قاسم حسن: لم يعد سماع خبر الموت حدثا كبيرا، ولامهما، ولامزلزلا، لكثرة ما نسمعه ونشاهده يوميا عبر وسائل الاعلام المكتوبة والمرئية والمسموعة، لقد صار أمرا إعتياديا، ومألوفا لدينا، نحن، العراقيين، ومع هذا فأن خبر رحيل فنان او مبدع او كاتب او عالم..الخ لايزال يفعل فعله في النفس، خاصة وان هذا الموت يغيب صديق أو قريب أو زميل أو محب... ويجعلني أعيد شريط ذكريات مشتركة تدور في ذاكرتي كشريط سينمائي.. يبدأ ولاينتهي... مستعرضا تلك الذكريات التي لاتنسى.. وبخاصة عندما أكون على موعد..مع الراحل منتظرا، مجرد هاتف كي نلتقي،!!!!!!!!
ورحيل الفنان المبدع منقذ سعيد، كان حدثا (بالرغم من توقعنا ذلك وهويعلم ذلك، خاصة وانه يعاني من مرض رافقه سنين طويله) غير عادي، بل أنه امرا صاعقا لاصدقاءه ومحبيه ومعاشريه وجميع من تعامل معهم في حياته الدراسية منها، والعملية، وعلاقاته الشخصية المرتبكة دائما، كونه ذو مزاج يتارجح بين الألفة والصراحة والصدق، وبين مايريده لنفسه من طريق شائك بالمعضلات في مجتمعات لاترحم...
من اعمال الفنان منقذ سعيد
كان، وللحظة الاخيرة من حياته، جادا في عمله، وعاشقا لحرفته، يمارسها بصمت، يعطيها حقها باخلاص ـ ويؤدي واجبه بقوة وبأبتسامة لاتغيب، حيث طالما كان يسخرـ من كل شىء، حتى من اعماله الجادة التي يلعب معها ساهرا الليالي كي تكون جاهزة ليحاكيها في اليوم التالي.... مذهولا لما وصل اليه... هل انا الذي صنع ذلك؟
كان يتعامل مع اصدقاءه وزملائه.. بصدق متناهي..وبساطة دون موعظة او ادعاء، بالرغم من ان له الحق في ذلك، في ان يميز نفسه عن الآخرين بحكم تجربته الجادة والطويلة في مجال النحت والرسم، وبما امتلكه من خبرة ونضج فني وشهرة تجاوزت حدود المكان الذي هو فيه، وسع مداركه، واستفاد من ادواته مطوعا اياها، لفلسفته في الحياة،....
التقيت الفنان الراحل منقذ سعيد وهو لازال طالبا في السنة الاولى من كلية الفنون الجميلة في دمشق حيث جمعني واياه عملا نحتيا كبيرا في مرسم الفنان السوري نشأت رعدون وكنا سوية مع الفنان العراقي الموسيقي طه حسين، وانا المسرحي، كنا نعمل كي نلبي حاجاتنا اليوميه ونعيش، لا ايمانا بما ننحت، وكانت رعاية الفنان السوري لنا تضامنا معنا في محنتنا في مقارعة نظام فاسد، وكل منا ينتظر مصير مجهول، ولكن يجمعنا الامل، نعمل وندرس، ونجتهد، ونتواصل يوميا ـ بالرغم من صعوبة مانحن عليه، وبما انني اعرف الفنان طه حسين منذ كنا في بغداد، تعارفنا مع منقذ سعيد كان كسبا لنا وله حيث كان ومن لحظة خروجه من العراق مناضلا دون حزب او انتماء، ولكنه كان منتميا لنفسه والوطن، بما تحمله الكلمة من معنى، طموحا لنفسه كما هو طموحا لوطنه، حيث كان يعمل على مشروعه الهندسي (مشروعه للتخرج فيما بعد وهو مشروع قبوله في الكلية ايضا على الورق) قبل ان يختار النحت اختصاص، كان القرية السياحية في اهوار العراق... حيث زاوج بين النحت والهندسة المعمارية... والذي حاز على درجة الامتياز..... كنا نسمع منه يوميا هما عراقيا كما نحن، يجمعنا الامل لاغير....
