نصرت مردان: بعد مجموعته quot;اليوم الأخير للمطرquot; الصادرة في 1998، يعود القاص العراقي المتميز جلال نعيم بمجموعته الجديدة quot;بينما.. يحدث الآن في بغداد الآن؟quot; الصادرة من دار ألواح. تضم المجموعة 11 نصا قصصيا يمتاز بوضوح شديد، دون ان يعرج القاص إلى استهلالات لا علاقة بها بروح النص أو تفاصيل مبالغة في السردية لا تخدم النص. لذلك فجمل جلال نعيم، تأتي على قدر مساحة، وفضاء البوح. وهو ما خدم المجموعة القصصية كثيرا، حيث يجد القاريء نفسه متواصلا مع النصوص من أول نص وحتى آخر قصص المجموعة. ولكون القاص مهتما بالسيناريو السينمائي، فهو ينجح في الاستفادة من هذه التقنية في كتابة نصوصه، من خلال الانتقالات بين المكان والزمان والشخصيات.
اختار الكاتب عنوان مجموعته (بينما.. يحدث الآن في بغداد الآن؟) من الملصقات الموضوعة على مؤخرة السيارات في أمريكا للتذكير بما يجري في العراق.
كان بمقدور القاص تحويل مجموعته إلى رواية بإجراء تغييرات طفيفة سيما أن البطل في جميع النصوص هو الراوي (سائق التاكسي)، والشخصية الثانية في جميع النصوص هو الزبون الذي يكون في معظم الحالات على علاقة حميمة به او حوار دائم معه، حيث يقوم سائق التاكسي بإيصاله إما إلى بار أو كازينو للقمار او ملهى في لوس أنجلوس أو ولاية أمريكية أخرى، باستثناء قصة هدوء القمر، التي تجري في مدينة عراقية، وهي قصة جميلة عن صبي يريد أن يجد طريقا إلى الله، فتكون النهاية سقوطه على اثر قصف للطائرات، وقصة طيف البنفسج، التي تجري أحداثها في عمان. والشخصية الثالثة المشتركة في جميع النصوص فتارة بار أو بائعة هوى.
معظم الأحداث في النصوص تقع في أمريكا، لكن ذلك لم يمنع سائق التاكسي وفي كل الحالات من أن يقول رأيه وينفس عن المكنون في دواخله ليدين ظواهر غالبة ما تكون سياسية في واقعه الجديد. كما في قصة (إنهم يقتلون الجياد)، والذي يأتي فيه السرد على خلفية صوت المطرب العراقي رياض احمد quot; متكلي اليغفر كم مرة.. كم مرة quot;:
quot; ولكن ما الذي يمكن أن افعله للطائرات المنفلتة المفخخة بالأحياء؟! وما الذي يمكن أن أفعله للأعلام المتوعدة المفخخة بالنجوم هي الأخرى؟!.. تلك الأعلام التي امتلأت بها السيارات والشرفات والسقوف والحدائق.. لا أطيق رائحة الحرب.. quot;.
أحسست في قصة (الماموث) والتي تدور بأحد بارات لوس أنجلس،أن كل جملة فيها تتنفس، حيث تعرض فتاة مفاتنها على إيقاع العري وعواء الشهوة، وبلقطات متسارعة ومتداخلة، يسترجع البطل (سائق التاكسي) ذكرياته الموجعة عن العيون المكممة، والأذرع الممتدة والأقدام المدربة التي تسحق أفواه المعتقلين، وعن الوطن الذي كبر في ظل خرابه، دون أن تفوته فرصة الإدانة أثناء رده على شابة أمريكية quot; أنكم تحيون في قفص مغلق اسمه الولايات المتحدة.. quot;. ولا يخلو النص من التفاتات وترجيعات ساخرة، تكشف عن قدرة القاص وحرصه على إضافة جو من المرح والسخرية على النص، تزيد من ملح النص وطعمه.. كجواب صفاء على ضابط أمريكي ربيع 1991 على أطراف مدينة الناصرية quot; كيف يمكن العيش في عراق صدام بلا عرق ولا استمناء؟!quot;.. ولا تفوتني هنا إشارته المرحة والساخرة في نفس الوقت للممثلة المصرية (نعيمة الصغير) حاملة براءة اختراع الشتيمة المصرية quot; ربنا يوقف نموك!quot;، وتخيله لها وهي تحرض بصوتها الأجش على مقاتلة الفرس أو اليهود، لينعطف بعدها صوب الممثل (توفيق الدقن) ولازمته المعروفة لجمهور السينما العربية: ألو يا أمم!
ويختتم جلال نعيم انتقالاته في هذا النص بقصة حب في عمان، ضمن حوار رائع بين البطل وحبيبته،حيث يكشف هذا الحوار مدى قدرة القاص على مواجهة قرائه بمديات موهبته الإبداعية، التي ستثري القصة العراقية في المستقبل بنصوص متوهجة تحمل اسمه.
في (ليزا وأخواتها) يجد سائق التاكسي الذي ينقل عجوزا من دار العجزة، تخسر دائما إلى كازينو للقمار. وهو يدندن أغنية (شفت حبيبي وفرحت معاه) لمحمد عبدالمطلب. يستعرض الكاتب حياة سائق التاكسي في أمريكا من خلال تعرفه على نساء من جنسيات مختلفة، لكنه خلال حديثه عن معاناتهن والتي غالبا ما تكون جنسية، لا ينسى عراقيته من خلال الحوار بين شخصيات المجموعة القصصية. ثمة مرارة لا تغادر روحه رغم تناوله قنان من البيرة، وانفلاته بين الأجساد النسائية، فهو يحمل جرحا يرفض ان يندمل لذلك يوزع سخرياته وآراءه الحادة (ككاتب) على أبطاله في عالمه الجديد:أمريكا. فالوجع الجواني واضح، لا تفلح العبارات الحسية مع أبطاله في إخفائه.
