أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية
محمد الحمامصي من القاهرة: من هم اليهود وما هي اليهودية سؤالان يرد عليهما هذا الكتاب (من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية) الصادر عن دار الشروق هذا الأسبوع للدكتور عبد الوهاب المسيري المتخصص في الدراسات اليهودية والصهيونية فيحيط بأبعاد الموضوع ـ الذي يبدو معقدا للبعض ـ بأسلوبه التحليلي المنطقي السلس والممتع، حيث يدحض مسلمات كثيرة ويكشف زيف كثير من الاداعاءات، فيشكل لبنة أساسية في تحليل الفكر اليهودي والصهيوني ويستشرف ـ مثل أي عمل غير مسبوق ـ مستقبل الدولة اليهودية مؤكدا خطأ التصور القائل بأن أزمة التجمع الصهيوني في تنوعها واحتدامها وتصاعدها ستؤدي إلي انهياره من الداخل، ويقول: بل يتصورون أحيانا أنني بدراسة تناقضات المجتمع الصهيوني ورصد مشاكله وهزائمه أتبني، بل وأبشر، بهذا الوهم. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، فأنا أذهب إلي أن المجتمع الصهيوني لن ينهار من الداخل لأن مقومات حياته ليست داخله وإنما خارجه، إذ يوجد عنصران يضمنان استمراره، رغم كل ما يعتمل داخله من تناقضات، وهما الدعم الأمريكي والغياب العربي، ولذا ما سيؤدي إلي انهيار الكيان الصهيوني العنصري ليست تناقضاته الداخلية وإنما الاجتهاد والجهاد العربي، فهما وحدهما الكفيلان بذلك، هذا لا يعني تجاهل هذه التناقضات، فمن الضروري فهمها وتوظيفها في صراعنا ضده.
ويري د.المسيري أن أزمة الهوية اليهودية ستتعمق، ولن تحسم في المستقبل القريب لأسباب عديدة تتصل بالتطورات داخل المستوطن الصهيوني وخارجه، أما داخل المستوطن الصهيوني فقد لوحظ علي عكس ما توقع المفكرون الصهاينة، أن التطورات والآليات الاجتماعية لم تؤد إلي صهر العناصر اليهودية الدينية واللادينية والإشكنازية والسفاردية وغيرها، وإنما ازدادت الصورة استقطابا وتطرفا، وإذا ما ركزنا علي الجانب الديني مقابل العلماني سنلاحظ ظهور هوية يهودية جديدة بالإضافة إلي عدم تجانس وهي هوية الصابرا من الإشكناز التي يتسم أصحابها بسمات خاصة، كمعاداة العقل والفكر والتحلل من القيم الأخلاقية وحسم كل القضايا من خلال العنف، بل إنهم يكنون احتقارا عميقا ليهود المنفي، أي يهود العالم كله (وقد كان المؤمل في الصابرا أن يكونوا الترجمة العملية لليهودي الخالص). وإلي جانب ذلك، يلاحظ تزايد معدلات العلمنة في التجمع الصهيوني الذي وصفه أمنون روينشتاين بأنه من أكثر المجتمعات اباحية علي وجه الأرض. وبحسب بعض الإحصاءات يبلغ عدد المواطنين الذين لا يؤمنون بالخالق 85 % من كل الإسرائيليين.وهؤلاء ينظرون إلي الشعائر الدينية باعتبارها فلكلورا قوميا. وتعد الأعياد الدينية بالنسبة إليهم أعيادا قومية، والعبرية ليست لغة الصلاة (اللسان المقدس) وإنما هي لغة البيع والشراء والجماع، وقد أصبح يوم السبت، وهو يوم راحة وتعبد من الناحية الدينية، يوم صخب ولهو في الدولة التي يقال لها يهودية. ولا يراعي كثير من الإسرائيليين قوانين الطعام الشرعي، ويقال إن نصف اللحم المستهلك في إسرائيل من لحم الخنزير.
ويكشف د.المسيري عن أن التهييج ضد اليهود سواء كان بشكل مباشر كما يفعل أعداء السامية (أي أعداء اليهود واليهودية) أم بشكل غير مباشر (كما يفعل الصهاينة)، وهو في واقع الأمر مطالبة بطرد اليهود من بلادهم وتوطينهم في فلسطين، أو (عودتهم) من أوطانهم بحيث يتحولون من كونهم مواطنين في أوطانهم الأصلية إلي مستوطنين في بلادنا، أليس هذا ما تطالب به الصهيونية الاستيطانية؟ لكل هذا أذهب إلي أن الصهيونية حركة لتخليص أوروبا من فائضها البشري اليهودي وأنها تنبع من كره عميق ليهود المنفي (أي الغالبية الساحقة ليهود العالم). ولذا فهي تعيش علي الكوارث التي تحيق بأعضاء الجماعات اليهودية، كما قال آى.إف.ستون أحد المفكرين اليهود المعادين للصهيونية.وللسبب نفسه تعاون الصهاينة عبر تاريخهم مع المعادين للسامية.
