في أعمال الفنان عباس الكاظم التركيبية: ما الذي يقلق الفنان؟
الوطن وبساطة الأمنية، أم الرؤية المستقبلية؟

حسين السكاف من مالمو: quot;رسائل إلى أخي ثيوquot; كان أول كتاب يقع بين يديه، قرأه بشغف، وتأثر بلوحات فان غوغ التي ضمتها صفحات الكتاب. صار ذلك الفنان الهولندي أحد أهم الفنانين الذين تأثر بهم، وبعد دخوله قسم الرسم في معهد الفنون الجميلة ببغداد، أثار انتباه أستاذه الفنان التشكيلي العراقي رسول علوان الذي سرعان ما أخذ بيده ليدله على التعبيرية الألمانية ورائدها كوكوشكا. وهذا ما منحه، بناء فنياً خاصاً، أضافت له مدارس الفن التشكيلي في إيطاليا والدنمارك عمقاً علمياً وثقافياً عزز داخله وضوح الرؤية وأتجهت أفكاره صوب البعد الإنساني وإيحاءاته. وأخذت طرق تنفيذ لوحاته وأفكاره تتعالى بين مرحلة وأخرى بدءاً من الانطباعية ثم التعبيرية فالتجريد حتى التعبيرية التجريدية التي تميزت بها دول الفايكنك متمثلة بجماعة الكوبرا. كل هذا كان يتجسد أشكالاً وأفكاراً ضمن إطار اللوحة وقماشها وألوانها حتى وقت قريب.
ترى ما لذي يدفع بالفنان التشكيلي العراقي عباس الكاظم إلى التفكير بعمل تركيبي ينتصب وسط إحدى قاعات العرض لبينالي القاهرة السابع، بعد أن كانت اللوحة بإطارها وقماشها وألوانها، هي من تحتضن أفكاره وأشكاله التعبيرية، وبعد أن تشربت روحه وذهنه واستقام بناءه الفني بالمدرسة الانطباعية وصولاً إلى التعبيرية التجريدية؟ ثم ما لذي تحرك داخله ليخرج من إطار اللوحة ثانيةً ويطلق أفكاره التركيبية من خلال ورشته الفنية التي أقامها ضمن بينالي الشارقة الرابع للعام 2001؟ صورة فوتوغرافية لعجوز عراقية متعبة تحمل روحها رغبة آنية بسيطة جداً ولكنها بقيت عصية عن التحقيق، فكل أدوات تحقيق الرغبة معطلة. أما الثالثة فكان لها وقعها الخاص داخل روح هذا الفنان، حين نفذ عملاً تركيباً آخراً ينبسط تحت الشمس ليسلط ضلاله مكوناً بورتريتية معتمة لجندي إسرائيلي على أرض معتقل الخيام بلبنان؟
quot;وطني الذي منحني الدفء.. وطني الذي عودني انتزاع التعب والوهن والضجر من بين خلايا الروح، ليمدني بالقوة والثبات لأبدأ إشراقة جديدة.. يقف الآن متنصباً وجَميلهُ في الذاكرة.. منتصباً على كثبانٍ رمليةٍ ربما تتحرك غداً لينقلب أو يتحول إلى هيئة أخرى.. أو ربما ستغطيه الرمال القادمة من الجهات الأربع، ليندثر كما هي الحضارات السالفة.. وطنٌ يقف بين التيه والسراب.. كل جَميلهُ وما تختزنه الذاكرة تحول إلى صورة وهمية في مرآة تحاول جاهدة الصمود بوجه الريح والعواصف. quot; هكذا رأى الفنان وطنه بمستقبله!! لم يكن يتمنى تلك الصورة لوطن ترسخ داخل روحه وذاكرته، ولكنه، ربما، كان يقرأ المستقبل. وطن الفنان عباس الكاظم قدمه عملاً تركيبياً فنياً على هيئة سرير قديم إشارة إلى قدم الوطن، ضمن بينالي القاهرة السابع العام 1998. سرير منتصب على كثيِّبٍ رملي، السرير خال من شبكة الرقاد التي سرعان ما يكتشفها الناظر معكوسة على مرآة وضعت تحت السرير، إشارة إلى أن الأمان والاستقرار في هذا الوطن (شبكة الرقاد) أصبح في عالم الذكريات (المرآة)، ظهر وطن الفنان الكاظم (السرير) مائلاً إلى اليمين وكأنه، ربما، على وشك السقوط حال هبوب العاصفة. حاز هذا العمل (وطن) أو (هوية وطن) إن صح التعبير، على جائزة بينالي القاهرة عام 1998 بالإضافة إلى جائزة اليونسكو لترقية الفنون وهي المرة الأولى في تاريخ هذه البينالة ينال فيها عمل واحد أكثر من جائزة. لم تأتي فكرة العمل من العدم، فوطن الفنان كان قد وصل حد الإنهاك والعجز وبدأ يتحول إلى شيء آخر ضبابي الملامح، بعد الحروب والغزو والتحرير وعقد الصفقات والحصار والتجويع والمرض وموت الأطفال، كل ذلك كان إشارات إلتقطتها العين المبدعة لتصور مستقبل الهزال المستمر الذي تعرضت له روح وجسد وطن الفنان.
