د.فاضل سوداني: عندما عبرت اوربا ـ الصفيح ـ سئما بعد ثلاثين عاما من منفاي، وقفت في الضفة الاخرى من بحر طنجة لا اعرف مكان العبور، فتذكرت قارب الإنقاذ لحارس البرزخ الطنجي. وعندما هجس بأنني أود العبور إلى الضفة الأخرى من الشمس: قال: طنجة عصية على الاستحواذ. وكل الذين عبروا يعرفون بأنها مثل ميدوزا يمكن أن تحيل الإنسان إلى حجر.
لكني اعتقد بان كل الذين عبروا جاءوا للبحث في طنجة عن ذواتهم أو سر منفاهم الذاتي،أما نتيجة للإحساس بالعدم أو جاءوا لاغناء وتطور التجربة الإبداعية. لأنه ما من باحث عن الحياة عبر إلى طنجه دون أن يشعر بأنه في قلب العالم.
ولكن ما من لاهث جاء طنجة دون أن يشعر بان شيئا في روحه قد تطهر، وعندما يرحل سيشعر بان شيئا أخر في روحه قد تهدم،غير انه يحمل معه سر خفي في الآن ذاته .
عن أي شئ بحث كل هؤلاء الذين جاءوا إلى طنجة ؟؟
وما هو السر الذي اكتشفوه ؟ وفي ذات الوقت ما هو حجم الخراب الروحي الذي لحقهم ؟
لذلك فهم أما أن يرحلوا منها إلى الأبد، أو هي تشدهم للعيش فيها إلى الأبد، بعد أن تُهدم فيهم الكبرياء القديم.
فإذا جاءوا من اجل أن يبحثوا عن سر منفاهم الداخلي أو عن فردوس مفقود أو مدينة وفضاء للتعايش والإبداع.. فهم عندما يطئون أرضها للمرة الأولى سرعان ما ينسون الهدف الذي جاءوا من اجله، لأنهم ينشغلون بالبحث عن سر المدينة، نعم ليس سرهم كذوات قلقة، وإنما البحث عن سر طنجه الذي سيساعدهم على أن يعيشوا انفلات الزمن الإبداعي وهو المعنى الآخر للفردوس المفقود وبالتأكيد فان هذا سينعكس في إبداعهم وحياتهم الجديدة ، فهم العراقيون منفيون أبديون في المكان والزمان...وهم أرواح منفلتة في غابة المدن.
وها هو ديلاكروا،، الكسندر ديماس، مارك توني، روبين داريو، بلاسكو ايبانيث، بيو باروخا، هنري ماتيس،والتر هاريز (مراسل التايمس اللندنية جاء طنجة عام 1886 وبعد أن عاش فيها أكثر من خمسين عاما انتقل إلى مالطا ومات عام 1933 وطلب في وصيته أن يدفن في طنجه )إضافة إلى بول بولز والكثير من شعراء الحياة الكسالى اعني الهيبيين.
إذن هل كانت طنجة هي المنفى والملجأ في الآن ذاته ؟؟
وما لذي منحته لكل واحد من هؤلاء الفنانين والمبدعين العالمين أو الفنانين المغاربة ؟.
والمثال البارز في مجال التشكيل العالمي هو الفنان الفرنسي:
هنري ماتيس
وفي هذا المجال يتبادر إلى أذهاننا دائما سؤال يشمل جميع المبدعين العالميين سواء الذين جاءوا للبحث عن طنجة أو الفنانين المغاربة والطنجاوين بالذات. والسؤال هو: ما الذي يبحث عنه الرسامالمسافر الذي يعبر بحر طنجة وأيضا الفنان المغربي المنفي في المكان ؟
ويمكننا القول بان (أوجين دولاكروا بحث في المغرب عن المواقف، والوجوه، والأجسام المتحركة، فمغربه هي مغرب quot;خفيةquot; وquot;غريبةquot; وإلى حد ما quot;وحشيةquot;. و مغرب دولاكروا لن تكون هي مغرب ماتيس، لأن ماتيس لم يهتم إلا بضوء المغرب الذي يعتبر مصدرًا لا ينضب من الألوان المتوسطية، حيث يسود اللون الأزرق الدقيق والمتناهي والمتغير.) و كان يريد من الألوان إن تتوهج وتغني.
