حوار لم يكتمل مع جمال علي الحلاق
اليوم.. كل يوم هو تجربة هائلة لي

واصف شنون من سيدني: فكرت كثيرا ً قبل أن أقرر محاورة جمال الحلاق، فهو وأنا من كونيّن مختلفين ليس في المعظم، ولكن في أشياء عدة، عرفت شعر جمال قبل ان ألتقيه بسبعة أعوام، وعرفته شخصا ً عن قرب حديثا ً، فشدتني أفكاره في التراث والدين و(طرقاته) اللحظيّة أكثر من شعره، على الرغم إنه وكما يبدو لي يسير في الطرقات فيعد ُ سيره شعرا ً، ويستضيف الغرباء ويتحاور معهم فذلك شعر أليس كذلك؟ ذلك مايقول، وينبش في بطون الكتب والملاحق وما قال البعض شفاهيا ًويطارد كل إصدار جديد.. فذلك جزء من الشعر، حتى صعود الباص ذهابا ً وإيابا ً هو جزء من الشعر، لكن فكره الإنساني في حلب التراث والمقدسات أعمق، ويترك خدوشه واضحة في كل جلسة معه مهما كانت، وتعد مغامرته التي لم تزل تحت الطبع (مسلمة الحنفي: قراءة في تاريخ محرم) جديرة بقراءة عموم الناس والمختصين لها.
كنت ُ قد أعددت حفنة أسئلة لجمال الحلاق وأرسلتها إليه، وقلت ُ سأنتظر أجوبته، ثم أزوره لاحقا ً لتنفيذ الحوار، الحوار غير الباهت الذي أترجّاه، كانت أسئلتي تتلخّص حول بيئته الإجتماعية وتنقلاته ما بين القرية ومدن كبغداد وعمان وسيدني، ونظرته للشعرالعراقي وأجياله، والثقافة العراقية عموما ً، و تأثيراتها على الفرد والمجتمع في العراق، ثم كيف يفلسّف القتل الجاري في العراق، وماهي علاقة جمال بالأداب الأجنبية..؟؟؟.
لكن جمال الحلاق بفطنته وخبثه، أجاب على سؤالي الأول فقط، الجواب(الشامل) الذي وجدت فيه مايكفي لي وللقراء الأصدقاء أن يطلعوا عليه..

- ماذا عن:-

القرية ndash; الطفولة
بغداد ndash; الحروب والعائلة
عمان ndash; المأوى واللجوء
سيدني ndash; المنفى المستقر،... في حياة جمال علي الحلاق
ها انت ترمي بالحياة كلّها على الطاولة، تمنحني الفرصة على إعادة قراءتها مرّة أخرى الارحام، والخروج منها، ليس الى ولادة. أتساءل إن كان ثمّة ولادة حقّا؟ الانسان جنين يتشكّل حتى لحظة قفزته القصوى. الخروج يمنحك القدرة على تأمل الرحم، وعليك دائما أن تنتبه الى انّك تقيم في رحم. القرية - بغداد ndash; عمان ndash; سدني ليست أمكنة، إنّهن لحظات وعي داخل نموّي الذاتي، تختلف سنوات الحمل هنا أو هناك، اليوم تجربة هائلة.
عرفت أنّني ولدت في مدينة الحريّة الثانية في بغداد، وأنّ عائلتي القروية جذرا عادت الى تربتها الاولى مثلما سأعود لاحقا الى بغداد. في الثالثة من العمر، أذكر حادثة الرجوع، كنت في شاحنة لنقل أثاث لا أتبيّن تفاصيله، لكنّني أتذكّر جيّدا الكلب الذي ظلّ يطارد الشاحنة بنباحه، النباح الذي سكنني أمدا طويلا، ها أنا أسمعه الآن.