بعد تلك الجرعة التي شعر الفنان بتأثيرها وهو يتلقى شحنات آلامه القادمة أنيناً من أرض الرافدين، وبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ راح يجهز لعمله الثاني، حمل أدواته وهمومه لينتقل إلى قاعات الشارقة ويكوّن ورشته الفنية ضمن بيناليها الرابع، ويعرض عمله التركيبي الذي حمل عنوان quot; شعلة لا ألف quot; صورة لعجوز عراقية تحمل الرغبة الكامنة في روحها المنهكة، الرغبة التي قد لا يشعر بها الآخر، فالآخر المترف لا يشعر بالضرورة بالرغائب والأمنيات الآنية الصغيرة التي تعتمرها أرواح من يصنع الحياة وخبزها. الآخر صاحب القرار لا تحركه مكنونات تلك الروح، فلطالما تعوَّد الاسترخاء، وتظاهرَ بحمل هموم البسطاء. وحين تصبح الرغبة حاجة معلنة يسمعها ويشعر بها القاصي والداني، حينها فقط، يتحرك ذلك الجسد المسترخي، حامل زيف الهموم، ليحطم كل وسيلة من شأنها تحقيق تلك الرغبة على الرغم من بساطتها. المرأة العجوز التي منحت سنوات عمرها لدنيا حاولت أن تترك قطرات عرقها على ترابها، تحمل همومها وتجاعيد وجهها ووهنها من خلال عمل الفنان، طالبة ذؤابة شعلة تطفأ فيها رغبة تافهة، أن تشعل سيجارة، رغبة في تذوق طعم مر قد ينسيها مرارة أعظم، إلا أن تلك الرغبة وغيرها من توافه الرغبات باتت عصية على التحقق على الرغم من الآلف قداحة التي تحيط عالمها. قداحات سبق لها وأن مارست عملها وانفجرت لتعطل فائدتها المرجوة نزولاً عند رغبة صاحب الجسد المسترخي.
إن ترك الأثر في مخيلة المشاهد، هو الخلود بالنسبة للعمل. فكثيراً ما يقع كيان العمل الفني تحت تهديد quot;المؤقت quot;. الأعمال الفنية رهن بين المُدرَك ودهشة المُتخَيل، أي بين الصورة الفنية ودلالاتها الزمنية والحسية، وبين تلك الحركة الخفية التي تعتري ذهن وشعور المتلقي لتترجم ظاهرياً إلى متعة الإكتشاف وبالتالي الدهشة. وتلك هي الفكرة التي لمسناها لدى الفنان الكاظم من خلال عمله التركيبي الثالث quot; نذير حاجب الشمس ndash; 2002 quot; التي أعادت الفنان إلى السرير برموزه مرة أخرى، ولكنه صار هذه المرة ثمانية أسرة لسجناء معتقل الخيام. فهذا الفنان المولود بين دجلة والفرات، كثيراً ما حلم بتحويل سجون العراق إلى متاحف بعد أن يعود إلى بلده quot; ظافراً quot;. ظل ذلك الحلم يدور في فلكه متسرباً إلى أعمق تلافيف كيانه. وحين أتته الدعوة ليشارك في تحويل معتقل الخيام إلى متحف فني، أي تحويله من مكان يصرخ بأنين السجناء ويفتح جراحاً جديدة كل يوم بأجساد أبناء البلاد، معتقل مارست فيه مرتزقة الصهاينة أبشع أساليب التعذيب وإذلال الروح البشرية الحالمة بالدفء والطمأنينة، إلى متحف يبقى شاهداًَ على تلك الجرائم ولكن بلمسات وأفكار إبداعية. راح عباس الكاظم يشتغل وكأنه يحقق حلمه الكبير، فوجد فكرة تحويل المواد المتبقية من السجن والسجناء إلى عمل فني، كونها ndash; تلك المواد ndash; الأكثر صدقاً وقرباً من الحقيقة، مَنفذاً دقيقاً ومهماً لعمله، فقرر تنفيذ عمله وسط quot; قاعة الشمس quot;، القاعة التي كان ينعم بها بعض السجناء بعشر دقائق تحت أشعة الشمس كمكافئة. أخذ ثمانية أسرة تعرف أسلاك شباكها ظهور السجناء وأحلامهم وآلامه لسنوات طوال، وعرضها وسط قاعة الشمس، وجعل تكويناً معيناً في الأعلى، ليكوّن ظل جندي إسرائيلي ساقطاً على الأسرة الثمانية، يتحرك مع حركة الشمس، وكأن الفنان ابتغى الإشارة والدعوة إلى الولوج حيث دواخل السجين لتلمس همومه والتأكد من أن الجندي الإسرائيلي بقي في ذهنه رغم تحرره ورغم اندحار السجان وخيبته. الإشارة إلى أن الشبح الإسرائيلي، دائم التربص بالإنسان المحب للحياة حتى لو بقيت الأسرة خالية من الأجساد. تربص الصياد الغارق بوحشيته.
