قصة: ئاكو كريم معروف
ترجمة: حميد عبدالله

كنت مترددة من ان تلك الاصوات التي تمر عبر مسامعي هي أصوات الطيور الدامية لليالي الأربعاء، في البداية ظننت بأنها مواسم هجرة الاوز والحباري، ولكن لحظات قلائل مرت والأصوات بدأت تسمع بسهولة، حتى و ان كانت الساعة قد جاوزت الثانية عشرة ليلاً بقليل؛ كان طيرانهم المتلاحق الدائري يرى، والغريب انه كانت هناك اعداد لاتحصى فوق بيتونات البيوت وأسلاك الكهرباء وأعمدة التلفزيون؛ وفي غرف منام البيوت كانت ترى بمنقار دامية، في تلك الليلة كانت النجوم واضحة لناظرها ولم تكن تفوح من اِشارة لا لرائحة ألمطر ولا ثلج ورغم ذلك كانت ريش واجنحة الطيور تبدو مبللة، وقطرات الدماء ملتصقة بمناقيرها الطويلة والسوداء تلمع تحت اضواء النجوم المتلألئة وهالة من القمر تشعشع كنقش على الحيطان، في تلك الليلة لم تكن هناك اشارة أو شيء يرمز لاستمرارية الحياة ولم يكن يكن هناك الا توأما الخوف والموت، الخوف من ان تكون قطرات الدماء تلك قد تسربت من جسدي، الخوف من الموت وقد أكون أنا الوحيدة التي ادركت بقدوم الطيور غير المنتظرة في منتصف هذه الليلة، تمعنت في نفسي قليلا.. وفتشت كل صغيرة وكبيرة في اعضاء جسدي، لا..، لم تتقطر ولو قطرة واحدة حتى من انفي، ولكن خشيت الموت، موت كل أولائك البشر الذين دخل الطيور غرف منامهم مناقيرها الدامية تتزوج هناك يخلفون سلالة من الدم، خشيت من ان هذا لم يعد حلما، أنا لم احلم بالأدغال، خشيت من ان يكون هذا بداية كي تغرق كل شيء في الدماء وتتنبأ الطيور بالكوارث مبكرا.
وأنا مازلت ساكنة في مكاني.. تصورت بأنه حتى الارض اكتفت عن الدوران، كل شيء ثابت، حتى خسوف النجوم، أنا ممتدة على سرير نومي، وهواء عليل يأتي من أجنحة المروحة بهدوء ويداعب أوتار شعري المبعثر على وسادتي، ان في غرفتي نافذة تطل على الأزاهير ألحمراء الوحيدة وشجرة الزيتون في وسط الحديقة، ومن منطقة أبعد، هناك حديقة أراها بمساحة راحة اليد يسمونها (حديقة الشعب)، والى ساعة لم أرى تلك الحديقة، والمرة الوحيدة التي باح أبي بهذا السر كان ثملا واخبرني بأنه دخل الحديقة في مراسيم يوم عيد التحرير الوطني، و ان الحراس الجمهوريين سمحوا له بأن يمر عبر الحديقة بعينيه المكفوفتين لدقيقة واحدة، و أبي كان في ريب (بأن هناك تحت كل حديقة قبوا ممتلئا بالظلام)، وهو الآن نائم في الغرفة السفلية المطلة على باحة البيت والزقاق.
المسافة ما بين غرفتي وغرفة أبي عشرة درجات والسلم رخامي و منقوش على كل درجة تخطيط لطير اسطوري، و سردت لي امي من أحاديث جدتي بأن نقاشا أرمنيا من أصل فارسي جاء ورسم تلك النقوش على غزل ل(سعدي شيرازي)، والآن وأنا أمضي الى غرفة ابي، وأنا حاملة مصباحا خافتا، أرنو الى تلك الطيور الاسطورية لأول مرة. أتأملها هكذا.. ومن الممكن أن أتسائل، هل ان تلك الطيور ذات المناقير الدامية من أجناس هذه الطيور..؟، أم ان معجزة آلهية حدثت وبعثت حيا ونفخت فيهم الحياة لتحلق بشكل يرمز الى انتهاء كل ما هو موجود في هذا الكون..؟.
