* تراتيل الملاك وبصريات الصمت في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي
* هل النص المسرحي البصري ضد الأدب والتكنولوجيا؟
د. فاضل سوداني: يعتبر مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي الذي تشرف عليه وزارة الثقافة المصرية، من أهم المهرجانات في الوطن العربي، وما يؤكد هذا هو التنظيم والأ هداف الحضارية والتنويرية التي يتميز بها المهرجان وذلك نتيجة تراكم الخبرة التنظيمية السنوية للمشرفين عليه، والطريقة التي يتم فيها استيعاب عدد وتنوع العروض المسرحية العالمية والعربية او الجدية في إقامة الندوات، فمهرجان القاهرة التجريبي هو المهرجان الوحيد الذي يخطط بشكل حضاري وثقافي من أجل الفائدة العامة في الندوات الفكرية. ومن المبادرات المهمة غير المسبوقة هيطبع العديد من عناوين الكتب التي تشيع الثقافة المسرحية التنويرية وغيرها من الفعاليات الاخرى، وكل هذا ساهم في ان تكون للمهرجان مكانته الخاصة في المهرجانات المسرحية العالمية. ومن هنا يمتلك المهرجان ضرورته واستمراريته لتطوير المسرح العربي عموما الذي اصبح مهمشا ومحاصرا من قبل ثرثرات وسذاجات وسائل الاعلام، مما أدى الى أن يفقد المتفرج ملكة التذوق والتلقي الجمالي. وفي هذا العام ستقام الدورة التاسعة عشر للمهرجان في سبتمبر 2007 ومن الممكن القول بان إحدى أهم الفعاليات الفكرية في المهرجان هي الندوة الرئيسية التي تحمل عنوانا مميزا هو ( التجريب المسرحي والتكنولوجيا ). و ستتم مناقشة مشكلة النص المسرحي في عصر التكنولوجيا وكيفية الاستفادة منها في المسرح عموما. وبدعوة من وزارة الثقافة وإدارة المهرجان سيساهم د. فاضل سوداني ببحث حول
النص البصري ضد الادب والتكنولوجيا
او (تراتيل الملاك وبصريات الصمت)
حيث سيؤكد من خلال بحثه بان موضوع الندوة (الاتجاهات التجريبية في التأليف المسرحي / ضد التكنولوجيا ) يحيلنا الى السؤال الأكثر أهمية وهو: هل تستطيع الآلات ان تفكر وتخلق بصريات الجمال؟ وبالتأكيد فإن هذا يحدد طبيعة علاقة المسرح ولغته الخالصة ـ كونه فنا مستقلاـ بالتكنولوجيا.
ولكن السؤال المهم أيضا هو: هل تدعم التكنولوجيا الفنية المسرح وتعيده الى لغته الخالصة؟ أم أنها تهمش وتسطح هذه اللغة المسرحية عند استخدام المسرح لوسائل التكنولوجيا كالفلم والوثيقة والفديو والانترنيت وغيرها.ومن الضروري ألا ننسى بأن التجريب في الفن الحداثي عموما يمتلك ضرورته ولا يمكننا أن نحقق هذا ونحن نعيش وسط اليقينيات و التابوآت، ولذلك علينا التزام مبدأ الشك في كل شئ متوازيا مع تأويل التأويل، حيث ان فلاسفة الشك ماركي، نيتشه وفرويد قد أنجزوا الكثير في هذا المجال.
من المعروف إن التجريب والطليعية في المسرح ألان هي نتاج لثورات واتجاهات فنية حدثت بداً من الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية العشرين كالرمزية والدادائية والسريالية وغيرها، وبعد ذلك ماطالب به انتونين آرتو بقذف المسرح الاوربي الى الجحيم لأنه مسرح مسموع وغير منظور بالمعني البصري الرؤيوي.
وقد تركزت هذه الثورة التجريبة والطليعية في خمسينات القرن الماضي في شتى مجالات المسرح وخاصة في النص المسرحي حيث كان للمؤلف الطليعي الدور الأساسي في خلق أساليب التأليف البصرية الجديدة في هذه الفترة وفي المقدمة يونسكو وبيكيت. ويعتبر الفريد جاري وأبولينير وانتونين آرتو من الذين مهدوا لثورة النص البصري الذي كتبه بعد ذلك كل من يونسكو وبيكيت وكوكتو وآداموف وجينيه وأدوارد آلبي وغيرهم. ففي مسرحية اوبوملكا 1896 وابو مكبلا، ثار الفريد جاري ضد المفاهيم البرجوازية وكشف عن عالم مقلوب القيم. وقد لعبت أيضا مسرحية ثديا تريسياس السريالية لابولينير دورهاوتأثيرها، وكذلك مسرحية ترستيان تزارا. ومن السرياليين الذين مهدوا لمسرح الطليعة كان روجيه فتراك وريمون روسل إضافة الى جان كوكتو. والهدف هو (إيقاظ المتفرج وإدهاشه من خلال كشف غير المألوف والخارق للعادة ضمن حياتنا اليومية).
