ينتابني اشتياق لا حصر له في مدينة النجف كلما وقفت، ونظرت إلى صورة جدي المعلقة في الهول، وهو بعمامته، ولحيته البيضاء، وبعينيه السوداويين، وكان ذلك بعد أن توفى، وأنا على صغر، ولهذا كنت أتوق إلى ذكراه دائما، وكانت صورته تكاد تنسيني ضجر ساعة الشروع بالتعب الذي أحس به في بعض الأحيان، وساعتها أتبسم بغبطة، وأقول مع نفسي: أننا فقدناه!
كان وجهه يلهمني ودا رائعا وعظيما، وأنا أحاول أن أحدد تعبير نظرته الغير العادية، وكأني لم أر أبدا نظرة تتلألأ لامعة، وتبث بي حنينا وتوقا، وسعادة مجهولة. نظرة كالسحر المرتعش في انبلاج فجر غامض، وقتها يأخذني شرود لا مثيل له، لأغوص في أعماق صورته، أعانقها بعيني، وروحي التي تضج بضجيج موت تفر منه شكوى جامحة، كتومة، بعدها أسبر أغوار السنين التي مرت، وأنا الآن في الخمسين من العمر، فعبثا حاولت التمرد على حلمي، فهو أقوى مني بكثير، وليس في قدرتي التحكم به، ولا تجاوزه، فهذا يتناقض مع وقفتي التي أنزلت بكل شخصه من إطار صورته في أعظم تأمل، تخاطبه أفكاري بلغة الماضي، لغة لا تحدد، بلا صوت، لغة تقلقني، إنه الماضي على الدوام، فإنني أرى الماضي موجودا على الدوام، رغم غيابه، رغم أنه لا يعود، لكنه ليس ضائعا، أنه متهيب، محدث ضجة هائلة في داخلي، كان جدي عاكفا على نفسه، حنونا، متواضعا، صادقا، وزاهدا، له نظرة مرهفة، يقول الشعر، ويعرف أجناس الأدب.
كنت أستغرق في تأمله، وأنسى نفسي عندما أتأمله، وهو ينظر إلي كي أرى نفسي، الصورة تتأملني، وأنا أتأملها، تراني وأراها، وهي أشد وقعا علي، تنبعث منها رائحة طيبته التي لا تضيع أبدا، وهذا ما يعيد الشعور به لذاتي، هكذا أعطيت نفسي فكرة التأمل، وأنا أراه، رغم المسافة التي تفصل بيننا، والأعوام التي مضت، ليست هي مسافتنا عن العالم، المسافة ذرائع وانعكاسات كل الأشياء، تتدخل عفوية معطرة في ارتجاف الهواء، وهذا إدراك مباشر لكوننا، وأنا أنظر إلى نفسي من الداخل، وتمسك عيناي من الخارج بالصورة لأفتش عن طبيعة، وكينونة، وخصوصية جدي، عيناي اللتان تتركان الرتابة اليومية في الحياة، وتنظران روحانيا إلى وجوده الآخر على رتابة نفسي في مجرى أفكاري، وفي نفسي ألفة لكل النواحي الآتية من حياة سائبة اليوم، مملوءة بفيضان التماسك، والحكم، والملاحظة، وفي قيادتها، ورؤيتها بوضوح، والتصاقها بالصورة، الفتي يرى نورا مبهرا، أنا وحدي أستطيع أن أرى جدي، وهو مجهود لتعويض موته، أراه بوضوح عندما كان ملفوفا بالكفن، وأنزلناه إلى لحده في مقبرة العائلة، كنت أبكي، وأصرخ: (جدي)، تلك كانت مواجهة بيني وبين الموت، لا أملك سوى عيني اللتين من خلالهما أشعر بالموت وجها لوجه، وهذه المواجهة كانت الخطوط الأولى التي ارتسمت في عيني، وأدركت من هو جدي، ومن أنا، هذه الازدواجية قد أثرت علي كي أفصل بين الحياة والموت، فكنت شاهد نفسي، أتعذب، كامل الاتحاد مع الموت، لم أنجح آنذاك في رؤية نفسي كاملا، بل كنت أنبش في داخلي كأن هناك جرح يعمقه نحيبي، وهذا ما امتلكني، وأعاد خلقي، في تبادل عاكس في وجداني، هكذا اندهشت من نفسي في عفوية محيرة كطفل، ثم عدنا إلى البيت بعد أن دفنا جدي، والنسوة في بكاء شديد ولطم الخدود، وتمزيق الشعر، كلهن في أسود الملابس، وهكذا وضعت نفسي في مقابل نفسي، واكففت عن البكاء، وتظاهرت بالاستسلام مثل الرجال، لأضع نفسي فجأة كشخص أمام نفسه، أو كشخص أختلف عن الطفولة، كان ذلك يفاجئني أن لا أبكي وراء اندهاشي، أنني لا أرى جدي، وقد أقنعتني جدتي أننا كلنا نموت، فأنت ليس شخصا آخر، أنت نفسك ستكبر، وتصبح عجوزا، وتموت، هكذا اختارت لي لأرى نفسي، نسجت عندي صورة شهيرة، وامتلاك حقيقي في الموت، عندها تملكني ضجر نقي، وكرهت طعم الوجود بكل هدوء وفظاعة، وأنا في انتظار الموت، هذا هو المنظر الداخلي الذي صنع لي منذ الطفولة، صنع حزني، وغضبي، وظلت تتناسخ في موت جدتي، وأقاربي، والقريبين لنا، وقد أدركت بوضوح أن المنافذ قد سدت علي في التعويض عن جدي.
