في يوم من أيام نهاية شهر آب/أغسطس الماضي، كان سير المركبات في بغداد محضوراً، فخرج المفكِّر العراقي الراحل محمَّد مبارك من مكتب قناة الشرقية بالكرّادة في بغداد سيراً على قدميه المتعبتين متوجِّهاً إلى بيته في منطقة الدورة. كانت المسافة طويلة وشهر آب لهّاب كما يُقال في الأمثال، ناهيك عن مخاطر الطريق الطويلة هاته.
وهو يقطع كل تلك المسافة الطويلة راجلاً، يا تُرى بماذا كان يفكِّر مبارك لحظتها؛ أكان يفكِّر في الموت أم يفكِّر في عودة بغداد إلى هدوئها وجمالها الذي بات حلم كل عراقي وقد مزَّق حثالة البشر بلده إلى أوصال مهشَّمة الكيان؟
وصل محمَّد مبارك منزله في منطقة الدورة الذي كان يضمُّه وابنته، وانتزع سدارته، وطلب إليها أن تمنحه قدراً من الهواء فراحت تفعل بملء ما لديها من عزيمة في صنع الهواء لرئة أبٍ مُتعب. فراح يهدأ قليلاً، لكنه طلب منها أن تعدّ له قدحاً من الشاي، فأقبلت والخوف من المجهول كان حاضراً في روعها.
شربَ محمَّد الشاي، وألقى بجسمه الناحل على سرير نومه بأمل أن ينهض بعد ساعة، لكنه استسلم إلى الموت، فرحلَ بهدوء اعتقدُ أنه كان يتمنّاه؛ إذ كثيراً ما حدثني محمَّد مبارك، أيّام رفقتي له في عمّان بين عام 1999 ـ 2001، أنه لا يريد الموت في مشفى أو على قارعة طريق في بغداد أو في أي منفى، كان يريد الموت في منزله وفي مساء هادئ، فكان له ذلك وفي مساء هادئ.
اللقاء الأخير
كانت آخر مرَّة التقيتُ بمحمَّد مبارك نهار يوم 5/9/2005 في بغداد، وتحديداً في quot;دائرة الشئون الثقافية العامةquot; في منطقة سبع أبكار شمال بغداد، وكان بيننا مُبدعين عراقيين رائعين، هما: أحمد خلف وحنون مجيد، فأهداني مبارك كتابيه: quot;مقاربات في العقل والثقافة/ بغداد 2004quot; وquot;الوعي الشعري ومسار حركة المجتمعات العربية المعاصر/ بغداد 2004quot;. وكان كل منهما قد ضمَّ بحوث في الفكر والفلسفة والشعر والنقد والأدب.
كانت تلك الجلسة نادرة لما فيها من حوارات ذات ثراء مع الحاضرين. عند الوداع قال لي مبارك: أنتَ عائدٌ إلى أبوظبي، لكن دمعته سبقت كلمات جملته تلك، فشعرَ كل منا أنه لن يلتقي الآخر، وهذا ما جرى بالفعل؛ عُدتُ أنا إلى غربتي البغيضة، وظل محمَّد مبارك في بغداده الجريحة ليموت هناك مودِّعاً عراقه المدمّى بالموت المجانيّ.
قبل أن أتعرَّف إلى محمَّد مبارك شخصياً، كنتُ قد تعرَّفت إليه فكرياً، فقد قرأتُ له في بغداد كتابه quot;الكندي.. فيلسوف العقلquot;. وصار عندي، هذا الكتاب، وفي حياتي الجامعية، من أوائل الكتب الفلسفية التي تضمُّها مكتبتي الشخصية. لكن مبارك ما كان حاضراً في الأوساط الجامعية بقوة كما هو حضوره في الأوساط الثقافية، وفي المناسبات الثقافية، وفي لقاءات المثقفين العراقيين في المؤسسات الثقافية والإبداعية، وفي أثناء المؤتمرات والندوات والورش الفكرية والثقافية.