العودة تشبه طفلا يدخل رحم أمّه بعد الولادة. لكنّني لم اكن قد ولدت بعد لذا كانت القرية الرحم الأوّل. جميلة سنوات الحمل القروي، هادئة، مطمئنة، لذيذة هي الاقامة خارج الوعي، لا أقصد القرية لأنّها وعي تشكّل وانتهى، أقصد الطفولة، عندما يكون البيت مركز الكون كلّه، ويكون الأب هو الله، وكلّ ما في الحياة مسخّر لك.
بالتأكيد كان ثمّة رعب هائل يتخلّل دفىء الإحتضان، أذكر رعبي السرطاني من شبح أبي طبر، أتخيّله يهبط علينا من سطح السماء، يخرج من الجدران، من الفتحة الصغيرة التي تحت باب الدار هكذا يتسلل كأفعى، ألم يدخل إبليس الى الجنّة متنكّرا بأفعى؟ أدّس رأسي في صدر أمي ولا أطمئن.
الذاكرة تفتح أبوابها، تغويني على الجريان، لكن دعنا نخرج، دعنا نتجاوز ثعلبية الذاكرة. لقد كنت خبيثا، وكانت خباثتي تتجلّى في مشاكسة مُلّة القرية، المرجع الديني لأكثر من عشرين ألف نسمة، وكان (شيخيّا) عطارا، وكنت حلاقا من عائلة ذات جذور (أصولية)، وصادف أنّ محل الحلاقة الذي كنت اديره لصق محل عطارته، كان مهووسا بالنظافة أشهد له بذلك، وكانت عائلتي مسؤولة عن مقام ديني في القرية تحت اسم مقام (بنت الحسن)، كان المقام أصوليا، فجاءني مرّة ليملأ ابريقه ماء وقال: عجيب أمر الناس يتركون الأصول ويتشبّثون بالفروع، يتركون الحسين ويتعلّقون بابنة الحسن ومحمد الصبر (كان مقاما اصوليا قريبا للقرية أيضا)، قلت: ألا ادلك على طريق تتجاوز فيه الاصول ايضا؟ قال مندهشا: كيف؟ قلت: quot; واذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي اذا دعان quot;، فغضب وذهب الى أبي وعاتبه في المقهى امام مرأى الناس قائلا: هي هاي خلفه تخلفوها؟!
وفي مرّة أخرى جاءني قائلا: ان محمدا خلق من نور وليس من طين. قلت: quot; وما محمد الا بشر مثلكم quot;. قال: اتمم الاية. قلت: quot; يوحى إليه quot;. قال: وانت هل يوحى اليك؟ قلت: انا جالس في محل الحلاقة واذا اراد الله ان يوحي اليّ فلا اعتراض لدي. عندها خرج غاضبا. كنت احب مشاكسته دائما. يوما ما كان يتحدّث معي عن قصة يوسف وبالتحديد عن quot; لولا ان رأى برهان ربه quot;، قال هل تعرف ما البرهان؟ قلت نعم. وكان في قريتنا رجل كبير يعمل حمالا كنت اراقبه اثناء نقله أكياس الطحين ذات الخيط الاحمر على ظهره الأحدب منافسا الامكارية ذوي الحمير، كان اسمه برهان، قلت يقصد برهان هذا لأنه الوحيد الذي يرى ربه أثناء نقله لاكياس الطحين. حدث كل ذلك قبل ان اتجاوز السادسة عشر.
لكنني في لحظة كرهت السماء، كرهت حجمها وثباتها، انها تجثم كفيل على الارض، ولا يمكن الا ان تكون فوق، هكذا في انتباهة طائشة اصبحت القرية / المكان الهائل أضيق من خرم، فخرجت. ثمّة من يتقمّص الدليل، ليس إلها بالضرورة، فالذي أوقفني في لحظة الخروج كان مدرّسا بسيطا جدا، ربّما أقل من ذلك أيضا.
