جدول هامس، يتموج ماؤه فوق رمال القاع الأصفر، تقدمت الفتاة، وخلعت ملابسها، ورمتها على الشجرة، ثم انحدرت نحو الجدول، وغمست قدميها في الماء لتستحم. وقفت في جرف الجدول، وقد أحمر وجهها خجلا في تكوين جسدها الصارم المقيد بالسكون، المقيد باللون الصريح الطليق، وأنغام خرير المياه كامنة، تتسرب في وجدانها، فتترعرع أضواء باهرة تشد الأعين إليها، فتطيل النظر إلى الجدول بهيبة وجلال، وتفاؤل، وجسدها الأنثوي البديع الرائع، تحت ومضات أشعة الضوء المتوهج في الفردوس، متألق، ويزداد تألقا مع كل ومضة من الضوء ذاته، يجيش، ويصطخب، الذي يثير اختلاجات حسية، وتحتدم الرغبة العزلاء أن تستريح برائحة أزهار الزنابق، التي تنهمر بين سيقانها، وتداعبها برذاذ المياه، وتطيل النظر إلى قاع الجدول المرئي، الأملس، حتى الأوراق الذاوية، للزنابق حول قدميها تزخها رشات المياه، فيضئ جسدها، وتستعيد وعيها أنها بأقدام ترسم على الرمل ظلالها، وتختم نعومتها كأنها مبتكرة، متنكرة بلحم آخر، وكفها يستهل الوقت، وجسدها تحت الماء، وهي تنتظر وتفشي لكل الظلال خفقة من ضوء ينسل تماما على جسدها، لأنها تسمع صوت البجع، وتسمع زقزقات من أسفل، ومن أعلى الأشجار، فالجدول يستوعبها أن تجلس لبرهة تحت الماء حافية القدمين الملطختين بالرمل، وهي ترخي روحها بشدة عبر الماء، تلك التي تخف، ثم تهبط، وتسحق الرمل بأقدامها، وأصابعها الرقيقة تمسكه، ويفلت منهن مهما حاولت أن تحشو كفها، يفلت الرمل، وهي متيقنة أنها لن تتريث، وتحوم بصخب الجسد، ويتدلى شعرها الأسود الناعم مثل نزوة سرمدية لا تفنى، مثل ابتسامة شفاه تدور في الجدول، منغمسة وأسنانها تبرز لهاث قصير أو شهقة مفاجئة مع عضلات موهبة للحركة في تحسن، في كل مرة في تحسن حينما تكون في المياه، وتضرب بكفها بعجالة موجات خفيفة رقراقة مرتجفة، لم يتوقف اهتزاز نهديها، لا يمكن أن يتوقفا مع الرنة التي تنطلق من الجدول، وقد تفتحت رغباتها وأمانيها، ولم تجد أي بديل للجدول كأن محجر عينيها مخططة لنعمة الرؤيا، وعندما تقف في الجدول يبرز نصف جسدها، يعطي وعدا لنعمة الناظر، وأي ناظر؟! المكان منعزل، وفي غمه شجر، وقطر غزير دافئ أحيانا، وحتى الكيانات الوردية، تطوف حول سحرها، تزحف لتغتني بدفء رائحتها، هكذا بدأ البجع يحرث الجدول بصوته، ولم يبق سواه الجميل، وتأملاته فوق المياه الصافية، يستعيد نقيق خرير الجدول، وقد كان مهموم يعيد صورة الفتاة البارعة التي خرجت من الجدول، ورفعت رأسها إليه، ليتشبع في رؤيتها، وهو خارج العالم الكبير، خارج الأرض الخراب، حيث النواح، واحتراق فساتين الفتيات، واللوذ بالصلوات، مخلف وراءه عدم الأمان، تلك الخلاصة: الحرب على الأبواب، وفيما وراء العيون، تلك الخطيئة: حيث تستنسخ الأيام دون ضياء، دون وقود، يا للغرابة! تتداخل صور الفتاة الحسناء في عالمها الصغير مع طائر البجع، وفي كل ليلة دون أن يستريح التاريخ الغامض، (اهدئيhellip; اهدئي) رافقتها الكلمات، وراحت تصغي بانتباه، محاولة أن تفهمها، وتستنشق الهواء المنعش: الخطيئة، العقاب، الغفران، الثواب، الإثم. سيطر عليها الحزن ثم استولى عليها اليقين المضطرم، أن البجع يحدثها، هدأت نفسها متجاوزة الصرخة، كانت تشفق على أولئك الذين يقتلون بلا ذنب، تشارك أهلهم الحزن، الذي لا يكفي، شيئا فشيئا بدأت تخمن قدر اللحظة الدموية والدموع، خافت للمرة الأولى من معاناة البجع، الذي يضمخ كلماته بالدم والدموع، وهو يطلق صرخاته في اللحظات الأزلية، الصرخة المرهقة التي لا تنسى، الخالدة التي لا تزول، هذه زهرة القدر، قدر مزيف، يتعثر على ملامح مزيفة والبجع يفتح منقاره الطويل الحاد:
البجع: - لنذهب أنا، وأنت إلى النهاية، لنذهب إلى الشاطئ المهجور، ولا تسألي أين الجحيم؟ لنذهب، ونؤدي واجبنا، فلا ضباب أبيض، ولا دخان أبيض، لنتسكع قليلا، لا تنامي هنا، وحتما هناك وقت للنوم، حتما هناك وقت للتساؤل، هل سأجرأ، وأجرأ، ثم أسأل، وأتراجع، وأنزل من الشجرة التي أنا فوق غصنها.
