جازف بحياته لأجل رغيف الخبز، كان من الممكن أن يكون طعاما للأسماك أو غذاء الحيوانات البحرية لولا لطف الله به، الزورق الذي عبر به إلى الجهة الأخرى أحرقه تأسيا بطارق ابن زياد تًيًمُنـًا با اللا عودة للوطن، يتطلع لبناء حياة جديدة مختلفة يحدوه الأمل أن يستوطن هناك في بلاد الروامة كما يحلو لأمه تسميتها، الأحلام التي عاشها لأجل التعلق بالحياة يتطلع لتحقيقها مهما كلفته المشاق و المتاعب، وصل البلاد الغريبة، بدأ رحلة البحث عن عمل، يلزمه تدبر أمر المبيت والطعام، بحث كثيرا في شوارع الضواحي كلها متخفيا خائفا من البوليس فهو لا يملك وثائق تمكـّنه من التحرك بحرّية، وجد تحت سلالم العمارة مكانا له، زاوية مظلمة، أستأذن الحارس، توسل إليه ليتركه يبات تحت السلالم طمأنه بإستيقاضه باكرا، وعهده بأن لا يجلب له المشاكل و المتاعب كذلك سيعمل على نظافة المكان كما هدوئه، كان حارس العمارة يبدو من لكنته الفرنسية أنه أفريقي مهاجر. أستطاع أن يتحصل على مكان في قبو العمارة الأرضي ــ la ceve ـــ، مهر في تحويلها إلى غرفة، كانت الغرفة ضيقة بحجم زنزانة السجن، كانت الصور معلـّقة بالجدران
المتسخة تمثل مناظر الوطن، تلال و هضاب و صحاري، ولوحات لصور العائلة كبيرها وصغيرها، كانت صورة الأم و الحبيبة على طاولة صغيرة بالقرب من المصباح الكهربائي، يستيقظ باكرا على الدوام لينتقل لمكان عمله الذي تحصل عليه بعد جهد جهيد، لقد توسط له حارس العمارة مع احد السكان الأوروبيين قاطني العمارة، لقد حولهم الزمن والغربة إلى صديقين حميمين يتقاسمان همّا واحدا، العنصرية غول يطارد كل أجنبي خاصة إن كان لونه العربي باديا. صارا يتقاسمان وجعا واحدا وحش الغربة و البعد. حريص هو على عمله أشد الحرص، المقاول الفرنسي الذي يستأجره لم يصرّح به لمصالح التأمينات خوفا من مقاضاته، العمل في الخفاء و النوم في الخفاء و الأكل في الخفاء وكل شيء يفعله تخفيا عن أعين رجال الأمن وأعوان رقابة التأمينات، يحرص على العمل الجاد و المتقن حتى ينال رضا صاحب العمل و حتى يضمن بقائه، المشكلة التي يواجهها أنه لا يستطيع التجوال في الضواحي جهارا دون الخوف والهاجس الذي يحدث له ضغط الدم. يعود كل مساء يجد ملابسه قضمت، كان هناك فأر جائع يقضم كتان سراويله، ثيابه صارت مخرقة، فالرجل لا يملك طعاما زائدا كافيا
يتفضل عليه، يكون طعام الفأر، كل ما يأتي به يأكله لا يترك منه فتات على طاولته الصغيرة المستديرة، لم يكن للفأر من طعام غير أكل القماش حين يجوع فهو كذلك لا يمكنه الخروج خارج القبو لأن حياته مهددة من القطط والمصائد، ومن الأدوية القاتلة المدسوسة في الطعام اللذيذ فهو شرك الفئران، الفئران رحلت معظمها للريف وما بقى منها يسكن الأنفاق والمجاري. هذا الفأر يشبه صاحبه و المرجّح أنه هاجر معه من الوطن الأم داخل حقيبته، quot;الفأر لا يمكنه أن يحيا معي هو ناشر للآفات سيفسد ثيابي وحوائجي quot;، يقول هذا في نفسه، يبحث عنه حتى يصيبه العياء والدوار دون جدوى لا يجده، لكن بمجرد أن يطفأ المصباح يشعر به يتحرك، يسمع صوته، يريد مباغتته مسرعا يشعل المصباح، لكن لا أثر، اقتضى به الحال إلى أن يشتري مصباحا يدويا، تمكن بفضله من ضبطه حين وجّه إلى عينيه الضوء، لم يتحرك المسكين، أمسكه من ذيله، أراد أن يرمي به للخارج، أو دهسه لكنه تراجع عن ذلك، بوازع الضمير و الرأفة بالحيوان، قال : quot;أنت فقط ما تبقى لي من رائحة البلاد، جئت معي يا شريك غربتي quot; تركه لحال سبيله، تسلل الفأر إلى مخبأه هلعا،
لكن سرعان ما خرج مجددا و كأنه أحس بعفو عام من صاحبه، فكر كثيرا في إيجاد حلا لمعضلة الفأر الآكل القارض لثيابه، اهتدى لفكرة شراء ما يزيد على حاجته من خبز، كان ذلك طعام الفأر،الله جعل رزق الفأر على يده و الله يرزق من يشاء، و الله سخّر هذا لأجل هذا ولو كان حيوانا، كان الفأر بارعا في هواية اصطياد الصراصير. صار الواحد يستأنس بالآخر، تعايشا و تقاسما مكانا واحدا، صار يعلّمه أشياء كثيرة وحيلا كثيرة، كان بالنسبة إليه نافذة يروّح بها عن نفسه، ينسيه التفكير في الوطن، صار ينظّفه يعتني به، أستأنس الفأر لصديقه، كلما دخل أسرع إلى كفيه أو إلى رجله يتسلقها إلى أن يصل كتفه... ظلا على هذا الحال زمنا إلى أن منح مسكنا كباقي المهاجرين، سوّى وضعيته الاجتماعية ونقل معه فأره الصديق، كان لزاما عليه البحث عن شريكة حياته، وجد كذا امرأة بادلته الإحساس و الرغبة المتبادلة في الزواج لكن بمجرد أن يخبرها بحقيقة صحبة الفأر ترفض الفكرة من أساسها، قالت له ذات يوم امرأة تعرّفت عليه في الحي المجاور: ــ تدري أشد ما تخافه المرأة الفأر.