الآن في وقفتي كنت أحلم بعذوبة أن جدي يحيا في جنان مضاءة بشموس أبدية، ندية، برقراق ماء شلالاتها، وأنهارها، وهي موسومة بجمال أخاذ، كل شئ منسق وشهي، فاخر، وهادئ، زهور تمتزج بعطور أريج زهور، دافئة، تحمل نغمات تهب مثل النسيم في أوج الربيع.كنت أحلم بهدوء بال كأنني أنهض من عدمي واقفا، أتحسس طرق ألف لغز، وأودع ألف فجر، وأنتفض،، أتورق متناثرا، سابحا بألف أفق، ووهم، عالم ينفتح، يبحث في الخلود، يمتلأ قلبي بالضياء، تحية للخلود! هذا الحلم الدائم النداوة، يعطر الجو بعطر يعبق سرا، مختبئا في أعماق أبدية، هكذا كان يمضي بي الحلم، مرفوعا على كتف جدي بين الحشود بكفن أبيض، ورأس محلوق كما تحملني دقات الطبول إلى (خيمكة) في كربلاء، فأزجي بشراعي، بضجيج الأصوات: (يا حسين، واحيدراه) أشق الأيدي المرفوعة، وأجوب بعيني فوق آلاف السيوف المرفوعة، النازلة فوق الرؤوس، المدماة أكفانهم، تهدهدني الأصوات، بلا آلام تدفنني في سرير عابر، كان يحملني جدي على كتفه، ويتجاوز الحشود البشرية، وافجر لحظة انتصار على الخوف، لم أبك، وأنا طفل صغير، أنه زمن الإعلان عن شق الرأس (التطبر)، عادة عند جدي، فجر ملتهب، عتيق، جائع إلى الثواب، وتدمير الذات، كانت الباب الضخمة مفتوحة على مصراعيها، كنت مفتونا بطلعة الشمس حينما أشرقت لتعلن خبر طقوسها وتفاصيلها اليومية، كربلاء تفيق بالعالم المدمى، تمزق الستار، وتوهب النفس كمقياس للزمن، في تجاعيد الصباح الذي كانت له فتنة أكبر، حين يهدر بحر الحشود البشرية، متحلقة حول الباب، عالم ينفتح، يبحث عن الخلود، ورغبة الناس بحياة الثواب، تسكب الطبول الهمم، والشجاعة، وليس هناك آلام خرساء في شق الرؤوس، فرصة سانحة لعاشوراء في الشوارع، والساحات، و الأزقة، والبيوت، أرى السيوف لامعة مضرجة بالدم، جريئة النفوس، تختزل الزمن الأقصى، انتصارات حزينة، بأنفاس أخاذة، ترانيم الأهازيج، وجدي يندفع نحو حاملي القامات الصغيرة في (خيمكة)، وقال لأحدهم بصوت جازم، صارم: شق رأسه بثلاث ضربات، ومسك يدي إلى صدره بقوة، وهو يقول: (يا علي)، واستجاب إليه فشق رأسي بثلاث ضربات، لم ينفجرا جفناي بالدموع، ولم أسبح بالألم، فسال الدم على وجهي، فداعبته بأصابعي، والطبول تدوي، وكنت هادئا أنظر إلى (المتطبرين) باندهاش، خرجنا من الباب، وجدي يبكي، ويصرخ صرخة عظيمة: (يا حسين!) فامتدت أيادي النسوة المتلفعات بالسواد، وتحمل قطع من قماش أبيض، لتمسح الدم عن وجهي، لم أر في يوم من الأيام أن جدي يبكي، وهذه المرة الأولى التي رأيته ينحب، فقبلت عمامته البيضاء، وأغرقتها بالدماء، ذهبنا برحلة قدسية بين العزاوات، وجدي حافي القدمين،، وأنا حافي القدمين، أنزلني عن كتفه وهو يقودني من يدي، فإن عمق المشهد التي رأيته بعيني، أصبح رمزا لي، وتوحدت فيه الرقة، والخوف، وحدة التناغم مع إيقاع الطبول، وانسجامي مع تلك الوجوه التي يغطيها الدم، وجوه جريئة تريق الدماء من رأسها، كنت أهيئ نفسي لشيء آخر.
