجديد..

اسماعيل القادري

E-mail: [email protected]
لندن