هادي ياسين من كندا: بانتظار بَتّ القضاء الإيطالي في الدعوى المرفوعة من قبل كاتبة إيطالية مغمورة، تدّعي أن فكرة فيلم ( حالة بانجامِن باتُن المثيرة ) مسروقة من قصة كانت هي قد كتبتها العام 1994، و أودعتها لدى الجهات المعنية بحقوق التأليف، فأن المعروف هو أن الفيلم مأخوذ من قصة كان قد كتبها ملصق فيلم حالة بنجامين الغريبةالكاتب الأمريكي المشهور ( ف . سكوت فيتزجيرالد )، و نشرها في مجلة ( كولييرز ) العام 1921، و تدور حول شخص وُلِد و هو على هيئة رجل عجوز في الثمانين من العمر، ينمو بعكس الزمن، أي أنه مع تقدم السنوات رقمياً فإنه يتراجع في مراحل حياته: من الشيخوخة الى الكهولة، فالشباب، فالصبا، فالطفولة حتى مرحلة الرضاعة .. حيث يموت. موضوع عجيب و غريب حقاً، ربما كان فيتزجيرالد قد التقطه من سلفه، و مـــواطنه، الكاتب الشـــــهير ( مارك توين )، الذي قال ساخراً ذات مرة: ( أعتقد أن الحياة ستكون أسعد لو أننا وُلدنا و نحن في سن الثمانين .. لنتراجع رويداً رويداً الى سن الثامنة عشرة ). قصة فيتزجيرالد، هذه، إشتغل على صياغتها سينمائياً كل من ( روبين سوايكورد ) و ( أريك روث ) الذي تولى كتابة سيناريو الفيلم، و هو السيناريست القدير كاتب سيناريو أفلام جيدة، من مثل فيلم ( فورست جامب ).
يبدأ الفيلم بلقطة عريضة لوجه دايزي ( كات بلانتشيت ) و هي ممدة على السرير في أحد مستشفيات نيو أورليانز، و برفقتها أبنتها كارولاين ( جوليا آرموند ) التي تقول لها و هي تحتضنها: سأفتقدك يا أمي .. ثم تسألها بحنان مؤثر: هل أنتِ خائفة؟ فتجيبها: أنا متأكدة ممـا هو قادم. و تعني الموت. و الموت هو أحد الركائز الأساسية التي شُيدت عليها فلسفة القصة، و من ثم السيناريو. و إذا كانت الأم قد فاجأت ابنتها بالحديث عن حكاية ساعاتي ضرير صنع ساعة جدارية لمحطة قطار نيو أورليانز في العام 1918، فأن ذلك لم يأت اعتباطاً. فالحكاية لهــا دلالتها حين تـعـمـّـد الساعـاتي غاتو ( إلياس كوتياس ) أن يجعل عقرب الثواني يدور الى الوراء، وحين يستغرب حضور حفل الإفتتاح من ذلك، يوضح لهم أن فيه تعبيراً عن أمنيته في أن يعود الزمن الى الوراء .. فيعود أبنه و وحيده ـ الذي قُتل في الحرب العالمية الأولى ـ إلى الحياة. فيرفع الحاضرون قبعاتهم تجاوباً مع هذه الأمنية العظيمة، و كان أولهم الرئيس الأمريكي السابق روزفيلت. ثم يختفي غاتو من مسرح الحياة و لا أحد يعرف كيف. بعضهم يقول إنه مات كسير القلب، و بعض آخر يقول إنه ذهب الى البحر و لم يعد . . و بعد أن تنهي دايزي حكاية الساعاتي بهذا الغياب ذي الـدلالة الرمزية، تشـير الى دفـتر ( هو عــبارة عن دفتر مذكرات يضم بين دفتيه، أيضاً، بطاقات و صوراً و قصاصات و تذاكر سفر ) و تطلب من ابنتها أن تأتي به و تقرأ فيه . . و بذلك تفشي لإبنتها سرّاً كتمته عنها طوال حياتها، فالمذكرات تعود لبانجامِن باتُن الذي كان حبيب و زوج الأم، و بالتالي فهو أبوها هي ( كارولاين ) .. من هنا يبدأ الفلم بسرد حكاية بانجامن، ثم يمتزج صوت الإبنة ـ و هي تقرأ ـ مع صوت الأب الذي ينفرد بسرد الحكاية، فيبدأ من ليلة أحتفال الناس في الشــوارع بنهاية الـحرب العالمية الأولى، حين يركض السيد توماس باتُن ( جاسون فيلمنغ )، متحاشياً الحشود، نحو منزله .. حيث تلد زوجته مولودهما البكر، و التي تطلب منه أن يحتفظ لقطة من فيلم حالة بنجامين الغريبةبالطفل، ثم تلفظ بعد ذلك أنفاسها. و إذ يتحول الأب نحو الطفل يكتشف أنه متغضن الوجه بملامح و شعر و جلد رجل في الثمانين من عمره، فيخطفه من سريره ـ غاضباً ـ ليدور به راكضاً في الشوارع بحثاً عن مكان يرميه فيه، تخلصاً و انتقاماً منه، حتى يقرر تركه عند مدخل دار للمسنين تديرها كويني ( تارا جي . بي . هانسون ) التي تتعثر و صديقها بالطفل، فتقرر الإحتفاظ به، ليعيش مع المسنين و كأنه واحد منهم، و يبدأ رحلته العكسية مع الحياة، إنطلاقاً من الشيخوخة و انحداراً إلى المراحل الأولى من حياته وصولاً إلى مرحلة الرضاعة حيث يموت ... توافقاً مع ساعة السيد غاتو.