كنت وسط حشد هائل من البشر، ينساب، ويندفع مرعدا نحو مرقد الإمام الحسين، مطلقين صيحات: (وا حسيناه!)، كان جدي يتلو دعاءات مع نفسه بلغة رصينة، لطيفة، أردت أن يكون بيننا كلام، وأنا أحاول أن ألتقط كلماته وأحتفظ بها، وأشرد في حلم بهن وسط عالم من البشر المكفن بأكفان بيضاء، مضرجة بالدماء، والسيوف تجيش في الهواء، وتسقط على الرؤوس، أعجز عن وصفها، وحل صمت وسيع بيننا، كنت أنا الجانب المحزن، التي ينظر إلي (المتطبرون)، وأنا ألقي بعيني في هذا المشهد غير المألوف، الذي أرعبي، واتقد ذهني إليه، ثم رحت أنصت إليه من جديد، وهو يردد الدعاء، ويهزني صوته، فيه نغم، ورقة، كأنه يهدئني من أوجاعي، وهو يأخذ بيدي، وأنا أصعد نظري في عالم خاص، أعجز عن فهمه، أنا لا أعرف لماذا ينظرون إلي؟! إلا أنني كنت أحس بدفء يد جدي التي تمسكني من يدي، وأتحسس أفق واسع.
صعدنا السيارة العائدة إلى النجف، فأحسست بتعب شديد، كان النعاس يغالبني، فاستغرقت في النوم، لقد حلمت بهم، حوافر جيش الشر تمزق الصدور البريئة، تحرق الخيم، فانطلقت من أعماق رقادي صرخة مدوية: (وا حسيناه!)، قبلني جدي فأحسست بدقات قلبه، وأنفاسه، وهو يقف ظل ليحميني من جيش الشر، وإذا بالسيارة تقف في النجف، فننزل منها، وسرنا إلى الميدان، ثم إلى أزقة الحويش، فاستقبلتنا أمي، وهي تلطم خدها، وتقول بصوت وقور: ماذا فعلت به؟! لم يرد جدي بل ذهب مباشرة إلى غرفته، ونزلت أنا إلى بيت النساء، فتجمع حولي الجميع، وهم يسألوني بصوت واحد:
ألم تخاف؟!
لاhellip; لاhellip;
غسلتني والدتي بماء دافئ، ونشفتني، ثم أبدلت ملابسي بأخرى، وذهبت إلى الفراش، فاضطجعت هادئا، وخلدت إلى النوم، وحلمت مؤخرا: الشمس تتجه نحو المغيب مختفية، إن حدتها قد خفت، وتضاءلت، وجيوش الشر تقتل أحفاد رسول الله، ناهبة، مشعلة النيران، فتحت عيني، أحملق في السقف، كنت ساهيا غير مهتم بشيء، فنهضت، وغادرت الفراش، وأنا أسأل أمي:
أين جدي؟!
hellip;في غرفته، ينبغي أن تنام hellip;
صعدت سلما، واندفعت بهدوء إلى الباب، وبهدوء فتحت يدي الباب، ومع ذلك أصدر صريرا، خافتا، وما أن رآني حتى قال بفرح: (ادخل)، وحالما اقتربت منه أجلسني إلى جانبه، وواصل قراءة القرآن بعد أن تفحص رأسي، وهو يردد: (ستطيب عن قريب)، وراح يشرح لي السورة، فتمددت على السجادة، أغمضت عيني، وأنا أردد: (أنا تعبان، يا جدي).
ألقيت نظرة سريعة حولي لم أجد أحدا من أهلي، فخرجت من البيت إلى الزقاق بعد أن أحكمت سد الباب، وصورة جدي تتراقص في عيني، فقلت مع نفسي: لأذهب في زيارة مرقد الإمام علي.