ومن جانب آخر (اكتشف ماتيس في طنجة المغاربة كفضاء إبداعي جديد حيث رسم النساء بالحجاب والقفطان المغربي و نضجت الملامحlaquo;العربية والبربرية في لوحاته واستمرت معه هذه الملامح حتى النهاية،)
واستطاع ماتيس أن يؤثر على معاصريه من الفنانين بطريقته في استخدام الألوان الصارخة والمتوهجة (ولهذا فان لوحته الشهيرة المغاربة حفزت بيكاسوا أن يرسم لوحة الموسيقيون وبتأثير ماتيس رسم بيكاسو أيضا ملامح الفيكورات العربية بالرغم من انه لم يزور الشرق )
(فمع اكتشاف ماتيس لجمالية صياغة اللون الصارخ والوحشي.... بني زخرفيه شرقية استمدها من تأملاته إثناء زيارته إلى المغرب متجها تدريجيا نحو إعادة صياغة الزخرفة الهندسية بلمسة لونية وعفوية متحررة وهي نفس الطريقة التي سار عليها الفنانين العرب)
ـ وحتى أولئك الذين مروا بطنجه سريعا من الفلاسفة والمبدعين مثل سارتر وسيمون ديبوفوار وجان جينيه وصموئيلِ بيكت وغيرهم، عندما تركوها وعبروا إلى الضفة الأخرى نحو مدنهم لابد أن يكون فضاءها قد أضاف لهم سؤال ما راودهم أو سر جمالي أو حياتي جديد أو لا بد أن يكون قد تهدم شئ ما عزيز عليهم. واعتقد بان هذا هو السبب الذي دفع جان جينيه لتسميتها بطنجة الخيانة.
ومن جانب آخر فان الشئ الجوهري هو كيف انعكس فضاء طنجه في إبداع الفنانين المغاربة والطنجاوين بالذات ؟
وسأتناول في مجال الفن التشكيلي بعض من إبداع الفنان
عبد الباسط بن دحمان
فمن اجل إن يؤثر الفن التشكيلي في الوعي الفكري والجمالي للفنان والمتلقي يكون من الضروري التفكير بجوهر وماهية الفن باعتباره بحث قوامه وطبيعته اجتماعية فلسفية جمالية وفينومينولوجية ـ ظاهرا تيه ـ وهذا يتطلب تغيرا في المفاهيم الأساسية للغة الفن البصري.
ففي هذا الفن يتحول الزمن الواقعي إلى زمن فني إبداعي يشكل بعدا ميتافيزيقيا، أي زمن الرؤيا والحلم والواقع اللامرئي في حركته الديناميكية.
ولذلك فان البعد البصري يساعد على تحقيق الامتداد اللامرئي لمكونات عالم اللوحة خارج إطارها أي خارج عالمها، وفي ذات الوقت الامتداد داخل العالم الخارجي (عالم الفنان والمشاهد والواقع).
لان اللوحة بالرغم من انتمائها إلى العالم المتناهي إلا أن طبيعة الرؤيا البصرية للفنان التي تبحث في المجهول هي التي تغني مكونات فضاء اللوحة ليتعمق امتدادها في اللا متناهي عندما تكشف اللوحة عن سرها وسر المدينة من خلال طرحها لذلك السؤال المصيري والوجودي الذي يهم الإنسان والمدينة في ذات الوقت.
ويمكن اكتشاف هذا في إبداع الفنان عبد الباسط بن دحمان، حيث انعكس الفضاء الطنجي من خلال هاجس التعبير عن انفلات الزمن وانسيابه. وتمثل هذا في مجمل لوحاته وبالذات في وجوه تلك الفيكورات الحالمة التي تشع دائما وسط فضاء حلمي وضبابي وكأنها تخرج من العدم لتعيش انفلات الزمن،أي أنها تنير ذاتها من البعيد الضبابي أو المظلم النائي لتتجه نحو مقدمة اللوحة ومن ثم يشع تأثيرها خارج إطارها، نحو الآخر، المشاهد أو واقع الفنان المرفوض.
و بالرغم من أننا نرى بعض اللوحات بن دحمان وكأنها غير مكتملة الانجاز حتى لتبدو بعض أجزائها وكأنها تخطيط بالقلم، ولكن في هذا يكمن التكنيك البنائي للوحة الذي يفترضه الفنان.
ودور بن دحمان كفنان في لوحته يبدو بوضوح بأنه المتحكم بمصائر فيكوراته محاولا انتشالها من ضبابية العدم لتتمركز بوضوح في مركز اللوحة.انه خالق مكونات اللوحة ومبدع الحياة فيها تلك التي لا تتطابق مع الواقع.
فالفنانينحت وجوه الفيكورات المغربية السمراء ذات العيون الهامسة التي تتعدى حاسة البصر الإنساني فيها، إلى نظرة ميدوزا المغربية وهي تقف حافية على سطح البرزخ البحري لحراسته.انه عالما زاخرا بالمهيمنات من النساء الساحرات الجمال اللواتي يمتلكن إسرارهن أو نظراتهن السرية.