المصباح في يدي..، وأمضي محدقة في كل درج من درجات السلم، انني أقترب من غرفة أبي، انه لشيء طبيعي وحتى لو كنت حاملة أضواء أوسع و أعظم، وحتى لو وضعت الشمس على أكتافي و ملئت أحضاني بالنجوم فأن أبي لن يستيقظ، فأنوار الدنيا كلها لن تكفي غرفة أبي، لا أبدا لن أطرق الباب، فحين ينام أبي وحتى في قمة صحوة يفتح النوافذ والابواب على مصاريعها في الفصول الأربعة حتى وأن كانت الأجواء صعيقاً، أو فيضاناً، أو زوابعاً، ولكنني أخشى فقط من استيقاظ أبي بدخول النور الى غرفته.
لأول مرة أرى الأشياء في غرفة أبي ويباب من الرؤي مرّ عبر دمائي، وخطواتي كانت مليئة بالشك والخوف لدرجة انني كنت أرفع قدمي بهدوء خشية ان تبقى طبعه آثار قدمي على السجاد الكاشاني، فأبي وبعينيه المكفوفتين يتعرف حتى على آثار أقدام القطط.
حين دخلت الغرفة لم المح شيئاً يثير انتباهي للوهلة الاولى؛ الا تلك التماثيل و الاوثان الذهبية في رف مستطيل في أعلى وسادته، كل واحدة من تلك الطواطم كانت عنصرا من اجناس و جذور الحياة، وفي احدى زوايا الغرفة..؛ كانت هناك مجموعة من الآثار ألقديمة وكتابان عن التأريخ والأبراج مرميات على الطاولة، وكان غلاف كتاب الأبراج مغطي بحراشف سمك الشبوط، وكان هناك ريش طاووس في ثنايا كتاب التأريخ، وكان غبار متراكما على بعض تلك الآثار العمرها الطويل وتحولت ألوانها الى رمادي والباهت، وكانت هناك شقوق وكسور في بعض أطرافها، كنت أحدق في تلك الآثار بشك، و بالرغم من تأملي الطويل لم أحس بأي جمال فيها، و فجأة.. وكأنني فزعت من حلم مرعب مرّ سؤال عبر دماغي: (أ ويمكن أن يكون أبي من بقايا تلك الأحجار القديمة..؟). تراجعت الى الخلف مذعورة.. والتفت الى اليمين و وجدت نفسي ثانية أمام تماثيل الآلهية الذهبية وقطعة من القماش الحريري ملتف حولها، وبالرغم من تراكم غبار سنين طويلة كانت تماثيل تلمع ببريق تدمع العين، و على منديل حريري دائري نقشت صورة لعين كبيرة وسحرية، عين طافحة بالحقد والكراهية و اراقة الدماء.
كانت البؤبؤة حمراء نارية بياضها ذائب في سوادها، وكانت العين أكبر مما يلوح لي، وكأنها تترصد لجريمة في اية لحظة، و بالرغم من ذلك كانت الأهداب والحاجبين تشبه اهداب و حواجب أجمل فتيات عصور الامبراطوريات.
مازال المصباح المضيء في يدي.. و أنا منتصبة في مكاني، بالرغم من غرق كل شيء بالشك والخوف في تلك الليلة.. و الأبواب و الشبابيك مفتوحة على مصاريعها، فأنا لاأسمع صوت الطيور، ولا أرى طيرانها الدائري، بالرغم من كل هذا.. أنا في شك من عدم وجود رمز، أو شارة للدم في غرفة أبي الهادئة.
