عبد الستار البيضاني: الرواية تبقى.. وليدة المعاناة
علي حداد: الأبداع والخلق هما بطبيعتهما.. تمرد وثورة
عباس لطيف: مستقبل الرواية مرهون بمستقبل الحرية
شوقي كريم: الابداع العربي.. يتوجب عليه ان يهشم العقلية الخائفة

عبد الجبار العتابي من بغداد:حين انطلقت سيارة (الكيا) من داخل (الكراج)، اخرج الشاب الذي يجلس قبالتي رواية لكاتب عربي وراح ينهمك في قراءتها، تطلعت الى عنوانها، كنت قد قرأتها من قبل، حاولت ان اقتحمه لكنني احترمت (مزاجه)، ومع الدقائق الاولى ورغم الجلبة التي احدثها بعض الراكبين الا انه لم يأبه، حتى اذا وصلنا الى منطقة مزدحمة رفع رأسه وتطلع الى النافذة واطبق الكتاب على اصبعه كأشارة للصفحة التي وصل اليها، حانت منه نظرة عامة ومن ثم اليّ، فوجدتها فرصة للحديث معه، قلت له: هل تقرأ هذه الرواية للمرة الاولى؟ استغرب سؤالي لكنه اجاب: لا انها المرة الرابعة فقد قرأتها لاول مرة حين صدورها قبل اعوام، ثم عدت اسأله: ما الذي اعجبك فيها، قال: جرأة الكاتب وكسره لكل القيود السياسية التي يتقيد بها العديد من الروائيين العرب، واعتقد ان هذا الكاتب لم يضع قي داخله شرطيا!، قلت له لكنه ترك المكان والزمان عائمين فلم يقل لنا اين وقعت احداث الرواية وما قاله مجرد افكار تحدث هنا او هناك، قال: لا، انا افهم انه قال ما نعرفه نحن من المكان والزمان، لقد ترك لنا اكتشاف ذلك، وبعد ان طال الحديث بيننا فسألته: هل ان كاتب؟ اجاب: لا، ما انا الا قاريء عادي ولكنني استلذ بالافكار الجريئة التي احسها قريبة مني.
نزل من السيارة ورحت اتطلع من النافذة بينما الافكار تجول في رأسي، عدت بذاكرتي الى مقارنة بين الروايات العربية والاجنبية التي قرأتها وكنت ارجح في داخلي الروايات الاجنبية من ناحية الجرأة والانطلاقات في فضاءات الحرية على اختلاف اشكالها بينما الرواية العربية ما زالت تتمسك بالخوف من البعض الذي يعجبه ولا يعجبه وقائمة الممنوعات التي تختزل قدرة الرواية على قول ما لا يقال والذين لا يؤمنون بأن (ابلغ السرد افضحه) حتى وصلت الى رأي الكاتب المصري جمال الغيطاني الذي يقول: (ما لم تحل مشكلة الديمقراطية في بلادنا العربية لن توجد هناك رواية عربية)، استوقفني الرأي، بل استفزني جدا، وذهب يركض مثل حصان جامح في رأسي، وتذكرت العديد من الروايات التي منعت من النشر والعديد غيرها الذي منعته الرقابة وهو لم يزل مسودات، وتساءلت: هل هذا صحيح؟ ما علاقة الديمقراطية بالرواية التي يقال انها (جنس ادبي لعوب)؟.
مر العديد من الكلام من عيوني، والاستفزاز مازال ساخنا، وقبل ان اجد ما يفيد وجدتني ارفع سؤالي الى الروائي عبد الستار البيضاني الذي قال على الفور: (ليست هنالك اية علاقة للرواية بالديمقراطية او الدكتاتورية)، لكنني على الفور ايضا وضعت علامات استفهام واستغراب، لكنه وضح قائلا: هناك.. الكثير من الاعمال المهمة ظهرت في زمن الدكتاتورية، مثلما هناك اعمال مهمة ظهرت في زمن الديمقراطية، ولكن الرواية تبقى وليدة المعاناة، واضاف البيضاني: كان هذا السؤال الذي يطرح على المستوى العالمي بعد ثورة اكتوبر في الاتحاد السوفيتي، حيث انها لم تنجب كاتبا بقامة دستوفيسكي او تولستوي، وهذه اسئلة اشكالية وأجاباتها اشكالية ايضا، وتتحمل الكثير من وجهات النظر، ربما جميعها تتعلق بسر الابداع، واستطرد البيضاني متناولا نفسه كمثال مؤكدا انه يمر بحالة غريبة، قائلا: في الزمن السابق، (في زمن الدكتاتورية) كنت اشعر في اغلب نصوصي التي كتبتها انني ضربت النظام بشيء ما، تحرشت به او عبرت ضده، واشعر بالسعادة انني مررت شيئا على الرقيب، بالضبط مثلما احد يتشاجر ويتحفز لضرب الاخر، فكنت في حالة شجار دائم مع النظام، اما الان.. عندما اريد ان اكتب نصا، ليس امامي عدو، ولا اعرف من اضرب، وبصراحة.. لا اشعر بالمتعة، ولا اشحذ ذهنيتي حتى اطلع بأساليب جديدة استطيع ان امررها على الرقيب.
