(عودة الألماني إلى رشده).. هذه ليست رواية لرشيد الضعيف، بل حكاية تجربة ثقافية، بادر أليها الجانب الألماني ممثلا بمعهد غوتة وممولا من الحكومة الألمانية، وضمن محاولات مستمرة يبادر أليها الجانب الأوربي، لفتح حوار مع العالم العربي وعلى مختلف الأصعدة، منها الثقافي، وهي محاولات للسباحة عكس التيار السائد والذي يدفع بالحضارتين نحو التصادم.. بالمناسبة.. لم نسمع عن أي محاولة عكسية، كأن تقوم دولة عربية أو مؤسسة أو جامعة أو شيخ عشيرة أو حتى رئيس طائفة دينية وهم كثر لعمل مماثل!.. مع العلم أن الكثير من دولنا العربية تدفع المبالغ الطائلة على إقامة مهرجانات كثيرة، قاسمها المشترك والوحيد، هو التفاهة!.. عموما المبادرات تأتي دائما من الغرب، والعرب محكومين فقط برد الفعل، وهذا غالبا ما يكون كارثيا، كما حدث في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، عندما تم استضافة الكتاب العربي كضيف شرف في هذا المعرض العملاق، ولم نحصد وقتها سوى الفضيحة!
نعود إلى الحكاية التي يرويها الضعيف بأسلوب شيق.. وكان موضوعها الرئيس هو المثلية الجنسية!.. أن المشروع الثقافي يبادر إلى استقدام كتاب عرب لعدد من المدن الألمانية، مقابل أن يرسل عدد من الكتاب الألمان لبعض المدن العربية لتبادل الخبرات وفتح قنوات للحوار والمناقشة الهادئة والفاعلة، والاهم محاولة لفهم الآخر.. ومهمة كل كاتب أن ينقل بلغته والى أمته حصيلة ما خرج به من هذه التجربة النموذجية.. فماذا خرج به كاتبنا رشيد الضعيف من هذه التجربة وما كتبه.. أنها موضوعة المثلية الجنسية.. وهي حقا مشكلة حساسة وشائكة جدا، والخلاف عليها مستمر حتى في الغرب نفسه. يخبرنا الكاتب في الصفحة الأولى من كتابه الصادر عن دار رياض الريس لعام 2006 والمتكون من 92 صفحة من القطع المتوسط، أن مدير البرنامج الألماني توماس هارتمان، كان يصر بشكل ملحاح على إخباره بان زميله في التجربة، يواخيم هلفر، مثلي الجنسية!.. وأوعز الضعيف هذا الإصرار، وكان مصيبا نوعا ما، إلى نظرة العرب الدونية لهكذا سلوك جنسي، ثم يبدأ ليحدثنا عن خلفيته الفكرية حول هذه المسألة الشائكة اجتماعيا وأخلاقيا ودينيا.. ولكن الانطباع الذي أدهشني، وأنا لست ألمانيا بل مقيم فيها واحترم قيمها، أن الكاتب يبدو وكـأنه قادم من مجتمع خيالي مثالي لا يمت لعالمنا العربي الغارق حتى بؤبؤ العين بالمشاكل الاجتماعية والأخلاقية والدينية، وكأن المثلية غريبة تماما عن مجتمعاتنا (النقية)!.. وان موضوع كهذا لا تناقله الألسن يوميا وفي مختلف المناسبات ولا كونه يمارس في الخفاء حتى في أكثر الدول العربية تشددا!.. كأن هذا المخلوق الألماني المثلي هو احد عجائب الدنيا التي التق بها المثقف العربي وفوجئ بها!.. هذا أذا عرفنا أن الكاتب يقول بأنه قد درس في فرنسا، وله ولد من امرأة فرنسية.. أي انه ليس غريب تماما عن قيم الغرب، والمثلية كما اعتقد، ليست من قيم الغرب، لكن الحرية الشخصية والتي تصل إلى حد القدسية، والتي حارب من اجلها الأوربيون منذ الثورة الفرنسية ولحد الآن، كان لها بعض التأثيرات الجانبية، منها احترام الحرية الشخصية للمثليين من الجنسين، وهي في النهاية مسالة شخصية جدا!.. أما الفوقية التي تعامل بها الضعيف مع زميله الألماني، كونه سويا والآخر (غير طبيعي)!.. قد تركتني في حيرة، فهل هذا هو كل ما خرج به مؤلفنا من هذه التجربة الثقافية؟.. والتي جعلته يظهر طوال صفحات الكتاب، وان بأسلوب غير