quot; الأعمال التركيبية يمكن أن تتلمسها، وبهذا فهي أقرب إلى الواقع من اللوحة بشكلها التقليدي، ولكن تبقى الفكرة هي من تحدد مادة التنفيذ. فالفرق بين اللوحة والعمل التركيبي، أجده قريباً من الفرق بين القصيدة والعمل المسرحي، كلاهما يحتفظ بسمو الفكرة ورسالتها الخاصة وما الاختلاف سوى بطريقة العرض quot; هكذا قال الفنان عباس الكاظم موضحاً رؤيته بأهمية الأعمال التركيبية، فهو الفنان التشكيلي المعروف بلوحاته ذات الألوان المشعة والكتل اللونية الكثيفة، والتي غالباً ما يستخدم أصابعه بدل الفرشات في تنفيذها.
المستقبل وقلق الفنان
أثبتت الأعمال التركيبية على أنها أعمال تحريضية بامتياز. فلغتها تعتمد إظهار الطاقة الكامنة داخل quot;الخاماتquot;، لغة تعتمد الفكرة لإخراج تلك الطاقة وتحويلها إلى فكرة يمكن تلمسها. فالحديد والرمل ونشارة الخشب والماء والنار والطين والأسلاك والزجاج، ما هي إلا مواد منحها الفنان روحاً وخرج بواسطتها من دائرة الصورة المعلقة على الجدار الى الحجم الميداني حيث الفراغ. وبهذا تكون تلك الأعمال قد منحت المشاهد quot; دهشة الفكرة وقلقها quot;.
فبعد خمس سنوات من تاريخ بينالي القاهرة السابع، عصفت الريح بأرض العراق، وتحركت تربته تحت سرفات الدبابات لتثير عواصفها الرملية ويصبح الـ quot; وطن quot; أكثر ميلاناً نحو هاوية الحرب والتهديد، انتشر الذبح وتهاوت الأمنيات ودفنت الرمال وجوه الأطفال الآمنة التي لا تفقه من الحياة سوى الفرح والمرح ورائحة الكتب المدرسية الجديدة. صار الوطن شيئاً آخراً، وكأن حضارة عريقة قد اندثر وظهرت quot; حضارة quot; أخرى.
وبعد تحويل معتقل الخيام إلى متحف للفنون بست سنوات، عادت القوات والطائرات الإسرائيلية إليه، لتعيده أشلاء متناثرة على سطح الأرض وتحت ترابها، تماماً كالأرواح الحالمة بحلاوة الحياة وأمنها التي أزهقت على أيدي أبناء جلدة الطيارين وقوادهم. تسع غارات على المعتقل المتحف كانت كافية لتحيله وأعمال الفنانين العالميين والعرب واللبنانيين، إلى ركام من الحجارة والألوان وأنين الأمنيات.
وبعد سنتين من عرض العمل التركيبي quot; شعلة لا ألف quot; في بينالي الشارقة ضاعت الأمنيات العراقية وصارت المرأة العراقية أقصى ما تتمناه شعلة ضوء يكسر عتمة ليلها ونهارها، أو ذؤابة نار تجهز بها خبزها، صار رغيف الخبز أمنية، واستنشاق الهواء ليومٍ آخر حلم يقلق المنفلت من باب داره صباحاً ليجلب قوت أطفاله، وصار البحث عن شعلة لتحقيق رغبة إشعال سيجارة أكثر تفاهة، فلقد اختفت حتى السجائر باختفاء ما يسد الرمق.