مازن الراوي من برلين: انتهى قبل فترة معرض المصور الفوتوغرافي العالمي براساي الذي أقيم في قاعة مارتن ـ غروبيوس ـ باو الشهير في برلين. لكن التعليقات والدراسات المعنية بالفن الفوتوغرافي وتاريخه مازالت تعنى بالفنان براساي الذي خلق مبكراً اسلوباً في فن التصوير الفوتوغرافي طبع بطابعه وأرخ له، فضلاً عن تميّز أعماله بطابع فني خاص يقترن ببروز مدرسة الفن الحديث في التشكيل. وعاصر براساي فنانين وكتاب مرحلة ما بعد الحرب الثانية الذين ساهموا في وضع أسس جديدة ورؤية متميزة في الفنون التشكيلية وفي النصوص الأدبية. وإذا كانت السوريالية، على سبيل المثال، فتحت آفاقاً جديدة وهامة أمام الفنون والأدب في تلك المرحلة فقد جاء اسم براساي مقترناً بالتصوير السوريالي وكذلك ببدايات فن التجريد في التشكيل.
ولد براساي في العام 1899 في براسو بهنغاريا وهاجر أولاً إلى برلين سنة 1920، ودرس في أكاديمية الفنون حيث التقى فازيلي كاندنيسكي وأوسكار كوكوشكا وغيرهما من الفنانين البرلينيين المشهورين في تلك الفترة المشحونة بالتجريب وبمحاولة تجاوز الإرث القديم. غادر براساي في العام 1924 ليستقر في باريس وليبدأ حياته هناك صحافياً يكتب على نحو خاص للصحف الصادرة باللغة الألمانية. كان صديقه أندري كيرتيس يزوده في عمله بصور فوتوغرافية للتقارير والموضوعات التي ينشرها. ولكنه فيما بعد، من خلال عمله الصحافي، وجد طريقه إلى الفوتوغراف. في باريس، في العام 1932، أطلق على نفسه الاسم الفني براساي نسبة إلى المدينة التي ولد فيها.
في نفس العام نشر براساي كتاباً مصوراً بعنوان quot;باريس في الليلquot; جعله يشتهر كمصور فوتوغرافي على صعيد العالم. لم تكن الصور المنجزة مجرد توثيق للأماكن أو عرض لوقائع باريسية، بل كانت صوراً تمّ اختيارها بعين بصيرة وبحساسية فنية اشتملت على تحقيق أجواء سحرية أقرب إلى الفن التشكيلي الذي يهدف إلى إثارة المخيلة. وقد عرض متحف الفن الحديث في نيويورك عمله، باعتباره منجزاً فنياً استثنائياً، في معرض القرن المسمى quot;التصوير الفوتوغرافي: 1839 ـ 1937quot;. وقد تمكن براساي بآلة تصويره المسماة quot;فوكتلندر

براساي أمام صوره في معرض له عام 1954
ـ كاميراquot; التي كانت تخلو آنذاك من الرتوش الفنية والمؤثرات الضوئية من السيطرة على التصوير الليلي. وكان واحداً من القلائل الذين صوروا بجمالية فائقة وبحساسية عميقة صوراً ليلية جعلت من أعماله تلك أن تقارن باللوحات الفنية.

