كرمين نصيرة من الجزائر: في مطلع شهر جانفي 2009،أطل علينا الكاتب الجزائري الواعد مونيس بخضرة بمولود إبداعي جديد تحت عنوان : تاريخ الوعي quot;مقاربات فلسفية حول جدلية ارتقاء الوعي بالواقعquot; الذي صدر عن دار العربية للعلوم بيروت و منشورات الاختلاف ومؤسسة محمد بن راشد المكتوم في طبعته الأولى، و الذي يعتبر تتويجا آخر للفكر الجزائري المعاصر يضاف إلى حلقات سلفه، وفي هذا الكتاب بصفحاته 299 ص، يعالج صاحبه إشكاليات مختلفة و هامة، منها لها علاقة بالواقع المعاش و منها التي تبحث في إشكاليات الفكر العربي المعاصر، وأخرى تبحث في إشكاليات الفلسفة العالمية بمختلف توجهاتها و تياراتها، و مجمل هذه الإشكاليات و تحليلاتها وضعها الكاتب في ثلاثة فصول كبرى.
ففي الفصل الأول و الذي هو بعنوان : نحن والفلسفة، تناول فيه الكاتب ظاهريات الوعي الحسي و أصل التفاوت بين المدن و إشكالية العنف بجميع مشتقاته و علائقيته بالإرهاب و الدولة و السياسة و الإيديولوجية، كما تناول فيه أيضا نماذج من الفكر الجزائري الأصيل و بالتحديد أعمال الأمير عبد القادر الجزائري بعنوان العقل المنبثق في فكر الأمير عبد القادر وموضوع مقارنة الأديان وحظها من العقل في كتابات الشايف عكاشة، و أعمال المفكر عمر مهيبل المابعد حداثية.
أما في الفصل الثاني الذي عنونه الكاتب ب: فلسفة الفلسفة، أو حينما تكون الفلسفة موضوعا لذاتها، الذي من خلاله أراد الكاتب أن يقدم قراءة جديدة لجملة هذه الإشكاليات، بما يتوافق مع إيمانه العميق بإمكانية تقديم قراءات متعددة ومتزاحمة لإشكال فلسفي واحد،وهذا الذي جعل الكاتب يعتقد أن الفلسفة في تاريخها بقيت ضمن أحادية الفهم لها، مما حولها إلى دوغمائية صلبة متراصة في تاريخ الفكر البشري،وهو ما يعارض طبيعة الفلسفة كمعرفة مفتوحة في الصميم.
فقدم فيه الكاتب قراءات نوعية و جادة لأهم الإشكاليات البارزة كما يقول، و أبرزها إشكالية العقل و النقل في فلسفة ابن رشد وانعكاسها على واقعنا الاجتماعي المعاصر ndash;من الخلاف الفكري بين الفلسفة و الدين إلى الخلاف حول فهم الواقع- و توظيف ذلك الخلاف في عملية تفريخ العنف، و إشكالية المنهج الدياليكتيكي في الفلسفة اليونانية عند كل من هيراقليطس و أفلاطون و البحث في مقولات الوعي التاريخي الإغريقي عند هيرودوت و ثيوكيديدس و إشكالية إعدام سقراط و أثره على الواقع الإغريقي، وميتافيزيقا القانون عند أفلاطون، و تطور التاريخ من لحظته المسيحية إلى لحظته الفلسفية مع فيكو و كوندورسيه، و تناول أيضا بالتحليل أزمة المعرفة الحديثة مع كانط، وعقم الفلسفة وإنغلاق حدودها مع هيجل، حيث يوضح الكاتب في هذا الشأن، من خلال رؤية ميشيل فوكو في ظاهرة هيمنة الفلسفة الهيجلية على منافذ الفكر المعاصر، و التي أدت إلى ظهور محاولات جاهدة بالوسائل كلها،للتخلص من قبضة هيجل والتي تمثلت في نظر فوكو كالتالي:
1- الإعتمادعلى المنطق، لأنه يستطيع الكشف عن quot;تناقضاتquot; الهيجلية، بعدما إدّعت معرفة المطلق بالعمل الدياليكتيكي.
2-عن طريق الإبستمولوجيا،بسبب قوة تأكيدها علىquot; ميتافيزيقيةquot; فلسفة هيجل،البعيدة كل البعد عن المعرفة الحقيقية التي يسعى إليها الإنسان؛
3- بفلسفة ماركس،لأنها استطاعت تقوّيض الهيجلية من الداخل، نظرا لتجاهلها للإنسان، واهتمامها لما لا يحتاج له،ألا وهوquot;المطلقquot;.
4-عن طريق نيتشه،لأنه في نظر فوكو،قام بما عجز عنه هيجل حينما تمكّن من تأسيس فلسفة الحضور، التي بها أصبح الإنسان أكثر حضورا في العالم وأكثر مراعاة لأبعاده المستقبلية.
