عدنان المبارك: سؤال بالغ القدم: هل بمكنة الوعي أن يكون ذا كيان مستقل تماما؟ أيعني ذلك أمرا شبيها بما يسمى الكينونة الصرفة التي هي غير مرتبطة بالجسم ولا العقل؟ إذن أهي شيء قائم خارج الزمكان كإسقاطات للعقل؟
العقائد الدينية ترى الوعي مرتبطا بالنفس. في أنظمة الإيمان الهندية يتطابق الوعي مع المطلق (براهمان)، وهو في الهندوسية بعدٌ لا شخصي للمطلق، وفي الفشنوية يتغلغل المطلق في كامل الخلق المادي ل(الإشراق). أكيد أن للمطلق صفة الأبدية. أما الغورو/ المعلم الكبير آدي شانكارا فبأعتقاده أن (براهمان) هو واقع غير مرئي، أبدي، ثابت. ونحن نجرّبه عبر الزمن والتعددية والتبدل. إلا أن معرفته لا تأتينا بها التجربة. المعرفة الحقيقية عنه بمقدورنا كسبها حين نفقه بأننا محض أجزاء منها وليس أفرادا مستقلين...
لأمد غير بعيد إعتبر تكامل النفس المرادفَ النموذجي للصحة النفسية. فهو حالة العكس لتشظي الوعي أي المرض النفسي الأكثر شيوعا: الشيزوفرينيا. إلا أن أطباء النفس وجدوا مثل هذه التسمية خاطئة، فهناك عشرة أنواع ونيف من الشيزوفرينيا. وكان أندريه جيد قد ذكر بأن غالبية أفعالنا تمليها وليس القناعة من أننا نقوم بها بل ضرورة محاكاة أنفسنا وإطالة ماضينا في مستقبل. أما أوسكار وايلد فكان يحلو له ترديد أننا نكون أشد إخلاصنا للنفس حين ينتابنا التردد وإنعدام الحزم. معلوم أن كلا من هيرمان هيسه و لويجي بيرانديللو كانا قد شككا، في مؤلفاتهما وغيرها، بصحة الحكم على الإنسان من خلال صورة نفسية واحدة وحصره بدور إجتماعي واحد أيضا. و يكفي النظر هنا الى أبطال الإثنين. أما فرناندو بيسوا فجسّد أفضل من الآخرين حقائق لاتكامل النفس والشخصية. وسأكرس له الجزء الأخير من هذا النص.
معلوم أن يونغ تكلم طويلا عن (اللاتكامل الإيجابي) ولأن التكامل التقليدي هو محض وهم في أغلب الأحوال ويجيء نتيجة لخفض الحاجات التي لايقبلها محيطنا. وعموما لايملك الإنسان في الأنظمة القائمة على المرجعيات، أي الشمولية بشتى أصنافها، فرصة الإرتقاء الإجتماعي إذا لم يسد الطريق أمام حاجات الحرية. ومعروفة هنا حقيقة أن قمع المشاعر العليا هو الإمكانية الوحيدة للبقاء الناجح أو العادي. في الحقيقة نجد هذه الآلية في المجتمعات المسماة بالديمقراطية أيضا، في الوسط العائلي الذي لا يعرف كيف يربي الطفل. فالبكاء هنا فعل غير لائق ويجب سد الطريق أمامه، إلا أن هذا البكاء باق في الجسم بتلك الصورة اللاواعية التي تنتظر التفعيل...