بغداد لم تكن بعيدة مكانيا عن القرية لكنّها بعيدة جدا زمانيا، الزمان بدلالة الوعي، لذا فالخروج إليها هو خروج على وعي القرية، إنّها جدلية القرية / المدينة، اليقين / الاحتمال، الجماعة / الفرد. القرية على عكس ظاهرها عمودية التشكّل بينما المدينة أفقية، أتحدّث هنا عن النظام الاجتماعي، ومع هذا لم تك بغداد بعيدة جدا عن القرية، بل سرعان ما انكسر انتصاب البنايات حتى انكشفت بغداد عن قرويتها الفجّة، أتحدّث عن تجربتي معها، ربّما لأنّني وصلتها متأخّرا جدا، بعد أن هيمنت ثقافة الجنوب والغرب، نمط العلاقات الاجتماعية، البناء العمودي، الأبوي، الشفاهية، العائلتية بأبشع تمثّلاتها، يلد النبيّ نبيّا، والملك ملكا، كما يلد الحمار حمارا. مرّة كنت اتحدّث مع رجل كبير من اهل ميسان وكان يحدّثني عن معركة حصلت في الجنوب ايام العهد الملكي بين آل إزيرج والبزون، سألته عن السنة، فقال: من كان ماكو وكت، ثم أردف قبل عام من دكة رشيد عالي الكيلاني (يقصد الحركة الانقلابية عام 1941) وقوله من كان ماكو وقت، يقصد به لم يكن ثمة حدث تأريخي مهم يمكن ان يؤرخوا حياتهم بالنسبة اليه، كحادثة الفيل في مكة، او هجرة النبي الى المدينة، والشارع العراقي يؤرشف بحركة رشيد عالي ولا يؤرشف بتأسيس الدولة العراقية وفي هذا اشارة الى بعد لحظة التأسيس وانفصالها عن ذهنية الشارع يومذاك، لقد كان التأسيس لحظة نخبوية ليست جماهيرية.
بغداد في التسعينات قرية كبيرة لا غير، فليس غريبا أن ترى رجلا يقود بعيرا في شوارعها لبيع الملح، أو أن ترى الماشية وهي تأتي على المتبقّي من حدائق التمدّن القتيل، يومها سألتني طالبة ماجستير: ما هو أوّل قرار تّتخذه لو نصّبناك أمينا للعاصمة؟ قلت: أعلّق رعاة الماشية على أعمدة الكهرباء.
أذكر يومها كتبت مع الجميل (عباس اليوسفي) نصوصا عن صلع بغداد، كانت بغداد عاصمة صلعاء، وأعتقد أنّ صلعي وراثيا. الحدائق واجهة التمدّن، تدخل في باب الاستمتاع، التبرير المنطقي الوحيد لوجودنا في العالم.
عمان كانت مسامة الجدار، كان العراق يتصبب عرقا من مسامة واحدة، وكنت قطرة واحدة، الوقت في عمان هو الجنة والنار يرقصان معا فلا تدري على اي الارضين أنت، ومع هذا كانت سنواتي فيها حافلة وغزيرة على صعيد القراءة وعلى صعيد العلاقات الاجتماعية، في البدء احسست بغربة كبيرة، كنت بعيدا عن القراءة حتى عثرت على مكتبة عبد الحميد شومان، انت بحاجة الى جزء من المكان لا الى كله، تحتاج الجزء الذي يقتل ثقل المكان، وأظنني كنت محظوظا بذلك، توفرت لي امكانية قراءة التاريخ الروحي للاردن، هكذا تقف قريبا من لحظة تأسيس الأديان، الهجرات، ابراهيم، لوط، موسى وشعيب، لحظة عمان جعلتني كائنا اجتماعيا، هذبت شيئا من نرجسيتي، إلا أنّ المدينة أيضا سرعان ما انكشفت عن بداوتها.
أما لحظة سدني التي بدأت قبل عامين تماما فهي بداية كبيرة جدا، نقلة في الزمن وفي اللغة أيضا، لا يمكن قراءتها كمنفى، المنفى هو قلقك الذاتي، سؤالك الذي ينتقل معك لا المكان، أحتاج الى وقت أطول كي أمسك بلحظة سدني كانفتاح أكثر في بناء الذات.