ويقول الكاتب مونيس أنه رغم هذه المحاولات وإختلاف وسائلها، إلا أنها لم تستطع التملص من فلسفة هيجل كما يرى فوكو،لأن هيجل استطاع أن يبتلع الفلسفة كلها،وهذا ما جعله يقبض على عصرنا بقبضة من حديد، فالفلسفة المعاصرة لم تستطيع أن تصنف هيجل في أية فئة وجب أن يصنف، لأن فلسفته إستطاعت أن تأسس لمستقبل أبعاد الفكر الفلسفي،الأمر الذي مكنّها من إلقاء ظلالها على العصور التي تلتها،عاكسة بذلك مدى قدرة هيجل على الكشف عن المطلق بواسطة الفلسفة، فلسفته التي وضعت حدّا لجميع التصورات الفلسفية القابلة لتخصب، وبهذا عجّل هيجل من كبر الفلسفة،دافعا بها إلى حدّ الشيخوخة حيث الوهن والعقم.
كما تطرق الكاتب أيضا إلى علاقة الأرض بالكتابة في كتابات جاك دريدا وغيرها من الإشكاليات.
وأخيرا في الفصل الثالث والذي كان بعنوان: مقولات تطور تاريخ روح العالم عند هيجل من البدء إلى غاية انكشاف المطلق في الواقع في لحظته الفلسفية والفنية والدينية.فعالج فيه الكاتب تطور التاريخ بجميع مقولاته المنطقية التي ظهرت في حركة الديالكتيك، بدءا من لحظة ميلاده مع الحضارات الشرقية القديمة، بجميع روافدها، الصينية و الهندية و الفارسية و المصرية، بعدما وضعها في وعاء الديالكتيك، فرافد الصين يقابل مقولة الوجود التي يبتدأ بها الدياكتيك تكونه و عمله، أما رافد الهند فيقابل مقولة العدم، و بجدل الوجود و العدم تظهر النتيجة في مقولة الصيرورة التي تقابلها الحضارة الفارسية و المصرية، عنها تمر الروح الكلية إلى الحضارة اليونانية التي تمثل لهيجل عهدا جديدا، تقع في وسط التاريخ ليستمر التقدم التاريخي جارفا على الغرب حتى يصل إلى قمته النهائية حيث يتطابق المطلق مع الواقع في مفهوم الدولة الصحيحة التي تمثلها الأمة الجرمانية، و هكذا يصل التاريخ إلى مرحلة النهاية بعدما إكتمل بناءه، بهذه النهاية يفقد التاريخ معناه و يعود عبثا، لأن الدياكتيك قد نفذت مقولاته و كل محتوياته في عملية بناء التاريخ، و هيجل هنا يشبه حركة التاريخ بحركة الشمس التي تطلع من الشرق و تغيب في الغرب،، و أيضا تكلم عن الأدوات التي تم بها تحقق المطلق في الواقع و سرّ تفوق العنصر الجرماني في التاريخ.
و الديالكتيك الهيجلي كقانون للوجود قدم فيه الكاتب مونيس، استفسار هيجل حول فهم العامة للديالكتيك،إذ يقول هيجل quot; لقد آلف الناس أن ينظروا إلى الديالكتيك على أنه فن عرضي يؤدي ببحثه إلى الخلط و إبراز التناقض في الأفكار المحددة الواضحة،ومن هنا عد هذا التناقض تناقضا ظاهريا وهو لا شيء لأن الأفكار تخلوا منه،كما قيل أن الواقع الحقيقي ينتمي إلى أفكار الفهم الأصيلة،و الواقع أن الديالكتيك في الأغلب إلا ضربا من الحجج الذاتية تتأرجح بين تأييد شيء وتفنيده،غير أن الديالكتيك هو الطابع الحقيقي والمناسب لماهية كل شيء بصفة الفهم المحض، فهو قانون الأشياء المتناهية،وهو قانون متناهي ككل quot; فمن خلال هذا التصريح يرى الكاتب أن هيجل قد وضع حدا للفهم الشائع آنذاك لديالكتيكه،على أنه قانون عام للوجود المتناهي، وهو بذلك تجاوز كلي للمنطق القديم، ومن هنا تظهر أهمية هيجل إذ تميز بقدرته الكبيرة في استيعاب التاريخ العالمي للإنسان، والتمكن من قراءته قراءة منطقية وفلسفية باختلاف مراحله، وفي بحثه في الديالكتيك استطاع هيجل أن يكشف عن ضعف واضح فيما يتعلق بمواضيع التطور سواء في المنطق أو في التاريخ و النظريات التقليدية الذي انعكس سلبا على مضامينها. فالديالكتيك الهيجلي هو عبارة عن نظام من التعينات الخالصة للفكر ولسائر العلوم الفلسفية طبيعية أو عقلية، وهذا ما يجعله يكتسب أهمية قصوى في علاقته المباشرة بأشكال الفكر ومضامينه، وهذا ما أهله في نظر الكاتب لأن يكون منهجا فلسفيا قويما شاملا للوجود،وفي نفس الوقت يصلح أن يكون موضعا خصبا للمعرفة وللعلوم نتيجة خصوبة مباحثه وتفرعاته وتسلسل مفاصله المعرفية.