مباشر، وكأنه مرشد أخلاقي، والآخر مريض يحتاج إلى مساعدة!.. فالعنوان وحده كارثة(العودة إلى الرشد)! فهل كان هلفر مجنونا؟.. أن عودة المثلي إلى رشده أو وعيه، هو إدانة كاملة لهلفر وأمثاله، وهذا ليس من قيم الغرب الذي يحترم الخاص بعد أن تم فصله عن العام، وهنا تنفضح مدى الهوة بين التفكيريين، بغض النظر عن من هو على حق ومن هو المخطئ في سلوكه ما دام ذلك لا يتجاوز القوانين. المؤلف يقول (أنا من بيئة تحتفل بالذكورة وتحتفي بها).. وهذا صحيح جدا وله الحق في أن يعتنق هكذا أفكار، لكن كان عليه أن يعرف على الأقل أن لقب (ماتشو) أي الفحل باللغة العربية، هو من الكلمات السلبية جدا في المجتمعات الغربية، خصوصا بأنه جاء إلى برلين للاطلاع على حياة الآخر والتعرف على قيمه، أن هذه الكلمة هنا دليل على التخلف والاستبداد وإلغاء الآخر والمقصود هنا المرأة وأمثال هلفر وبقية الأقليات.. وهذه من الأمور التي لا يمكن أن يقال فيها الكثير فهي هكذا وكل مجتمع في الكرة الأرضية حر في قيمه التي يعممها والتي يتعامل بها، وكان على الكاتب أن يترك محاولة إلغاء الآخر وتبديل سلوكه الجنسية وكأنها قضية القضايا، كل ما كان عليه هو أن يتفهم! (إني اهتم كثيرا بأمور الأخلاق,والأخلاق الجنسية بالتحديد)!.. عن أي اهتمام يتحدث هنا الكاتب؟.. اعتقد انه لم ينجح تماما في التخلص من نظرية الأحكام المسبقة التي يحملها، وبالتالي لم تبقى أي جدوى من هذا الاهتمام الذي يدعيه.. منذ البداية يسقط الكاتب وحتى قبل أن يرى زميله الألماني في الكليشة، آخذا في الاعتبار، أن الآخر الألماني سيسقط هو الآخر في الكليشة.. (لان بعض المثليين لا يقفون عند حد، وقد يزعجون الآخر بلا رادع، خاصة واني رجل مشعر، وان لم يكن لي شاربان يشيران إلى ذلك.. أقولها بصراحة وبلا إحراج، أخشى أن أكون في صلب الكليشة، أي في صلب الصورة النمطية عن المثليين.. ص14).. وفي النهاية تحققت خشيته وبقي أسير نظرة ضيقة نمطية تحددها الأحكام المسبقة، وعدم قدرته على التمرد عليها.. وهو في النهاية لم يكتب لنا ولو كلمة تعريفية واحدة عن ماهية هلفر الأدبية، أو مؤلفاته، أو إلى أي درجة هو ناجح في عمله الأدبي وان كان معروفا أو مشهورا أو أي شيء من هذا القبيل، بل أبقاه تماما في الظلام، وكل الذي نعرفه عن يواخيم هلفر انه مثلي الجنسية!.. أليس هذا ما يدعو إلى الغرابة والدهشة؟.. وإذا كان هلفر كاتبا مثلي الجنسية لا يجوز ذكر أي شيء عن مؤلفاته، فهل يستطيع الضعيف أن ينكر بأنه قد كون خلفيته الثقافية والتي أهلته لان يكون كاتبا معروفا إلى قراءاته لمؤلفين من أمثال، اندريه جيد وجان جينيه وتوماس مان وديستوفسكي وآخرون، وهؤلاء كلهم من مثلي الجنسية، فأين العجب في أن يكون هلفر مثلي الجنسية؟.. أن الشعوب الحية يا سيدي تحتفي بأبنائها حتى الضالين منهم وتحتفل بهم وتسمو بهم إلى مصاف الخالدين وقبل كل ذلك تحترم حياتهم الشخصية التي تبقى ملك لهم ولا تخضعهم لمنظومة أخلاقية زائفة! كما أنها لا تحتفي بالذكورة فقط وتحتفل بها!.. أعود إلى مسالة أخرى أثارت انتباهي في هذا الكتاب.. انه مسالة الإنجاب، وهنا أيضا نكتشف اختلاف جوهري بين طريقتي تفكير الشرقي والغربي.. فالشرقي ممثلا برشيد الضعيف، والذي خصص جانبا مهما من كتابه مبديا فيها استغرابه من لامبالاة هلفر بقضية الإنجاب، وهذا شيء استفز المؤلف وحمل كل أسئلته إلى زميله، أقصى ما يمكن من الدهشة والاستغراب والذهول بل وتعداها إلى الإدانة!.. إدانة