ويشير د.المسيري إلي أن ثمة تشكيلين حضاريين (يهوديين) يتمتعان بقدر محدود من الاستقلال عما حولهما من تشكيلات حضارية: أولهما: الثقافة العبرية القديمة التي تمتعت بقدر من الاستقلال داخل التشكيل الحضاري السامي في الشرق الأوسط القديم، ولكن هذا الاستقلال ظل محدودا للغاية بسبب بساطة الحضارة العبرانية وضعف الدولة العبرانية وتبعية الدويلتين العبرانيتين (مملكة يهودا ومملكة يسرائيل) للإمبراطوريات الكبري في الشرق الأوسط القديم (المصرية ـ الآشورية ـ البابلية ـ الفارسية). وقد كانت التبعية السياسية، خاصة في العصور القديمة تؤدي إلي تبعية ثقافية بل وأحيانا دينية، ولذا استعارت الثقافة العبرانية الكثير من حضارات هذه الإمبراطوريات.
وثانيهما: الثقافة الإسرائيلية أو العبرية الحديثة، وهذه الثقافة مستقلة نوعا ما ولا شك عن التشكيل الحضاري الغربي، ولكنها، مع هذا، لا تزال ثقافة جديدة لم تكتمل مفرداتها الحضارية بعد، كما أن الصراع الثقافي الحاد بين العشرات من الجماعات اليهودية التي انتقلت إلي إسرائيل ومعها تقاليدها الحضارية (السفارد ـ الإشكناز ـ يهود البلاد العربية ـ الفلاشاه ـ بني إسرائيل في الهند ـ يهود بخارى ـ اليهود القراءون ـ السامريون.... إلخ ) يجعل من العسير بلورة مثل هذه الثقافة.
ولكن العنصر الأساسي الذي يتهدد عملية بلورة خطاب حضاري إسرائيلي مستقل هو أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع استيطاني يدين بالولاء الكامل للولايات المتحدة الأمريكية ويعاني من تبعية اقتصادية وعسكرية مذهلة ومذلة لها، فهو يدين لها ببقائه وبمستواه المعيشي المتفوق، وعلي هذا فإن ثمة اتجاها حادا نحو الأمركة يكتسح في طريقه كل الأشكال الإثنية الخاصة التي أحضرها المستوطنون معهم من أوطانهم الأصلية. ومما يعمق من هذا لاتجاه أن المجتمع الإسرائيلي مجتمع علماني تماما، ملتزم بقيم المنفعة واللذة والإشباع المباشر والنسبية الأخلاقية والاستهلاكية، وهذا يتعارض مع محاولة التراكم الحضاري.ومع ظهور النظام العالمي الجديد والاستهلاكية العالمية فإنه من المتوقع أن تزداد الأمور سوءا.
وبخلاف الحضارة العبرانية القديمة والثقافة الإسرائيلية الجديدة لا يمكن الحديث عن ثقافة أو حضارة يهودية مستقلة أو شبه مستقلة، فاليهود مثلهم مثل كل أعضاء الجماعات والأقليات الدينية والعرقية الأخرى، يتفاعلون مع ثقافة الأغلبية التي يعيشون في كنفها ويستوعبون قيمها وثقافتها ولغتها، ولئن كانت هناك درجة من الاستقلال لكل جماعة يهودية عن الأغلبية فإن هذا الاستقلال لا يختلف عن استقلال الأقليات الأخرى عن الأغلبية، كما أنه لا يعني بالضرورة أن ثمة عنصرا عالميا مشتركا بين كل جماعة يهودية وأخرى.
وينقسم الكتاب إلي ثلاثة أبواب يفكك المسيري في أولها مفهوم الوحدة اليهودية العالمية والهوية اليهودية، ثم يبين في الباب الثاني مدى تجانس الجماعات اليهودية في العالم، ويحلل في الباب الأخير سؤال الهوية وأزمة المجتمع الصهيوني والتناقضات الأساسية بين الرؤية الصهيونية لما يسمى الهوية اليهودية وواقع الجماعات اليهودية.
الكتاب: من هم اليهود؟ وما هي اليهودية؟ أسئلة الهوية وأزمة الدولة اليهودية
المؤلف د.عبد الوهاب المسيري
الناشر: دار الشروق
الطبعة الأولي: أكتوبر 2008
عدد الصفحات: 396