عدت ادراجي الى قبالة شباك غرفتي التي تطل على الحديقة الخضراء للباحة، والحديقة غارقة في بلل ندى ليالي الأربعاء، احسست بتغير لونها، بعد تلك اللحظات التي كنت غائبة عنها، والشيء الوحيد الذي بقي على حاله هو وريقات الزهور الحمراء لون أحمر صارخ، وكان هناك في ذلك الأثير الأحمر آلاف النقط السوداء تتحرك بسرعة و عشوائية، في البداية ظننت بأنه بحر أحمر غارق في عالم من الأسماك السوداء، ولكن و بعد تأمل وجدت بأن حديقتنا اصبحت مملكة الطيور، ذات المناقير الدامية، وهكذا انقشع لدي الشك بأن هذا المنظر هو نهاية تلك الجنة التي ورثناها عن أجدادنا ويسمونها الجحيم، كما أخبرتني امي من أحاديث أبي.. (بأن هذا الجنة سرداب للتناسل)، كما سمعت في مكان ما، بأن أبي و امي دخلا حديقة الشعب خلسة و بعيدا عن أعين الحراس الجمهوريين في عصرية متأخرة ليوم الأربعاء في شهر آب و أنهيا جماعهما بهدوء على العشب الانطليزي تحت ظلال شجرة صفصاف، و في مكان نفسه سموني (دليا) قبل ولادتي، و كثيرا ما كانت امي تخبرني بأنني من نسل الحدائق، و ليس هناك اله لا على الأرض ولا في ألسماء يظفر بك، ثم تضيف، تلك اللحظات كانت مضيئة، و لكننا لم نكن نبصر غير الظلام، كنا في صفاء المياه، كنا وكأننا نشرب بعضنا البعض في الظلام، مرت كل تلك الخواطر أمام عيني ومخيلتي في لحظات قلائل، وبعد ذلك رأيت بأن جناحين عملاقين نميا من الحديقة، و ببساطة بدأت أحس بالهواء المنبعث من خفقان الجناحين حين كانا يحلقان عاليا ويرتفعان نحو السماء، غرقت في تلك المشاهد الاسطورية، و خرجت امي من المرآة الدائرية البلورية ووضعت يدها اليمنى على كتفي وقالت: (ان الله يبلي حتى ما هو خالقه)، العبرة ملأت قلبي، وقلت لها بشفاه مرتجفة: (ابتعدي... فأنت أقبح من الطيور الدامية).
ذعرت.. ولم أجرؤ على الصياح ملء روحي، كنت متيقنة بأن لا نحيبى ولا صراخي تخترق غرفتي المستطيلة، خشيت من ان يستيقظ أبي و يحولني الى قبضة من الدم امام احد الآلهة و يقدمني كذبيحة، فكل حركات و افعال ابي كانت صامتة، حتى صعوده و نزوله على السلم الرخامي و مشيته الهادئة بعد الظهر في حديقة الدار وكأنه طيران في الحلم، وهناك احسست بأنه يوجد احد يسهل عليه اختراق الجدران و فتح اقفال الأبواب الموصدة، (ان والدك هو مفتاح لكل باب)، أمي علمتني هذه الحكمة المرعبة بلحظات قبل موتها المفاجيء..، و عاودت النظر الى الطيور، وبدأ ضوء المصباح بالخفوت، رويدا..