ولتلبية مطاليب المرجعيات على الإنسان أن يحمل الأقنعة التي تعني بأنه قد تكيّف مع وسطه. والقناع شبيه بإبتسامة تعرضت للجمود، فهو يستر مشاعر الحزن و الغضب و الخوف ويطرح صورة أخرى: حامل القناع شخص (مقبول). إلا أن كل هذا يخص المظهر، ففي الداخل ثمة ضغط قاس على أجهزتنا ودفن عميق لمشاعرنا المؤلمة (أثبت الطب أن مثل هذا القمع يسبب أمراض القلب والسرطان...). وكل هذا لا يعني نفي حقيقة أن داخلي يحوي حالة من التوتر الذي لا يمكن إزاحته. ونحن مخلوقات تملك عوالما متنوعة في داخلنا، أو كما يفيد الطب النفساني هناك طبقات من الأنا تحقق إستقلالها مما يعني الإنتقال الى حالة اللاتكامل. والأساطير تتطرق أيضا الى هذه الإشكالية: في أسطورة أورفيوس يكون زيوس أب البشر. وكان قد خلقهم من رماد عمالقة أحرقتهم الصواعق إنتقاما على قتلهم إبنه ديونيزوس. وتقول الأسطورة إنهم لم يكتفوا بقتله بل أكلوه أيضا. بهذه الصورة إكتسبوا بعض صفاته. ومعروف هنا الإعتقاد بأن فينا نوعين من العناصر: الطيبة (الديونيزوسية والروحية) والشريرة (التيتانية والجسدية). أورفيوس نفسه كان ضحية جنون المشاركات في إحتفالات باخوس، ووفق مسرحية يوربيديس المكرسة لهن، وخلافا لما جاء به سقراط، يكون هذا العنصر الجسدي هو المسيطر على حياتنا. معلوم أن هذا التفكك الثنائي الأساسي تناوله أكثر من فيلسوف يوناني، وبعدها صار أساس أدبيات القديس بولص- العمود الفقري للمسيحية. فسوية معه تجذرت هذه الثنائية في الثقافة الأوربية الى درجة أن باسكال كتب بأن بعضهم على إعتقاد بإمتلاكنا نفسين. وقد يفسر هذا عذابه الديني الذي واصله في القرن التاسع عشر سورين كيركيغورد الذي إعترف بثنائية الطبيعة البشرية، الثنائية التي لا ُتهزم. وكما كان يقول الرومانسيون إن المقصود ماهو أرضي وماهو سماوي، وبعدهم جاء فرويد كي يذكرنا بتلك الصورة الدرامية بالنزاع الأبدي بين منطقتي الثقافي واللبيدو...
صارت معلومة الأسباب التي تدفع الوعي الى تجاهل اللاعقلاني في الشخصية. والأمثلة كثيرة في الطب والأدب، على النزاعات بين شتى شخصياتنا. ومعروفة هنا تجربة كارل يونغ مع قريبته التي كانت تتكلم عبرها شتى (الأرواح). روحان بالضبط: روح تلك القريبة الدميمة، الخجولة، قليلة الذكاء، وروح الثانية العاقلة وقوية الشكيمة.
هناك حالات كلينيكية كثيرة تكشف عن التأثيرات المتبادلة بين الحالات النفسية والجسمية. طبيبب من شيكاغو إكتشف14 شخصية لدى فتاة إسمها ساره. سارة كانت مصابة بالسكري إلا أن إحدى شخصياتها تخلصت من هذا المرض أثناء (تسلطها) على سالي. أكيد أن لهذه الحالات صلة وثيقة بظاهرة تناسخ الأرواح التي تنبع وليس فقط من عقائد البوذية. والطب النفساني أثبت بدوره أن الجسم محض اداة تسيطر عليه تلك الأحوال اللامادية والمستقلة عنه. معلوم أيضا أن مجتمعات بدائية معينة كانت تعرف آليات هذه الظواهر، وسحرتها برعوا في تقنيات الإيحاء المغناطيسي بالإستناد إلى معرفتهم العميقة بموضوع ظاهرة التعددية في الشخصية. السحرة / الكهنة هؤلاء يعرفون كيف هو تحرير الإنسان من هيمنة هاجس معيّن يحمل إسما آخر في كلينيكات الغرب: الشيزوفرينيا. وقد يكون مقنعا التفسير القائل بان أرواح الموتى تلتحم بالكائنات الحية وتفرض عليها ذكريات من حياتها الأرضية السابقة...
والآن أيّ صورة من صور هذه المرايا هي الحقيقية؟ من الصعب الوصول الى الجواب، فالغموض يلف كل شيء هناك، تماما كغبار القتال الذي يحول دون رؤية أطرافه والتمييز بين واحد وآخر...
كان فرناندو بيسوا مدركا تماما لوفرة ما في نفسه من شتى الشخوص. وقد وجد أنه بدون هذه الوفرة، بدون الإبتكار الذي لا ُيكبح جماحه، إبتكار الكينونة وبمعزل عن إختراع الوجود الخاص من جديد، لاتكون الحياة سوى إيماءة ضئيلة القدر في تواريخ عالم يملؤه الضجيج. ولربما أعظم أفكار البرتغالي هي: المطابق لنفسه وحدها لاوجود له على الإطلاق، والذي يحيا في الخارج وحده - في العالم، إنما يحيا حسب لكنه غير كائن أبدا. والذي لا يتطابق مع النفس يتعذب. إذن كيف السبيل الى الجمع بين متطلبين وجوديين، والحاجة الى أن تكون شخصا آخر غير أنت، والأخرى: الحاجة الى الحياة الداخلية؟ بيسوا يقترح الحل التالي: أن تكون كائنا حقا في العالم هناك سبل عدة في داخلك. هناك وضع واحد إذا أردت الصدق مع النفس وهو أن تنسى، أن تبطل، أن تخون. بإختصار: هذا الوضع ينشأ حين تخترع النفس...