كانت القصة المثيرة في خروجه من العراق،ربما هي الاغرب، على اسماعنا خاصة وانه لازال في السابعة عشر من عمره، حيث لايحق له الخروج منفردا، الا بصحبة ولي امره ـ الذي لا ولن يبارك خطوته هذه، ولكنه كان جريئا في خطوته لثقته العاليه بصحة وصواب مايرنو اليه، حيث التحف الصحراء فراشا وعطاءا، ماشيا على الاقدام، حتى وصوله الى الحدود السورية، دون هويه، ولابطاقة شخصية، سوى وثائقه المدرسية في اكماله الدراسة الاعدادية.... متحديا في ذلك، سلطة فاشية، واهله الذين لايباركوا خطوة كهذه، وتحمل عناء سفر وغربة، وصعوبة عيش،.....
من اعمال الفنان
الراحل
في عام 1983 تخرج الراحل منقذ سعيد من كلية الفنون الجميله وفي جعبته عدد من المشاركات في معارض مع فنانين عرب وعراقيين... وهو لازال على مقعد الدراسه.. واحيانا مع اساتذة له في الجامعه ومع راود في الفن التشكيلي العراقي الذين كانوا في دمشق او قادمين من منافي اخرى...وبعد تخرجه مباشرة غادر الى اليمن ليعمل كمدرسا.. وهو الساخر ابدا.. حبذ ان يغامر الى دول لم تخطر على بال أحد.. منها الصومال واثيوبيا وجيبوتي... بعدها عاد الى دمشق التي احبها كوطن لامفر منه... وفي كل من هذه الامكنه ترك اثرا فنيا وانسانيا يشهد.. كل من التقاهم... بذلك... حيث انتج الكثير من الاعمال المؤثرة، والنصب التذكارية.. والشعارات، والباجات... وغيرها من الاعمال الفنية.. في الديكور المسرحي تارة، والتلفزيوني تارة اخرى، والتي لها البصمات في جميع الدول التي... زارها.. او عاش فيها... بعدها قاده طموحه الى ايطاليا ومن ثم الى هولندا عام 1995 طالبا الاستقرار... حيث عمل ودرس دراسته العليا هناك... تاركا اثرا لازال في ساحات بعض المدن الهولندية وشوارعها... وبعضا من متاحفها...عاد الى دمشق ليستقر ويعمل فيها.... ومنها ينطلق بنتاجه... حيث انشأ معملا للبرونز... ومعرضا دائما له.. زمنها يسافر باعماله شرقا وغربا.. حيث تشهد له.. البلدان ككندا.. وامريكا.. ولبنان.. والامارات.. وموسكو ,, وباريس.. ولندن.. وهولندا وبلجيكا.. والمانيا.. وكثير من الدول الاخرى.. التي اقام فيها معارضا.. شخصية تارة ومشاركة تارة اخرى..

نصب الكراسي من اعماله البرونزيه
يتوسط ساحة في شمال لبنان
لست بصدد التشريح والنقد لاعمال الفنان الراحل الفنيه التي اخترع تقنيات جديده في اغلبها حيث المواد التي تستعمل لاول مرة في هذه الفنون كالبلاستيك والبوليستر وحتى الموسيقى والماء،... والرمل والاضاءة، مستخدما التكنولوجيا احيانا... ولكنه كان مبدعا في كل ماانتجه... وربما لم اكن منصفا لو مررت مرور الكرام (كما يقال) على مجمل اعماله النحتية... انه مجرد رثاء سريع... لفنان.. رحل مبكرا كان له طموحا اكبر فيما لو كان في عراق.. كان يحلم ان يكون طبيعيا كسائر الدول التي يطمح.. رثاءا من صديق.. لاغير.. وعتبا على جل اصدقاء له.. وزملاء له... عاصروه انسانا وفنانا... تركوه وحيدا يصارع الحياة.. والمرض....
وداعا يامنقذ... فنانا مبدعا.. وانسانا صادقا... لكنه الموت... ليس إلا