فكرة القصة، و من ثم السيناريو، و بالتالي الفيلم، تفتح الباب ـ في النهاية ـ على حقيقة أن كل الأفكار التي قد تبدو غير واقعية، و فنطازية، و خارج حدود المعقول، إنما من الممكن معالجتها سينمائياً، و تقديمها على يد أشخاص من مثل السيناريست ( أريك روث ) و المخرج ( دايفيد فينشر ) البارعَين، كحقائق قابلة للتصديق .. و مقنعة تماماً. ولكن، تبعاً للسياقات العامة في السينما، فأن هذا الفيلم قد يبدو تقليدياً، نوعاً ما، غير أن ما هو خارج على التقليدية، هنا، هو السؤال غير التقليدي الذي إنبنى الفيلم عليه، و قد أجاب عليه بدقة مذهلة، و هو: هل يمكن أن نتعامل مع الزمن مقلوباً، و كيف؟
و ما كان فيلم (حالة بانجامن باتن .. ) يحتاج إلى أكثر من هذا، ليثبت أنه فيلم فلسفي؟ حتى و إن بدا ـ في الظاهر ـ إنه ليس كذلك ؟! .. فبقدْر ما ظهر واضحاً انه وضع المُشاهـِد العادي و مدركاته في الحسبان، و تعامل معه باحترام عالٍ، فمهّد له طريقاً سهلة للإستجابة، بواسطة سيناريو سلس و إنسيابي الحركة، و ترك له حرية التعاطي، إلاّ أنه كان معنياً بالمُشاهد الآخر الذي يتعامل، بدقة، مع الفكرة التي ينطوي عليها الفيلم ـ أي فيلم ـ بالمعيار ذاته الذي يتعامل به مع جوانبه الفنية .... ففي لحظة ما، يبدو الفيلم درامياً عادياً. ولكنه ـ في حقيقته ـ فيلم فكري، بل هو ملحمة سينمائية تشغلنا و تشدنا على مدى ساعتين و خمسٍ و أربعين دقيقة، بانعطافات و تداعيات مختلفة، عبر زمنين متعاكسين: زمن صاعد طبيعي تكبر معه الناس و تشيخ، و زمن نازل يصغر معه ( بانجامن باتن ) لوحده، بمراحل عمرية عكسية. ولكن ثمة عقدة واحدة تربط الزمنين و تشكل النتيجة الحتمية لهما و هي: الموت .. و الموت وحده . فكان وجود دايزي على سرير الموت، في أول لقطة، هي الإشارة الأولى إليه. و على مدى رحلة بانجامن يغيّب الموت الكثيرين، أولهم والدته التي أودعته الحياة فماتت. و الغريب أنه ــ باستثناء البحار مايك كلارك ( جاريد هاريس ) الذي يموت في معركة بحرية في الحرب العالمية الثانية ــ فأن جميعهم يموتون مسترخين في الأسرّة أو على الكراسي: فالسيدة العجوز، التي عقدت معه صداقة و كانت تقص له شعره و راحت تعلمه العزف على البيانو ، وجدها ذات يوم قد فارقت الحياة و هي مسترخية في كرسيها. و تخبره السيدة التي تعرّف عليها في فندق في ( الإتحاد السوفييتي ) أن والدها مات في الثمانين من عمره و هو مسترخ ٍ في كرسيه المتحرك. و عندما يعود من رحلته الطويلة يسأل كويني عن زوجها ( و هو نفسه الذي قد تعثر ببانجامن معها عند مدخل دار المسنين ) فتخبره أنها وجدته ذات يوم ميتاً بهدوء, و هو نائم في سريره. و يعرف أيضاً أن عدداً من سكنة الدار قد غادر الحياة بهدوء. و الواضح أن السيناريو قد كُتب بعناية و خُطط له بعمق, لكي لا تكون الصدفة هي التي تجعل الأب الغاضب الحانق يترك طفله في أي مكان اعتباطاً. كان يجب على السيناريو أن يقود الأب الى دار المسنين ليترك الطفل المغضوب عليه عند العتبة، فتعثر عليه كويني، لتحتضنه و تطلق عليه إسم بانجامن و ليعيش و ينمو بين هؤلاء المرشحين للغياب.