الفتاة: - هل سأجرؤ أن أزعج هذا الكون، وأقول أنا أعرفهم، أعرفهم جميعا، وأعرف الأصوات التي تموت بسقوطها المحتضر، سأجرأ، وأنظر في العيون، كلها أعرفها، وربما ndash; عرفتني، وأنا أتمايل فوق السلم، وحينما أصعد، أتمايل، وحينما أنزل أتمايل، كيف سأبدو في نظرهم، وقد عرفت الأذرع، عرفتها جميعا، الأذرع ذات الأساور، هل أجرؤ، وأدخل عالمهم، وكيف سأبدو؟!
البجع: - في يوم الحساب شخوص متفجرة، متنافرة، مضطربة، هائجة يغلب عليها الخوف، فيه أحداث أغرب من الخيال، مكتئبة، معتزلة، عنق حاد، وقبح مكدودين أرهقتهم الحياة، أشخاص من مختلف الفئات، هذا ينام بهدوء، وذاك يعدو كالمجنون، يلاعب أصابعه الطويلة، وهناك من يبكي، ويصمت، ويصلي، هؤلاء دون ثياب، بعضهم يقهقه، باختصار انهم خائفون، هل كل ذلك يستحق إلى يوم الحساب بعد كل شئ، أحدهم يضع وسادة تحت رأسه، ينبغي أن أقول ذلك ما لم أعرفه على الإطلاق، ذلك ليس هو على الإطلاق، وهل كل ذلك يستحق؟! مستحيل، ذلك ليس ما عنيته على الإطلاق، أنا أشيخ عندما تعصف الريح، وتتفجر السيارات، وتوقظنا الأصوات البشرية، ونردد أصداء خطى في الذاكرة، نستمع: على الأرض نواح، وبكاء في ضوء داكن، لا هو ضوء النهار، ولا هو ما فات من الزمان.
الفتاة:- تحاول أنت أيها الطائر الجميل أن تحول الظلال إلى جمال زائل، العالم الكبير في ظلام، في حرمان، ولا توجد ومضة على الوجوه، إذ أجهدها الزمان، لاهية في الذهول، والشرود، كآبة مليئة بالأوهام، وقد تكون فارغة عن المعنى.
البجع: - ليس هنا في عالمك الصغير، ظلام دائم، وحرمان، وانهيار، وتعطل، من هنا الطريق، الطريق الآخر إلى نهاية الجدول المهجور.

لم تمر برهة وإذا بها تصرخ، وتسقط على شاطئ المياه،، وإذا بها ترى أفعى قد لدغتها، وفرت، فصاح البجع الرشيق الأبيض، الذي سحره أخاذ، ذو أقدام ذات الأكفاف، وحط على الماء، وصار يطفو عليه، يبحث عن الأفعى، ثم خرج من الجدول، وهو يتنقل، ويمشي خارج المياه، وجد الأفعى عند حافة الجدول، التقطها بمنقاره الضخم، وأكلها، وانساب على الماء بحركته الملهمة، وقد انتفخ فكه السفلي، مكونا كيسا، يحمل فيه الأفعى، واقترب من الفتاة، وتسلق صدرها، فراح يمزق صدره بمنقاره فانساب الدم نازفا من جراحه، فسقطت قطرات الدم، وصبها في فم الفتاة، أطعمها بدمه بعد أن شق خاصرته، وغسل وجهها أيضا بدمه، كل ذلك أرتبط بنقائه، وطهره، وتحوله الروحي، وحنانه، وحبه اللامحدود، لم يلبث أن غنى أول و آخر أغنية، وهو يميل بصدره إلى الجدول، وداعا أيتها المياه، وداعا أيتها الفتاة، وداعا متع الدنيا، اقترب مني أيها الموت، حينها نهضت الفتاة، فوجدته مطروحا ميتا قربها، بكت، وقالت يائسة: (مات من أجلي).