خاصة عندما يقول:
quot; تتعاملون مع كل شيء وفق منطقه ومعطياته الحقيقية، لكنكم ما ان تصلون إلينا حتى تتناسون ذلك، ولا تنتقون وسيلة للتعامل معنا بغير الاسطورة.. الاسطورة التي صنعتموها لنا وحبستم مخيلتكم فيها.. quot;
يخيل لي أحيانا أن القاص جلال نعيم يغلف كل قصصه بشخوص وأحداث معينة، من اجل أن يقدم فيها إدانته هنا وهناك.
quot; جئت من مدينة كبيرة تخترقها نهران كبيران:تسمونها ميزوبوتاميا ونسميها العراق!quot;
(بينما يحدث في بغداد الآن؟) هي مجموعة قصصية ولدت في بيئة الكاتب الجديدة، لذلك ليس ثمة غرابة أن تعكس اسلوبا وروحا بانوراما حياة تتأرجح في أماكن محددة، تتكرر في جميع نصوص المجموعة: البار، السيارة، القطار، كازينو القمار في حركة لا تتوقف، في رحلة دائمة للقضاء على رتابة حياة سائق التاكسي، كوسيلة للهروب من العودة بذاكرته من مكان المأساة (العراق)، والذي كان عاملا في اختياره عالمه الجديد.
في (قطارات)، ينطلق صوت الراوي كما في جميع النصوص من قطار، ينطلق إليها، بينما هو يصف جلستها في زاوية البار،يتوق شوقا إلى لقياها، ليس لرؤيتها، لأنه يعتبر المشاهدة فعل محدود، بينما الملامسة اكتشاف يقشعر له جلد القلب، حيث الملامسة يضخ فيه لوعة متدفقة.. ويستمر المونولوج (الحوار الداخلي) حتى وهو يتبادل الحديث مع مايك.. وفي جميع الحوارات ثمة دفق جنسي دافيء، يشيع حتى من خلال الحوار بين مايك وفتاة البار.
في (little Saddam) البطل يعمل سائقا عند أمريكي يكتب أعمالا كوميدية للسينما والتلفزيون، يسميه (صدام الصغير) بينما يناديه بـ (بوش الكبير)، وخلال جلسة تجمعهما يتبادلان خلالها النكات والحديث عن النساء، ينتهز الكاتب كعادته هذه الفرصة ليلقي الضوء على الواقع بين الأمريكان والعراقيين:
ـ أولا عراقنا هو (ميزوبوتاميا) بلد الرافدين،وليس بلد صدام حسين..
ـ وصدام؟
ـ خادمكم الذي أوليتموه على رؤوسنا.
ـ نحن من أزاحه.
ـ طبعا فانتم من ساهم بصنع ماكينة إرهابه، فتعرفون جيدا كيفية تفكيكه..
تنقلب القصة إلى حديث متبادل بينهما، يكشف خلاله سائق التاكسي عن خيبته:
quot;.. خيل لي بأني حملت جذوري من هناك بحثا عن أرض صالحة لأنبتها فيها ولكني ما وجدت غير الهواء.. quot;
في (Meanwhille.. in Baghdad.. ? (يتواصل حوار مشاكس، غير تقليدي بين سائق التاكسي مع زبونه الأمريكي، خارج إطار حدود الحوارت اليومية التقليدية، حورا ساخن يكشف نفسية سائق التاكسي وزبونه اليهودي الأمريكي رايان، ومن خلاله أيضا يواصل الكاتب إدانته لطبيعة مجتمعه الجديد:
quot; لم يبق لأنبيائكم غير الجيوش؟quot;
quot; هؤلاء نحن.. وأنتم؟ quot;
quot; نحن مازلنا نسمع أصداء الاسطورة quot;
quot; من كتب بخرائط متآكلة؟ quot;
quot; بل دولة وكأنها شيدت كأستوديو لتصوير فيلم سينمائي.. وحولوها إلى واقع quot;.
quot; تختزلوننا إلى صدام وبن لادن.. وهي قمة العنصرية، ولا نختزلكم إلى بوش أو شارون مثلا!quot;
في هذه القصة أيضا يتكرر نفس المكان: البار وفتيات وعبق الجنس.
سائق التاكسي في (بينما.. يحدث الآن في بغداد؟) يختزن في ذاكرته همومه ووجعه العراقي، في الوقت نفسه يتسلل عبر تجواله في نصوص المجموعة إلى البارات ومحلات القمار والمواخير وأماكن اللهو، لينقل للقاريء صورا من واقع حياته الجديدة، ليكشف من خلالها الوجه الحقيقي للعالم الذي بات ينتمي إليه من خلال نقاشات وسجالات مع أبطال قصصه، ليدنيها ويكيل لها الصاع صاعين.
لقد تكمن القاص جلال نعيم وبحرفية عالية في مجموعته الجديدة، ومن خلال البطل الواحد (سائق التاكسي) من كتابة عمل إبداعي متميز في اسلوبه وأجوائه.
بالنسبة لي قرأت (بينما.. يحدث الآن في بغداد؟)، وكأنني اقرأ رواية مكثفة، أكثر من إحساسي بقراءة مجموعة قصصية. من الآن سأبدأ بانتظار إطلالات جلال نعيم المقبلة على فضاء القصة العراقية.