أما الفيكورات الأخرى فتنظر نحو الفنان ومتلقي اللوحة باندهاش وذهول وتبدو كذوات منفصلة وغير متعايشة مع بعضها بالرغم من أنها يمكن أن تتعايش مع الحيوان كما في لوحة (تعايش). وتبدو جميع فيكورات اللوحة منشغلة بعالمها الخاص وتعيش في عالم له طقوسه واحتفالاته الحزينة وكأنها تسير في طقس سيروموني موحد للموت.
انه عالم سري خاص تتداخل فيه الوجوه ـ التي تبدو شاحبة في الكثير من الأحيان ـ مع الأشياء والألوان لا يحكمها سوى منطق العمل الفني وليس الواقع. فيكورات لها إيقاعها الحركي واللوني الخاص كما في لوحة (إيقاع). وبالتأكيد فان التأويل الجمالي والفلسفي يكمن في المسافة السرية واللامرئية بين مصدر الإشعاع البصري في اللوحة والمشاهد.
و مهمة التأويل الإبداعي هنا فيها الكثير من الغنى لأنه لابد أن يبحث في اكتشاف ذلك السؤال الذي تعنيه النظرة السرية المراوغة الخفية التي تشع من عيني ميدوزا المغربية لتخرج من الإطار إلى الفضاء الآخرـ الخارجي.
ـ الشئ البارز عند الفنان بن دحمان هو أن هذه الشخصيات محاطة دائما بأشياء ثقيلة كالملابس وملحقاتها بألوانها المضببة الخاصة أو محاطة بتلك الأشياء التي لها وجودها المعبر في فضاء اللوحة، حيث لا بد أن تنبثق من مكان ما في هذا الفضاء يد تمسك تلك الأشياء الأخرى التي تشبه علب العطور أو لعب الأطفال البدائية والتي تشكل جزءا ضروريا من تكامل شخصية الفيكر والفضاء أيضا.
ـ دائما تطغي على لوحات بن دحمان الألوان المتوسطية كاللون الأزرق المثالي. ففي هذا الفضاء المتموج الذي يؤشر لنا زرقة سماء وبحر طنجة تتحركالفيكورات، وكأنها تعيش في) وكذلك في لوحة (الحلم). Act3 ( زبد البرزخ البحري كما في لوحة :
أما الألوان المستخدمة الأخرى كاللون الصحراوي أو البني أو الأحمر الصارخ فإنها تبدو كبقع توحي لنا من جانب آخر بذلك اللون المتصوف المنزوي بين تشكيلات اللوحة وفيكوراتها ووجوهها السرية الغريبة.
ـ إن حركة الخطوط وإيقاعها تبدو منسابة وضبابية أيضا لكنها تصبح عنيفة ومتوترة عندما تتمركز الفكورات وسط كون اللوحة وفضائها فيبدو وكأنه فضاء مسرحي درامي موزع بميزانتسين دقيق التشكيل والتركيب الهندسي، قد يوحي أحيانا باستلهام للفنان كليمت وكذلك الفنان ديلاكروا ورمبرانت اللذين يحاورهما بن دحمان فنيا دائما،إلا أن كل ما موجود في عالم اللوحة هو عالم فيه الكثير من لون وتوتر الحياة المغربية. وهذا كله يساهم في طرح السؤال المصيري الذي يقلق المشاهد مادام الفن هو الذي يكثف ويؤسلب الحياة والطبيعة.
وعكس بن دحمان هنالك تجربة أخرى مختلفة للفنان الفقيه ركراكي الذي يعمد إلى
استنطاق الأشياء كالأبواب والنوافذ و يتعامل معها بطريقة توحي بأنه يمنحها استقلاليتها فتمتلك حركتها وإيقاعها معنى جديدا. لذا يمكننا أن نشعر بوجود نوع من نستولوجيا الأشياء (الأبواب والنوافذ) وحضورها المتوهج عندما يتمظهر وجودها المكثف في اللوحة،لان الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن أشياءه فهي جزء من ذاكرته، لذا فإنها ارتباطا بالزمكان يمكن أن تؤشر أثر الإنسان وهمس مشاعره.
وإذا كان تأويل اللوحة يعبر شعريا عن انفلات الزمن في فضاء طنجة، كذلك فان الشعر المستوحى والمعبر عن هذا الفضاء، لا بد أن يعبر عن تأويل الزمن التشكيلي. وهنا نلمس منفى اللوحة (في الشعر) ومنفى الصورة الشعرية (في اللوحة) كما هو الحال لدى الكثير من الشعراء المغاربة، ولا يكون لهما أي معنى إلا عندما يعبران عن سر الفضاء وسر البرزخ البحري ولا يمكن أن يوجد هذا إلا في الفضاء الطنجاوي.
[email protected]