يعكس التقليد الفرداني في أوربا الإيمان بأنه يعجز الكلام عما هو فردي. طيّب، أنا موافق، وكأن بيسوا هو القائل، لكن كي تعبّر عن النفس عليك أن تشطرها، أن تتخلى عن فرديتك بأطرها الصلبة وإندياحاتها الخصوصية، يجب الكف عن أن تكون ذاتك. وطالما أن الوجود هو (عقلاني) قائم على(بديهيات) مثل السبب والنتيجة، فعلى هذه الأنا البيسوائية أن تتشظى وتتضاعف وتنقسم كي يمكنها الجهر. وعن الشيء الذي هو ممتلك (بفتح اللام) تماما ينبغي السكوت ولأن لا أحد يفهم هذا الأمر. إذن ينبغي فلق الذات من الداخل وإخراج المصطلح الخاص بك ومنح وجودا خاصا به كي يمكن طرح كل شيء عن ذاته. وهي ليست مسألة من مسائل الشعرية إذا كانت أعمال بيسوا تنطق بمثل هذا العدد من الأصوات بل هي مسألة الكينونة. أليس هو القائل: bdquo; ولأني شخص آخر أنا أشعر بالسعادة ldquo;، ldquo; الشخوص المخترَعة/ بفتح الراء / هي أكثر حقيقية من تلك الفعلية ldquo;. أظن أن بيسوا مسَّ هنا الجوهر. فمن يريد أن يكون ذا كينونة ويستهلك كامل إمكانية الوجود هو بالتأكيد أكثر كمالا من الآخر الذي تجسّد في إمكانية واحدة لاغيرها. أكيد أن الكتاب الذي وضعه فرناندو بيسوا هو أفقر من الأعمال التي خلقها كاييرو وكامبوس ورييس و شواريس والبارون فون تايفه وكل أعضاء تلك العصبة التي لاوجود لها. وفي (هيروستراتيس) يكتب بيسوا:
(لا ينبغي على أي أحد أن يترك وراءه عشرين كتابا ldquo;...rdquo;، وإذا كان قادرا على الكتابة مثل عشرين من الأشخاص المختلفين فهم يكونوا عشرين من المختلفين). برأيه إذا أردت أن تشعر بشيء جديد عليك أن تخلق فيك نفسا جديدة، فنفسك القديمة التي أنت متعلق بها قد ربطتك بأسلوب قديم من الإدراك. طالما لا تنسى نفسك سوف لن تجرب أيّ شيء جديد، وإذا لم ترد أن تكون عبدا لنفسك عليك بتغييرها (من المفيد معرفة أن أحد معاني كلمة (بيسوا pessoa) بالبرتغالية هو: ldquo; لا أحد ldquo;...). واضح ان الإنسان العادي وحده من يتصرف بشخصية واحدة، من يعيش حياة نباتية تكون هي هدفه الوحيد. وهنا الفارق بين البيسوات وبينه. فهؤلاء يمارسون الحياة، رغم أنهم لا يطيقونها عادة...
في الثامن من آذار عام 1914 كانت قد نشرت الأجزاء الأولى من (كتاب اللاطمأنينة) مما كان حدثا حاسما في حياة بيسوا. ويكتب حينها بتلك الصورة المحمومة، ثلاثين وبضعة أبيات من (راعي القطيع O Guardador dos Rabanhos ). شعر حينها بأن من كتب الأبيات ليس هو بل شخصية غامضة منحها على الفور الإسم. بهذه الصورة يظهرلنا ألبرتو كاييرو Alberto Caeiro . وبعدها بسنوات يكتب الى صديق له: bdquo; المعذرة على عبثية هذه الجملة لكن أستاذي ظهر فيّ ldquo;. وكان قد كتب، من دون تردد، وهذه المرة بإسمه، ست قصائد بعنوان مشترك (مطر منحرف Chuva Obliqua). بدا الأمر كأنه رد فعل بيسوا على (لامجهوليته) إزاء كاييرو...