يرى الكاتب أن الفلسفة الحّقة هي الفلسفة ومشكلاتها، لمّا تملكه من قدرة على تحويل مشاكل العصر وإفرازاته وهموم المجتمع إلى نّص فلسفي مفتوح، وهذا لأنه يؤمن على أن الفلسفة في لحظة معالجة هذه الإفرازات والمشاكل تزيد في بناء هرمها،وهذا في نظر الكاتب بأنها تعي ذاتها أكثر من أي موضوع آخر في العالم،نظرا لما تملكه الفلسفة من طبيعة خاصة تساعدها في ذلك وأيضا لأنها متماهية مع البحث المستمر وعملية البحث هذه يراها الكاتب عملية ثمينة لما تفرزه من ايجابيات صالحة للواقع الإنساني أثناء صيرورتها،صيرورة تفرز تيارات وأفكار نافعة للبشرية كما تساعد في نفس الوقت على نشوء الحضارة.
فالكاتب مونيس يرى في مشكلات الإنسان،مشكلات الفلسفة عينها،وحين تتمكن الفلسفة من حسم الإشكال تنتقل إلى حسم إشكال آخر، قد ترسب فوق الإشكال الأول بوجه جديد وبمعطيات جديدة، لأن الحلول الفلسفية تقضي على الجذور التي إمتصت بها الإشكاليات حيويتها،هذا ما يجعلنا أمام فلسفة الفلسفة كما يعتقد الكاتب، فمن المستحيل أن نتعامل مع الفلسفة تعاملا تاريخيا،كما هو سائد في أبجدياتنا الفلسفية،هذا التعامل إعتبره الكاتب يتعارض مع الفلسفة المطلوبة، ومن يعمل بهذا التعامل فهو لا يعمل على إستمرار الفلسفة بقدر ما يعمل على فنائها، فبتناوله لأهم الإشكاليات الصعبة التي تتخبط فيها المجتمعات العربية المعاصرة، ينتقل إلى مقاربتها مع النظريات الفلسفية الصافية، إيمانا منه بما تمتلكه الفلسفة من قدرة على تقديم المصوغات المناسبة لعقدها وقدرتها على فضح المستور خاصة منها إشكالية طغيان الوعي الحسي على الفكر العربي في عمومه، حينما عّد معيار وحيد للوجود الفعلي العربي، وهذا لأن الكاتب يرى أن الوعي العربي لم يستطيع تجاوز المرحلة الحسّية من مشوار تكّونه عبر التاريخ، وفي هذا الصدد يعلق المؤلف على الوعي الجزائري كثيرا ويتنبأ منه خيرا، فيرى أن المؤثرات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي تشكل الوعي الجزائري في فترته الراهنة، على أنه يمر بفترة حساسة ومرهفة ومهمة، فهو يعيش الآن كما يقول الكاتب مونيس مرحلة مخاض إرتقائه إلى مرحلة أفضل،عمل من أجلها منذ أن وجد، فهي عصارة تاريخ الذات الجزائرية، مرحلة ستظهر في نمط الفكر الكلي لهذا المجتمع وفي نمط الحياة الراقية والهادئة، وفي طريقة التعبير عن الاستقرار المصاحب لنشوات الإرتقاء نحو عصر أفضل، نحو بلوغ الطموحات،وهذا لا يتسنى في إعتقاده إلا من خلال الإرتقاء في سلم المعرفة والتفكير، فالكاتب يشير في هذه النقطة أن وعينا الآن يعمل على تجاوز الحياة الحسية المشوبة بالتغير وغير الإستقرار التي عاشها طويلا في عصر الفكر، أي أنه يعمل بكل ما أوتي من أدوات، أن يتجاوز المباشرة ويتجاوز رضا اليقين وسكينته، وتوافقهما على وجودنا الكلي في الداخل وفي الخارج، ليتخلص أخيرا من معانات انعكاسه على ذاته من دون أن يؤسس ماهيات لفعله الواعي، بل يعمل على تجاوز ذلك الإنعكاس، فحان الوقت للناس أن ينسجموا مع مطالب الحياة وأن يكفوا عن النظر إلى الأسفل حيث الوهم، وأن يبدؤوا في النظر إلى الأعلى، حيث النجوم والعظمة،وينسوا رموز العذاب وذكريات الألم الطويلة وأن ينفذوا إلى صميم الأشياء لكي يحولوها إلى أشياء غامضة، وهذا كله في نظر الكاتب لا يتسنى إلا عن طريق مجابهة السؤال الفلسفي، فلا شيء يعطينا قدرة تحويل المألوف والشائع إلى شيء غامض سوى الوعي والفلسفة، لأنهما يتغذيان من الغموض الذي يسود عمر الفكر.
وهذا الذي يجعلنا نثمن محاولات الكاتب الجيّدة سواء التي ظهرت في مؤلفه الجديد أو في مقالاته الكثيرة والمختلفة.