لم يكن له من حل، العشرة تدفعه أن لا يضّحي بصديقه، أحيانا كثيرة تأتيه أفكار بأن يخفي هذا الأمر على النساء حتى يتم له الزواج و بعدها يهتك ستره، يعود في المساء متعبا مهموما بهذا الأمر.. كان عليه أن لا يفكر في هذا الفأر الصغير الذي لا يزن مئة غرام و يضيع أيام عمره انتظارا لموته أو هلاكه، صعب أن يفرّط في صداقته و عشرته خاصة أنه أمضى معه ساعات المحن خيرها و شرها أيفرّط فيه ساعة الفرج؟ نسى أمر زواجه، كان الفأر يتغيب أحيانا، يبحث عنه فلا يجده، المنزل صار فسيحا و هو لا شك مختبئ في بعض الزوايا، أعتاد التغيب لساعات، بدأ ينقص من احتكاكه بصديقه، كان الرجل يشك في أن الفأر يتفهم شعور الإنسان، استحالة أنه عرف سبب امتعاض صاحبه و عبوسه، قرر أن يشدد عليه الرقابة، في السابق كان الفأر يتبقى له من طعامه الكثير حتى يرميه الرجل، لكن لحظ نفاذ ما كان يترك، أثناء مراقبته له خلسة وخاصة عند النوم يستيقظ الفأر يغادر جيب صاحبه و يتسلل إلى فتحة عند الباب، تبعه بحذر، شرّع فتحة الباب بالكاد يدخل ضوء الهول القاسم لسلالم العمارة، لم يجد أثرا لفأره الصغير، عاد أدراجه لسريره و
مثـّل دور النائم، ساعة أو ما يزيد عاد الفأر إلى مكانه شعر به نسى أمره للغد. ألـّح على معرفة الحقيقة، بعد أسابيع وهو على هذا الأمر اهتدى الرجل أن الفأر قد أتخذ لنفسه غارا يتسلل إليه و قتما يذهب هو للعمل و أثناء نومه، لقد سمع الجيران يتكلمون عن رؤيتهم لكذا فأر صغير، منهم من أكد أن عددهم يفوت الأربعة، آخرون أكدوا أن عددهم يتكاثر يوما بعد يوم. فطن الرجل للطعام الذي لا يتبقى و لغياب صديقه ساعات و تفريطه في مصاحبته له كما كان في سابق عصره، في تلك الليلة لما أخرج إزاره من خزانته وجد بعض التخريب وتقطيع خروق لم يشك في فأره لكنه تأكد من دخول فئران غريبة لمنزله و هذا يؤكد كلام الجيران، كان الفأر قد تزاوج مع فأرة التقى بها عند النافذة لما كانت تنزل تبحث في بيدون الزبالة للعمارة عن طعام ومن وقتها تزاوجا أنجبا الكثير من الفئران، لم يكن الفأر يفكر في حال الرجل لما وجد الفرصة للتزاوج، تأكد الرجل أن الإنسان فقط من يريد أن يتعدى طبيعته كإنسان. كان الجيران قد أبلغوا مصالح النظافة و لجان الصحة بذلك، قامت حملة تطهير كبيرة مات على إثرها الكثير، عرف الرجل أي جرم فعله لمّا
أستقدم معه الفأر، حينها فقط تأكدت مصالح الهجرة و السكان أن الرجل لا يحافظ على نظافة المحيط بعدما توصلت إلى المكان الذي تفرخ فيه الفئران، تعرض لمشاكل و غرامات. بعد ذلك لم يعد الفأر يظهر على الأرجح أنه مات بفعل الدواء و الرهج، حزن لفراقه لكنه تحصل على زوجة في نفس العمارة شرطها أن يقبل بقططها الكثيرة.
- آخر تحديث :
التعليقات