إن تعاكس إتجاه بانجامن مع اتجاه سكنة الدار، شكلاً و مضموناً، إنما ينطوي على فكرة التهرب من الموت التقليدي لدى البشر و لدى جميع الكائنات. و لنتصور الفكرة على النحو التالي: شجرةٌ مزروعة بصورة مقلوبة، جذورها في الفضاء فوق الأرض فيما أغصانها في الأسفل داخل التراب .. و مع ذلك فهي تنمو. إنه نوع من تجريب العيش خلاف تقليدية المكان و عكس مسار الزمن. و بانجامن يدرك تماماً حقيقة وضعه الذي أحاله إليه قدَرُه، فعندما يعود بعد سنوات و يلتقي دايزي مصادفة ً, تقول له: ( أنك عدت أكثر شباباً )، فيجيبها: ( من الخارج فقط ). هذا الجواب يعكس عمق معاناته من قدَره الإستثنائي مثلما يعكس وضوح إدراكه لحقيقة أن تعاكس مساره مع مسار الآخرين لا يعني أنهم ذاهبون الى الموت فيما هو ذاهب الى الخلود. نهاية رحلته هي ذات نهاية رحلتهم. المختلف هو لون البطاقة و الإتجاه غير التقليدي لقطاره . لذلك فهو لا يردد عبارات كالتي كانت ترددها دايزي و هي على فراش الموت، من مثل: ( السنوات تمضي، سنة ً, فسنة ً, فسنة ) أو ( الموت زائـــرنا ... الـبشر يأتـون و يمضون ) أو ( بالطريقــة التي جئنا إلى الحياة ســوف نمضي ). لأن السنوات ـ بالنسبة إليه ـ ( تأتي ) و لا ( تمضي ) سنة ً، فسنة. و الطريقة التي جاء بها وضعته على مسار غير مسبوق، مختلف، و يسير باتجاه معاكس لزمن الآخرين.
صحيح أن السيناريو المدروس كان عماد هذا الفيلم، ولكن بعد تنفيذه تجلّت رفعة و جمالية فن السينما من خلال العناصر الأساسية الأخرى التي تضافرت لتقديم هذه التحفة السينمائية الباهرة. فلم يكن اعتباطاً ترشيح هذا الفيلم لثلاث عشرة جائزة أوسكار لهذا العام 2009، نال منها ثلاثاً فقط في: الماكياج، و المؤثرات الصورية، و الإخراج الفني. و لقد كان الماكياج أحد الأبطال غير الرسميين، بامتياز، في هذا الفيلم. و من المؤكد لو أن الجائزة لم تذهب إليه لأثار ذلك امتعاضاً لدى الجميع، بما فيهم المنافسون. فلقد حقق فريق الماكياج انتقالة نوعية حقاً لهذا الفن في تاريخ السينما. الأمر الذي دفع عدداً من شركات الإنتاج الى التعاقد معه. الإضاءة في هذا الفيلم قدمت بطولة صامته و أضفت على لغة الفيلم حواراً هادئاً، عميقاً و مختلفاً. و أذ أبدعت ( كات بلانتشيت ) في أدائها منذ اللقطات الأولى، كعادتها في تمثيلها الراقي دائماً، فأن بانجامن باتن سيفرض على ( براد بيت ) أن لا يمثل، مستقبلاً، بأقل مما أبدع في هذا الفيلم و الذي ترشح على أساسه لجائزة أوسكار كأفضل ممثل، ولكنها ذهبت الى ( شـون بين ). ترشـــحت أيضاً ( تارا جي . بي . هانســون ) كأفضل ممثلة ثانــوية عن دور ( كويني )، و كانت ( جوليا آرموند ) التي مثلت دور ( كارولاين ) تستحق الترشيح لهذه الجائزة أيضاً, لأدائها التلقائي الجميل . . ولكن لا أحد يعرف الضوابط و لا ما يدور في كواليس الأوسكار، فذهبت الجائزة الى الأسبانية ( بينلوب كروز ) .