في تلك الأماكن الرائعة، ومنها شارع المتنبي، التقيتُ بمبارك لأكثر من مرَّة، كان يحبُ طلاب الفلسفة الجامعيين، يرعاهم كأنهم أبناء له وهو يعلم أن أي طالب في قسم الفلسفة بكلية الآداب يعرف محمِّد مبارك من خلال كتابه quot;الكندي.. فيلسوف العقلquot;. لكن تعلَّقي بما كان يكتبه كان مثمراً، فقرأت له من كتبه: quot;مواقف في اللغة والأدب والفكرquot;، وquot;دراسات نقديةquot;، وquot;نظرات في التراثquot;، وquot;محاولة في فهم شخصية الفرد العراقيquot;.
ضواحي الغربة
شاءت الأقدار تجمعني المنافي بمحمَّد مبارك، كان ذلك في عمّان الأردن بين عام 1999 ـ 2001. كان كلانا هناك في تلك العاصمة، نلتقي في ضحوات أغلب أيام الأسبوع بمكتب quot;جريدة الزمانquot; بعمَّان والأحاديث لا تنتهي عن الفكر والثقافة، عن بغداد والعراق والصحافة، وعن أوضاع المثقفين العراقيين في المنافي.
في منتصفات تلك الأيام كنا نلتقي في quot;مقهى السنترالquot; وسط العاصمة عمّان؛ حيث حضور المبدعين العراقيين فيها، وملجأهم الطليق. أما في المساء فنلتقي خلال مناسبات ثقافية عدة لتمضي أيام غربتنا بالأردن قاطعة من سنوات العمر أحلى زهراتها.
في الأردن أيضاً، كان محمَّد مبارك يكتب الكثير لجريدة الزمان، لكنه اهتم أيضاً بنشر كتابه: quot;الجابري بين لالاند وجان بياجيهquot;، فصدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر هناك.
عاش محمَّد مبارك سنوات الألم العراقي بكل جوارحه، عاصر أزمنة الأنظمة السياسية التي مرَّت على العراق الملكي والجمهوري، عاش تحوُّلات العراق الفكرية التي امتدت لنصف قرن مضى. وفي خضمِّ كل ذلك، ظلَّ مبارك وفياً للحقيقة المفكَّر فيها على أنها نتاج لحركة الواقع وصراع جملة القوى الداخلة في تكوينها.
بالإضافة إلى مؤلَّفاته التي ذكرتُ، لمحمَّد مبارك مؤلَّفات فكرية أخرى لم تلقى الاستجابة التفاعلية على الصعيد الفكري في العراق، خصوصاً مشروعه الفكري الذي حمل عنوان: quot;نشوار القراءة الفلسفيةquot; الذي يتكوَّن من ثلاثة أجزاء ضخمة، وهو مشروع يقرأ تاريخ الفكر الفلسفي في مراحله المعتادة: اليونانية، والعربية الإسلامية، فالمرحلة المدرسية والحديثة.
ما الذي ما زال مخبوءاً من بحوث وكتابات ومؤلَّفات محمَّد مبارك في منزله أو في عهدة المطابع؟. هل كتب محمَّد مبارك مذكراته؟. هل كتب شيئاً عن سنوات الجراح الجديدة التي مرَّت على العراق؟ هل كتب شيئاً جديداً عن بغداد، عن الحلة؟
لا ندري، لكننا ودّعناه عن بُعد وحيداً مثلما نحن وحيدين في منافينا وأوطان غير أوطاننا.
في هذا الصيف القائض، وتحت رماد الدمار، ودّعنا ألمع مبدعينا ومفكرينا العراقيين، منهم: مدني صالح، محمود الجادر، عبد الإله أحمد، ومن ثم تلحق بهم أنتَ يا محمَّد مبارك؛ فوداعاًً يا أبا حيّان..
كاتب عراقي
[email protected]
- آخر تحديث :
التعليقات