كلام البيضاني جعلني امضي في البحث عن اجوبة اخرى،وبالفعل توقفت امام الروائي علي حداد وارمي عليه سؤالي الذي تلقفه بأستغراب، ثم قال: (قبل ان يولد ديموقريطس.. كان الانسان قد خلق من طين حر، وحين سكن قرب الماء أوشك احس نفسه مثل طير ولم يفارقه هذا الاحساس ابدا..وصار مجبول على الحرية والتحلق بعيدا على طول الشاطىء وعبركل الآفاق.. فهو لم يعد يرغب اويحب ان يقيده شىء.. وهنا تطفو على السطح إشكالية كبيرة بين الحرية والأبداع، فالأبداع والخلق هما بطبيعتهما تمرد وثورة.. تمرد على هلى القوانين الجائرة وثورة ضد الحيف والجور،.. تمرد وثورة بلغا سن الرشد منذ زمن بعيد..ولو إتفقنا جميعا على ان الكتابة هي كل ما يتبقى لنا من نعيم، لعاش هذا التمرد وتلك الثورة وتعشقا في متن النص..وفي الكلمة الطيبة والمؤثرة، وعلى إعتبار ان الرواية هي من اخطر الفنون وأوسعها إنتشارا وأكثرها تأثيرا على العامة من المثقفين وأنصافهم.. لأنها استطاعت ان تكون الرائدة والمبشرة والداعية الى الحرية والديموقراطية وترسيخها في عقول الناس ولأنها تمنحهم آدميتهم وتمنح وجودهم معنى آخر يكفل لهم احترام ذواتهم..).
وقبل ان ينتهي علي حداد من كلامه وجدتني اسأله: لماذا؟ فأجاب: لأن الرواية هي التي تخلق وتدعو الى الحرية والديموقراطية وهي التي كانت تبشر دائما بولادة انسان يعشق الموت من أجلهما..، وفي زمن القهر والظلم الذي شهده هذا الكوكب ظهرت الكثير من الروايات العربية والعالمية وهي تتحدى الموت لتبشر وتخلق لشعوب الارض حرية ينعمون بظلها.. حب الحياة والفن الذي يضفي عليها شىء من البهجة والسرور..، والرواية هي التي حكت وقصت عن السجون والقتل والرعب والدمار والحروب الظالمة وعن الضحايا والطين الحر... الذي لايقبل ابدا ان يتحول الى صنم ينقلوه من ساحة....الى أخرى).
تفحصت كل ما قاله حداد ورحت اضعه فوق العديد من الروايات التي ذاع صيتها واشم رائحة الحياة من بين سطورها، لكنني وجدت ان اتواصل في الاستزادة من اجل الوصول الى ما ابحث عنه، فسألت الروائي والناقد عباس لطيف فاجاب قائلا:(لعل صدقية وقدم الطروحات التي تؤله الرواية بوصفها ارسالا على مستوى القيم الكونية والانسانية والجمالية وقد ارتبطت هذه الطروحات بمبدأ حرية التماس الكتابي وحرية الابداع، فكل الرؤى التقليدية والحداثية تبرهن دوما على ضرورة الشرط الاحيائي للمدونة السردية كونها نتاج حرية المبدع، ولعل شرطية الحرية والانفتاح على الرؤى والالتقاط والتجريب تتطلب هذا الشرط ويتعدى هذا الامر ويشمل كل حقول وميادين الابداع مسرحا ورواية وجهدا نقديا).