ولكن التنظير الأكثر أهمية في التمهيد لمسرح الطليعية في الخمسينات والمسرح البصري ما بعد ذلك في العالم ككل قام به انتونين آرتو ومفاهيمه الفلسفية حول مسرح القسوة. وبالتأكيد فان جميع الاتجاهات الفلسفية والأدبية الجديدة أثرت على مؤلفي المسرح الطليعي، فالوجودية وخاصة أفكار سارتر بالذات مارست تأثيرها الكبير.
ويعتبر يونسكو وبيكيت حتى الان من أهم الكتاب الطليعيين، لذا فان دراسة نصوصهما التي هي نصوص بصرية بلغة مسرح خالصة، تمنحنا الحصانة ضد الأدب والتكنولوجيا كنصوص شكلت لغة الكتابة المسرحية البصرية المعاصرة.
اللغة البصرية في النص
1) صموئيل بيكيت والنص البصري في زمن الصفر.
ضعنا بيكيت دائما من خلال مسرحياته أو رواياته، على حافة الهاوية، بل أن جميعها مترابطة تشكل طقوس جحيمية للقيامة، وبالرغم من هذا فان شخصياته تنتظر الأمل بلا جدوى. ان الماضي بالنسية لهم هو الكابوس الحقيقي ومع هذا فهم ينتظرنه، وهم دائما قلقون لهذا نراهم ينتقلون من كابوس الماض الى آخر حاضر.
وهذا الإحساس في الفراغ أو العدم يدفعهم الى الانتقال من كابوس الانتظار ( في كودو ) الى كابوس الثرثرة والوجود الكاسل او غير المجدي في( الايام السعيدة).أن مثل هذه الشخصيات لا تسطيع العيش في الحاضر بل أن وجودهم هو ماضوي لهذا يضطرون أحيانا أن يستمعوا إلى ماضيهم لأنهم لا يستطيعون العيش فيه حقيقة كما في مسرحية (شريط كراب الاخير ).
2) يوجين يونسكو وديناميكية الذاكرة المطلقة للأشياء.
يحاول يونسكو دائما تصيد الكتابة عن عالم قد يبدو غريبا لكنه حقيقي، ولهذا يمكن القول ان الحياة الحقيقية قد تكمن في الأحلام او الكوابيس وعلينا إظهارها او تكبيرها،أي مناقشة جوهر حقيقة الحياة.ولدى يونسكو أن عدم التفاهم وموت اللغة واللامعنى هو الكابوس الذي يتكرر في كل مرة والذي يتحول فيه الواقع الى واقع حقيقي لكنه أكثر كابوسية من الواقع ذاته.
وتعتبر مسرحيته الكراس نصا بصريا، فهذه الأشياء ( الكراسي) والتي ملأ بها المؤلف فضاء المسرح، منحها بعدا استعار يا ميتافيزيقيا آخر بعيدا عن وظيفتها الحياتية مما خلقت هذيانها الوجودي وذاكرتها البصرية. وكل هذا انطلاقا من أن المسرح البصري بلغته المسرحية الخالصة هو الذي يجعل الإنسان (أن يستمع بعينيه ).
ولكن النص المسرحي المعاصر بعد ذلك ظل يراوح في مكانه، والعرض المسرحي الان ابتلى بالتكرار والآلية حتى أصبح المسرح عموما مملا ووسيلة للتجارة وهامشية الفكر والجمال.
إذ أن (تطور الثورة المسرحية هذه والحملة التي نادت بمسرح الرؤيا، بالرغم من انها سارت بشكل متواز مع التطور الذي أدى الى إزدها ر السينما، أنتج مسرح المخرج، مما غذت الصور السينمائية والتقنيات فن الاخراج).