رويدا تمعنت فيما حولي، و هجمت علي الطيور الدامية من كل صوب و ركن و ثقب من غرفتي، حتى من اماكن كثقب الإبر حين تدخل منها خيوط الشمس، كم كان شعوراً طفولياً ان اخشى ذلك المنظر، كم حدثت نفسي بعشق عن هذا السؤال الغير المنتظر..، أو يمكن بمقدوري ان احب تلك الطيور الدامية..؟، أم انه على العكس وأسأل نفسي تارة أخرى.. كلا، كل هذا حيل و أكاذيب أبي فقد بنى لي غرفة بشكل يتسنى له مراقبة كل صغيرة و كبيرة في حياتي، حتى تلك اللحظات الوردية حين اقف قبالة الزرقة السمائية للمرآة كالريح، في لحظات التناقظات هذه ادركت بأن غرفتي دائرية، فأمتلاء غرفتي بالطيور الدامية أوصلني الى حقيقة (ان أبي موجود في كافة أرجاء و أركان البيت كي يعرف أحلامي و رغباتي و نزواتي في السر، و الا كيف يمكن لغرفة لم تتمكن الآلهة من إيجادها ان تمتليء بالطيور الدامية خلال لحظات قليلة و تبدأ بالانتشار من النافذة الى الباحة و الى الأزقة والاحياء..؟).
انطفأ المصباح بهدوء.. الغرفة غارقة بالظلام والهدوء والوحشة، مددت ذراعي كي أتحسس حولي؛ وأنا أطوف حول نفسي وأسقط تارة.. وانهض تارة اخرى، وأصطدم بالجدار الدائري لغرفتي المطرزة بالمرايا. لأول مرة ادركت بأن لا هوادة في الشجار مع الظلام.. و ركعت في مكاني، صرفت النظر عن كل اعضاء جسدي إلا مكانين، فعصبت عيناي بيميني و حميت عورتي بيساري، في تلك اللحظة العصيبة؛ خمنت بأن الساعة تقترب من الرابعة صباحاً، فزعت... فزعت..!! من ان الطيور سيتجامعون معي بمناقيرها و ريشها المخضبة بالدماء، خشيت من ليلة الأربعاء هذه ان يكون موسم تزاوج الطيور الاسطورية، حتى و أنا داخل هذا الظلام الحالك كانت ظلال اجنحتها تمضي و تمر أمام عيناي المعصبتين، و رغم صفاء المرايا الدائرية البلورية بدأت الفها، يا لقبح تلك المرايا، آه.. يا لتلك المرايا اللعينة، انها تتحطم بمجرد خفقة من اجنحة الطيور و تتحول الى أجزاء و تتبعثر، و كل جزء يحمل معه قطرة دم قرمزية ندية، و في تلك الساعة لعنت الأيام المنصرمة التي كانت معظمها دموية، و هنا اقتحمت كل جسدي الرغبة في بكاء عميق و مكبوت؛ بكاء لم يدع مجالاً للشك بأن تلك الطيور الملعونة جامعوا امي بالطريقة نفسها و صنعوا سلالة من الدم لأب، والآن أنا متأكدة من اجناس تلك الطيور و بدأت أفهم بأنني قضيت معظم ساعاتي محلقةً في البيت الدائري.. طيران اعلى من زرقة السماء، واصنع من مصراعي نافذة غرفتي جناحين و احلق بعيداً.. بعيداً و اُسافر الى تلك الجنائن التي لم تخطر ببال لا الآلهة ولا أبي ولا الطيور الدامية.
في النصف الاول من الليلة التالية، ابصرت هدواً و سكوناً، و في صباح بحثت ولم أجد اثراً لتزاوج الطيور، و رغم انني كنت طافحة بالشك و الخوف و بعد تفتيش طويلين في كل أرجاء و أركان البيت؛ و حتى بعد بحثي عن ثنايا وريقات الأزاهير الحمراء والبنفسجيات عليه اجد قطرة من الدم أو ريشة منسية لأحد تلك الطيور الدامية لليالي الأربعاء، ولكن ما حدث كشف الستار عن كل تلك الأسرار التي كانت تراودني وكانت سبباً للسباب و عدم التمييز كالخطوط و النقوش في راحة اليد.
تضرعات ترانيم طقوس أبي الاسطورية في الصباح الباكر بعينيه الضامرتين على الارياش الدامية للطيور الأسطورية و الآلهة الذهبية و الأطلال المقدسة لأسلافه كانت تدعونني أول و أجمل بنت شرعية.