لم اجد ما ابحث عنه في ما قاله عباس وكأنني اعرف هذا، وطلبت منه ان يفتح لي المعنى لأطل منه على حقيقة السؤال، فقال مضيفا وموضحا: (الرواية في الوطن العربي تناضل ضد (التابوات) أي المحرمات التي تضعها الانظمة والتقاليد والايدولوجيات السياسية والاجتماعية والدينية واصبح الوسط الاجتماعي اخطر من كل اشكال الرقابة والتلصص وهواجس المنع الرسمي، أي الرقابة العامة اصبحت اخطر من الرقابة البوليسية الرسمية).
وجدت ان عباس اعطاني شيئا وحين قلت له: وبعد؟ اجاب: (لا مستقبل لأي عمل ابداعي بعيدا عن فضاءات الحرية، ومستقبل الرواية مرهون بمستقبل الحرية في الوطن العربي).
حملت رأي عباس لأضمه الى الرأيين السابقين وذهبت لأقرأ عن احوال الرواية العربية الان فوجدت اغلب ما كتب ينـأى بنفسه الى السردية التاريخية والرمزية والتأثر بالافكار الغربية او ذلك الكلام القائل: (أن تبتعد الرواية العربية ما أمكنها عن اللحم الحي للحياة العربية المعاصرة، وأن تسعى إلى شعرنة العالم، والحفر في اللغة، وإسلام السرد لراو منسحب من العالم يتأمله من عل، ويرى الخراب مقيما في أساسات هذا العالم)، وذلك لأن هنالك من اهل السياسة والحكم لايريد ان تكون المكان الذي هو فيه دلالة سيئة، ومن هنا حولت السؤال الى القاص والروائي شوقي كريم الذي اجاب:(لا ادري لماذا يحاول السياسي ربط كل آليات التطور الفكرية والاجتماعية بيده دون وجه حق، وقد تخطت الرواية العالمية كل الخطوط الحمر التي وضعتها الكنيسة والسياسي وعملت على تقديم تاريخ روائي في غاية الاهمية، وهذا العطاء الروائي سحب اليه النتاج السيمي والنقدي وعمل على تثوير الروح الانسانية بكاملها، فلماذا يظل الكاتب العربي معطلا عن ملاحقة الجديد الفكري الذي يسعى اليه؟).
استوقفت شوقي امام الرقابة التي يضعها الاخرون امام الروائي كي لا ينطلق في فضاءاته بحرية، فقال: (الديمقراطية معزز للوجود الحر ليس الا، والروائي يتعامل مع البياض بأخلاص حر لا مثيل له، ومن غير المعقول ان يعطله عن الابداع هم هو جزء غير مؤثر في الحياة، فلقد ابدع برشت تحت قهر (الجستابو)، وشيد ريمارك عرش ابداعه والرصاص ينهمر كما المطر من بنادق العسكر، وما كان ديوستوفسكي يخاف سلطة القيصر وبطشه بل جعلها حافزا لأثراء الذاكرة الانسانية بروايات ستظل خالدة على مر الازمنة والدهور)، واضاف شوقي: اعتقد ان الاشكالية التي يعيشها المثقف المبدع العربي هي مع نفسه اولا اذ انه غير قادر على الخلاص من الرقيب الساكن اعماقه وهذه الرقيب من مخلوقات السياسي العجيبة، وقد صنعه لأيقاف استمرارية النتاج الفكري ومنها الروائي)، واستطرد شوقي يقول الحل: (الابداع العربي.. يتوجب عليه ان يهشم العقلية الخائفة ويسعى الى ان يشيد نتاج ابداعي خاص ليؤثر في الوجدانية الانسانية العامة).
واذن..نحن بحاجة الى ان يكون الروائي حرا وأن يتخلى الرقباء على اختلاف اشكالهم ومسمياتهم عن الكاتب، ان يكون ديمقراطيا في كتاباته ولا انكر ان ما قاله الروائي العراقي فؤاد التكرلي ذات مرة مشيرا إلى مقولة لفتت نظره وهي: (أن الرواية مناقضة للأخلاق القويمة وتدعو إلى الابتذال والفساد) قد استفزني..، واذن.. قد تكون المشكلة معقدة سابقا والان هي اكثر تعقيدا، وعلينا ان نبحث عن روائيين يمتلكون القدرة الفائقة عن الشعور بالحرية والديمقراطية لان الفن الروائي لا يصدر في بعض جوانبه إلا عن ثقافة عميقة وشديدة الاتساع كما قال احدهم.