المسرح والتكنولوجيا
يلجآ المسرح والنص المسرحي الأدبي إلى التكنولوجيا ويعتمدان كليا علي امكتشفاتها لأنهما يفتقران للغة المسرحية البصرية الخالصة، مما يتم أللجو إلى وسائل أخرى غير لغة المسرح والهدف هو الوصول إلى الحقيقة أو شبه الحقيقة.
أما النص البصري الذي نقترحه والمكتوب بلغة المسرح البصرية بدون اعتماد الوسائل الأدبية في كتابته فانه يرفض مثل هذه الحقيقة او شبه الحقيقة الناقصة لأنه يربط الأحداث والشخصيات ومكونات فضا ء المسرح (كنص وليس اخراج ) يربطهما الى ما وراء حدود الحقيقة او ما وراء شبه الحقيقة. فهو يبغي كشف سر الحياة ذاتها أي الى ما وراء الحياة والواقع والى الجوهر الحقيقي والمتضخم والمكّبر لهذا الواقع الدبق والمزيف.
وبعد هذا التطور التكنولوجي الهائل، هل يمكن للمسرح وبالذات النص المسرحي ان يتطور بمعزل عن التكنولوجيا وان يمتلك لغته المستقلة. ان كل الوسائل الفنية التي ابتدعتها التكنولوجيا كالفلم والوثيقة والفديو... الخ،ونتيجة للاستخدام الخاطئ، ِلم تساهم في تأكيد اللغة المسرحية لفن مستقل مثل باقي الفنون، والسبب هو أن استخدام هذه الوسائل التكنولوجية يعتبر استخداما مفروضا وتقنيا وتزينيا على النص والمسرح وليس نابعا منه وممتزجا ببنائه الداخلي، مما يخلق الاغتراب وهذا يفرض على فنان المسرح وبالذات على الكاتب المسرحي امتلاك القدرة على تكيف الوسائل التكنولوجية لتصبح جزءا من لغة النص البصرية وهندسة بنائه المعماري ولحمته الداخلية.
إذاً المسرح المعاصر بحاجة إلى أن يتمرد ضد تقليديته ورتابته سواء كان في أوربا أو في الوطن العربي. وهذا ما يدعونا الى أهمية إمتلاك تصورا واضحا عن كتابة نص مسرحي بصري يستوعب العصر ويمتلك لغته الخاصة باعتبار ان المسرح فنا مستقلا مثله مثل الرسم و الرقص والموسيقى وهو ما ندعوه بالنص البصري.
ديناميكية النص البصري وتراتيل الملاك
يكمن موت المسرح المعاصر ومستقبله لأسباب كثيرة ذكرت في نص المحاضرة. واقترحنا ما نطلق عليه بالنص البصري. ولكن أي نص بصري هذا الذي من المفترض أن ينبئنا بمستقبل
العرض البصري ويكون ضد التكنولوجيا الهامشية او يمتلك الإمكانية في جعلها جزءا من اللحمة المعمارية لبنائه ؟
وقد قمنا بتأشير الاختلافات الجوهرية بين النص الدرامي الأدبي السردي المغلق وبين النص البصري الذي يوحي بالعرض البصري الذي من خلاله يمكن استخدام الوسائل التكنولوجية ولكن بشرط ان تكون جزءا من البناء الدرامي والمعماري للحدث والنص، حتى يتحول ما تنتجه الآلة الى قيمة إنسانية. فالتكنولوجيا تشكل وسيلة لاغتراب المؤلف والممثل والمخرج والمشاهد إذا استخدمت كوسيلة توضيحية او آديولوجية. أن النص البصري يدعونا الى استخدام الإمكانيات الأسطورية للآلة او وسائل التكنولوجيا الأخرى.
كاستخدام المخرج الالماني ماتياس لانجهوف للفلم في إخراجه لمسرحية رقصة الموت لسنتدبرج كوسيلة لعرض أفكار وأحلام البطلة أليس بطريقة ليست كالتي تستخدم باعتبارها صور فلمية منمقة مما تكون خارج الحدث وليس في لحمته، وإنما كضرورة مهمة لسيناريو النص والعرض الذي أوحى به النص ذاته. ولهذا كان الفلم الذي يعبر عن أفكار وأحلام البطلة يمتلك امتداده الوجودي والتاريخي والاسطوري وهذا يشكل بعض من مهمات المؤلف ـ وليس المخرج ـ كجزء من بناء معمارية النص وبهذا يتوصل المؤلف الى الكلمة المرئية
fasoudani6@hotmail.com
التعليقات