قام براساي بتصوير أعماله الأولى، تماماً كأعماله الأخرى، عندما أصبحت السوريالية في فرنسا نموذجاً وحضيت باهتمام الفنانين والمثقفين الطليعيين. لقد تمثلت السوريالية، وعلى نحو جلي، في التصوير الفوتوغرافي، فيما أثرت عليه في نفس الوقت. ومن الواضح أن هذه الواسطة ( التصوير) لعبت دوراً مهماً في تناول الواقع لترفعه إلى مصاف أعلى وتشحنه بدلالات تغني ذلك الواقع.
إحتوى المعرض الذي أقيم على لوحات فوتوغرافية وتخطيطات قام بإنجازها منذ العام 1932 حتى 1960، وتمّ عرضها تحت ستة عناوين. وتمّ عرض اللوحات بالإضافة إلى quot; مجموعة quot; باريس في الليلquot; التي أنجزها براساي في 1932 أعماله المنجزة لمجلة quot; مينوتورquot;( 1933 ـ 1989) وكذلك صور وتخطيطات لكتابه المصور quot; كاميرا في باريس، فضلاً عن سلسلة quot; كرافيتيquot; في 1960.
إشتهر براساي منذ صوره الفوتوغرافية الأولى باريس في الليل التي ثبّت بها رؤيته للمدينة. إنتقى بدقة وبمعرفة شديدة الحساسية لقطات قلّ نضيرها، وأتقن العمل التكنيكي الصعب بآلة التصوير. في أعوام الثلاثينيات تجول ليلاً في أنحاء مدينة باريس سواء بمفرده أو برفقة كتاب مثل هنري ميلر أو ريمون كوينو. وقد شجعه نجاح اللقطات في التركيز على عمله والتطور في مضامينه. أيقظت اهتماماته بالسوريالية جوانب أخرى فيه، مثل تركيزه على ما هو

باريس الضبابية

طبيعي وفطري، حيث قادته تلك الاهتمامات إلى سلسلة أعمال ما تسمى بالمنحوتات الطبيعية، أي تلك الأشياء التي توجد في الطبيعة دون أن يعني بصنعها فنان أو محترف، وإلى لقى مهملة مثل بطاقة سفر وقالب صابون وكتيب وعود الثقاب أو كُستِبان، هذه الأشياء التي لم تجذب الإنتباء آنذاك، أصبحت بالنسبة له موضوعات خاصة فاتخذت هيئة تماثيل فنية. وربما بعد عقود برز فنانون اشتهروا في تصوير مثل هذه المفردات التي سميت بالبوب آرت. وفي مسألة quot;التحويلquot; استخدم براساي رقائق زجاج quot;النيكاتيفquot; المضاءة كمادة خام للتخطيط عليها، وذلك بحفرها وخرمشتها وإضاءتها مرة ثانية للحصول على صور فوتوغرافية جديدة أقرب إلى فن الغرافيك.
لقد أنجز براساي أيضاً ملف صور فوتوغرافية للنساء صاغها على نحو مختلف عما هو متبع، إذ جعل تلك الصور

نيكاتيف

أن تتخذ شكلاً فنياً غرافيكياً ـ صاغها بهيئة آلات الموسيقى مثل الكمان و الجيتارة و غيرهما، التي تظهر فيها تأثير بابلو بيكاسو على نحو واضح. أما صوره في سلسلة quot;الغرافيتيquot; فقد عثرعلى موضوعاته في لقطات مختارة مقربة لجدران متداعية لبيوت قديمة تآكل ملاطها وظهرت فيها بقع ونقوش فوضوية. لقد وجد نوعاً من العلاقة بين تلك الصدف العفوية، الفوضوية في إشارات الغرفيتي وبين صور الكهوف القديمة. وفي هذه الصور إشارات جلية عن المنحى الفني صوب أعمال فنانين من أمثال جين دوبوفيه و جين فاوتري، بل صوب الفن التجريدي عموماً.
توفي يراساي الذي حاز على عدد من الجوائز في السابع من تموز 1984 في بيلو ـ سور ـ مير. وكان المعرض القائم في برلين قد تمً تصميمه من قبل مركز بومبيدو في باريس. وقد ضم الكاتالوك الذي صدر من قبل آلان ساياغ وآنيك ليونيل ـ ماري موضوعات كتبها عنه جان جاك آيلاغون و براساي نفسه بالاضافة إلى كيلبرت براساي و روجر غرينر و هنري ميلر و جاك بريفير و كلاوس آلبريشت شرودر و فيرنر سبيس.