عندما تم خلق كاييرو سرعان ما قرر بيسوا، وكما قال: غرزيا ومن دون وعي، أن يخلق له تلامذة: ريكاردو رييس (هوراسي الذي يكتب بالبرتغالية)، ونقيضه ألفارو دي كامبوس. بهذه الصورة تنشأ (عصبة غير كائنة) لا يشعر بيسوا بصحبتها بأنه وحيد. بهذه الصورة تخرج الى الوجود الهيتيرونيموسات heteronymouses البيسوائية الشهيرة. أكيد أن واحدها ليس بإسم مستعار ولا شخصية وهمية ولا ندّا متخيلا (هكذا فسر بعض كتابنا الشخصيات البيسوائية)، واحدها ليس كينونة تجريدية إخترعت لإيهام الآخرين (وليس كما فعل فاليري حين خلق مسيو تيست Monsieur Teste) بل هناك إسم يختفي وراءه (شخص آخر) له سيرة ومظهر وعقائد أخرى (مثلا كامبوس كان يشكك بوجود بيسوا نفسه !). الإختصاصيون الذين نبشوا في صندوق بيسوا (وكانت فيه 27 ألفا و 543 من الوثائق التي لايزال الكثير منها غير منشور) عثروا على 72 من تلك الهيتيرونيموسات...
في تلك الرسالة المعروفة الى صديقة أدولفو كاسايس من الثالث عشر من كانون الثاني عام 1935 يكتب بيسوا: (منذ أن كنت طفلا صغيرا شعرت بجاذب يدعوني الى خلق عالم وهمي حواليّ وأن أحيط نفسي بالأصدقاء والمعارف الذين لم يكن لهم أيّ وجود إطلاقا). وكان أول هيتيرونيموس بيساوي هو شيفاليه دي با
Chevalier de Pas الذي كتب رسائلا بالفرنسية الى فرنداندو بيسوا البالغ من العمر ست سنوات ! بعده ظهر على ذاك المسرح الغريب تشارلز روبرت آنون
Charles Robert Anon مؤلف نصوص مكتوبة بالإنكليزية ثم ألكسندر سيرتش
Alexander Search الذي أحتفظ فرناندو الشاب ببطاقاته الشخصية... ثم جاء أ. أ. كروس A. A. Crosse المروّج للثقافة البرتغالية باللغة الإنكليزية، وبشكل خاص كان ينقل إليها أعمال ألبرتو كاييرو ويعلق عليها (كان دي كامبوس قد كتب تعليقا على أحد هذا الأعمال...)
ومن الشخصيات البيسوائية الأخرى هناك أنتونيو مورا Antoacute;nio Mora مؤلف العديد من النصوص الفلسفية المكرسة لموضوع الوثنية، ورافائيل بالدايا Raphael Baldaya المنجّم، شأن بيسوا نفسه، والمأخوذ بالغيبيات، مؤلف (رسالة في النكران) حيث تكون فرضيته الأساسية أن الوجود وهم، والرب هو أكبر كذبة. هناك أيضا البارون دي تايفه Baron de Teive الذي عرف بمؤلفه الصغير(تعليم الرواقي) الذي عبر فيه، شأن بيسوا أيضا، عن إحباطاته بسبب عجزه عن إنهاء أي عمل، وفي النتيجة يفكر بالإنتحار. وبعده تأتي ماريا خوزيه Maria Joseacute; العاشقة (الحدباء) كاتبة رسالة الى عامل تشاهده كل يوم من نافذتها، إلا أن الرسالة لم ترسل. في الأخير يأتي المخلوق البيسوائي الأخير برناردو شواريس مؤلف (كتاب اللاطمأنينة)...
لم يكن بيسوا من الصنف الضائع في عالم مشكوك في فعليته بل كان من صنف آخر لم يشك أبدا في لافعلية كل شيء لكنه رغم ذلك واصل البحث وليس في الخارج بل في الداخل، داخله. كان يعرف أيضا بأنه بحث يقارب الفعل السيزيفي لكنه لم يتراجع أبدا، ولربما من بين الأسباب أن في رحلة البحث رافقه مثل هذا العدد الكبير من رفاق الطريق.
وكان قد دوّن في (كتاب اللاطمأنينة): (إذا كان يوجد في الحياة شيء علينا أن ندين بالفضل عليه للأرباب - عدا الحياة نفسها ndash;، فهو هبة أننا لا نعرف النفس: لا نعرف النفس ولايعرف أحدنا الآخر)...