سلوك عدم الإنجاب والاهتمام ببقاء النسل!.. وهنا يكمن الاختلاف، أن الغربي لم يعد يملك نفس الرؤيا التي كانت له في القرون الوسطى، بان يكون الإنجاب هدفا بحد ذاته، المجتمعات الغربية تطورت بشكل سريع ومذهل إلى أن أصبح نظام الإعالة الاجتماعية هو الضامن لحياة الفرد، سواء كان رجلا أو امرأة، وهذا النظام التكافلي الرائع، أعاد صياغة مفهوم العائلة جذريا، فعدد الأولاد لم يعد يعني، كما في الماضي، إعانة العائلة عند شيخوختها وبالتالي ضمان الحد الأقصى من المتطلبات المعيشية، أن القوانين هنا هي التي تحمي الفرد، سواء كان يملك أولاد أشداء أم لا!.. الغرب قد بدا ومنذ زمن بعيد، يعي فكرة طفل واحد أو أكثر قليلا بشكل صحيح وصحي، هذا الطفل الذي تضمن له كافة الإمكانيات التعليمية والصحية والنفسية الملائمة، حتى يكون ملائما هو نفسه لمجتمع متطور جدا.. لقد وعى أن هذا أفضل كثيرا من درزينة أطفال يتلقفهم الشارع ليرضعهم أخلاقيات الفساد والجريمة والتطرف كما هو حاصل في بلداننا، بحيث باتت الكثير من العوائل تصنع من أطفالها قنابل مفخخة لتتفجر فوق رؤوسنا!.. هذا بالإضافة إلى أن مجتمعات حيوية كالمجتمع الألماني، لم يعد لدى الوالدين فيها متسع من الوقت لتنشئة غابة عشوائية من الأطفال، فالمرأة كما الرجل يجب أن يعملا وفي نفس الوقت يريدان الاستمتاع بحياتهما، وطفل واحد لن يعيقهما! ولم يقتصر الاختلاف في الرؤيا على هذه المسألة وغيرها، فهاهو الكاتب يسال زميله الألماني، سؤال اعتقد هو انه بالغ الإحراج أو في منتهى الذكاء ليحصر زميله في زاوية لا مخرج منها.. السؤال يقول: ماذا لو اشتغلت ابنة أخيك في أفلام البور نو؟.. هنا بالتأكيد لا يهم أن نعرف جواب الألماني وكذلك لا يهم أن نعرف تحليل الضعيف للجواب.. القضية تكمن في أن هناك سوء فهم خطير وفادح في فهم مفردة ndash; الحرية الشخصية- بحسب المفهومين الشرقي والغربي!.. فالضعيف صاغ سؤاله من خلال مفهومه الشرقي لمعنى الشرف، وبالتالي إسقاط الموقف كله عليه أولا، وانتظر أن يسمع جواب الغربي بحسب المفهوم الشرقي للكلمة!.. فشرف البنت كما هو معروف في المفهوم العربي مثل(عود الكبريت) وتابو لا يجروء أي احد على الاقتراب منه أو خرقه، لهذا صاغ سؤاله ndash; الذكي- على اعتبار أن قيمة شرف البنت في ألمانيا لها نفس المفهوم العربي، وهذا خطاء!.. فكلمة الشرف في ألمانيا لم تعد متعلقة بغشاء بكارة البنت ونوع عملها، بل يمكن أن يكون في وعد أو الالتزام بكلمة أو موقف فكري أو أخلاقي معين.. أما مسالة غشاء البكارة الأسطوري فقد توقف عن العمل به في عموم أوربا منذ سنوات بعيدة، وتحديدا، مرة أخرى، منذ الثورة الفرنسية التي أرسى المبشرون بها من كتاب وفلاسفة وفنانين، ثقافة تفتيت مفهوم العائلة التقليدي، وصياغة شكل آخر لا يعتمد على نصف إلوهية الرجل وعبودية المرأة، واعتبارها أداة إنجاب فقط، وكان على الكاتب أن يعي ذلك قبل أن يصوغ سؤاله! في النهاية اعتقد بان رشيد الضعيف لم يفلح في الخروج من إطار تفكيره التقليدي وبالتالي محاورة زميله على أسس إنسانية وهذا على ما اعتقد أيضا، هو الغاية من هكذا مشروع حضاري ثقافي كالذي اندرج به، كان عليه أن يتخلص من صيغة (النضوج) التي تعامل بها مع زميله.. وها هو كاتب عربي من بلد عربي مفكك محكوم عليه في أي وقت بالإلغاء أو الغرق ثانية في عبث الحرب الأهلية التي أصبحت موضة سائدة في عالمنا العربي العتيد، يحصر زميله الغربي في الزاوية الخطأ!


برلين