حوار مع القاص والروائي سمير الفيل
محمد الحمامصى من القاهرة: هو كاتب متعدد العطاءات: فقد بدأ شاعرا للعامية وأنجز خمسة دواوين قبل أن يتجه كليا للسرد فيقدم للمكتبة العربية سبع مجموعات قصصية وثلاث روايات، له ارتباط كبير بأدب الحرب حيث انخرط فى إحدى كتائب المشاة المصرية فى الفترة من عام 1974 إلى عام 1976، وبالرغم من أنه لم يحارب العدو الصهيوني إلا أن وجوده فى الكتيبة 16 مشاة وضمن طاقم الهاون 82 مم قد وفر له مادة خام لروايات المحاربين كما فى رواية quot; رجال وشظايا quot; 1990 ورواية quot; وميض تلك الجبهة quot; 2008، وبين الروايتين أنتج مجموعاته القصصية التى لاقت أصداء نقدية باهرة، حول تجربته الأدبية ونجاحه فى الوصول إلى القارئ العربي وبعض القضايا التى تخص تجربته كان لنا معه هذا الحوار
** بداية كانت تجربتك في الشعر العامي موفقة وأشاد بها الأبنودى وسيد حجاب وغيرهما من شعراء العامية.. لماذا تحولت للسرد؟
** لا يوجد سبب واحد لتلك الانعطافة صحيح أننى بدأت شاعرا وحققت تواجدا ملحوظا حتى مع أول ديوان يصدر لى quot; الخيول quot; 1982 ثم فيما تلاه من دواوين كان آخرها quot; نتهجى الوطن فى النور quot; 2000، وربما نبرة الحكى قام المعد محمد الشربينى بتحويل الديوان الأول إلى عرض مسرحي بعنوان quot; غنوة للكاكى quot; وأخرجه الفنان شوقى بكر ولحن أغنياته توفيق فودة، وشهد حضورا جماهيريا رائعا وشارك العرض فى أول دورة لنوادى المسرح وحصل على جائزة فى الألحان، وأشادت بالتجربة ناقدة مهمة مثل منحه البطراوى وغيرها.
أدركت منذ هذا العرض إمكانية تعاملى مع لنص عبر زوايا متعددة ربما كان الشيء الأهم هو أن مجلة quot;صباح الخير quot; نظمت أول مسابقة للقصة القصيرة ودخلت المسابقة بنص هو quot; فى البدء كانت طيبة quot; وفوجئت به يحصر المركز الأول ويكتب عنه النقاد كلاما جميلا، كان هذا عام 1974 وعمرى بالضبط 23 سنة، وفى العام التالى شاركت بقصة أخرى مختلفة تماما هى quot; كيف يحارب الجندي بلا خوذة quot; وحصد النص الجائزة الأولى أيضا، هذا معناه ببساطة أن النقاد الذين قاموا بالتحكيم قد رأوا فى النصين شيئا ملفتا وأعتقد هو نبرة الحكى والقدرة على تحريك الحدث، كما أننى منذ البداية أدرك أن اللغة هى مفتاح نجاح الكاتب أو توفيقه، لذا اهتممت بها ولم تكن زخرفا أو حلية بل هى لب النص وقلبه الحي الموار بالعنفوان.
** وكيف ترى تجربة أدب الحرب في ضوء ما كتبته فى مجموعتك quot; خوذه ونورس وحيد quot; الصادرة عام 2001؟
** تعود القصص كلها لفترة سابقة، وفى اعتقادي أن أدب الحرب ليس هو الضجيج الذى يحدث مع الاصطدام بين القوات المحاربة وليس هو القنابل والقذائف، ولا هو الجرحى والشهداء، لكنه يعنى فى المقام الأول ذلك النسغ السري الذى يسرى فى الحياة فيمدنا بالمعنى فى تجلياته المختلفة.
لم أتوقف عند فكرة القتال ولا الموت المرتبط بالصراع بين قوتين، لكننى رحت أسأل المحاربين عن اللحظات الإنسانية التى ارتبطت بها طلعاتهم، وبحثت عن
فكره الشهادة وعن مفهوم الوطن وما هى حقيقة الروائع التى تجعل quot; محاربا quot; ما يتجه بكل قوه لاقتحام مكامن الخطر رغم معرفته بالعواقب.
مثل هذه اللحظات صعبة ومتكتم عليها لكنها ظلت تخايلنى حتى قيض لى أن أقابل المحاربين وأجلس معهم فى خنادق العمليات بسيناء، وقتها فهمت وأدركت أن الشهادة كانت اختيارا لإزاحة فكرة الخوف أو التردد، لذلك ليس أبطالى شجعان طيلة الوقت بل هم أناس عاديون من لحم ودم لديهم مخاوفهم ونقاط ضعفهم، ولديهم أيضا شجاعتهم وطاقاتهم الأصيلة لدحض العدو رغم تفوقه الميداني أحيانا.
** لكنك فى quot; رجال وشظايا quot; التفت إلى الداخل أكثر مما يحدث فى الجبهة وظل السرد يتجول فى عوالم بعيده عن الحرب أحيانا؟
** هذا صحيح فلن تفهم سلوك المقاتلين ولن يكون بمقدورك أن تتنبأ بردود أفعالهم دون أن تعود إلى المنبع إلى الحارات الفقيرة ذات البيوت المتساندة على بعضها البعض. هنا ستعرف حقيقة دواخلهم، وسيكون بمقدورك ان تلقى الضوء على حقيقة ما قاموا به لقد اكتشفت ان أبطال حرب أكتوبر ndash; مثلا- هم من الطبقات الفقيرة الكادحة الذين تعلموا بالكاد، وظلوا فى انتظار لحظه العبور كى ينقذوا ذواتهم وعائلاتهم من هذا الانكسار الذى لحق بهم. كانت بداخلهم تلك الهواجس والآلام والأحلام التى تناوش ذاكرتهم وكان الموقف بكل تأكيد انحياز لفكره الانخراط فى الحرب تمهيدا لإنقاذ الروح من إحباط الهزيمة.
هنا تضافر البعد الذاتى مع الدافع الموضوعي لتكون الحرب مشروعا يجتمع عليه الكل وللأسف ما حدث هو ان الرجال الذين حققوا النصر لم يجنوا الثمرة بل سقطت ndash; عن عمد ndash; فى أيدي الطبقة الصاعدة من السماسرة ورجال الأعمال الجدد. ولم يحصل المحاربون الحقيقيون ألا على الحسرة والألم.
** لكنك فى مجموعة quot; شمال.. يمين quot; اتجهت لمناقشة فكرة السلطة بروح ساخرة.. ما دافعك لذلك التحول؟
** أنا مولع بأسلوب اللعب فى الفن وارى ان الكتابة المتجهمة والتى تحمل كما كبيرا من الجهامة والعبوس لأتحقق الهدف منها لذا ترانى استعيد ما مر بى من خبرات بنوع من السخرية فكل موقف مررنا به فى الفترة الأولى من زمن التجنيد كان يحمل الكثير من الضبط والربط والقسوة فى ذ الأوامر بشكل شديد الصرامة وقد رحت استعيد تفصيلات تلك الأيام بنوع من الحنين لما مضى ورأيت فى تلك الوقائع القديمة قدرا من العبث يلون حياتنا فى كل حقل من حقولها لكنه يكون أوضح ما يكون فى العسكرية التى تشير إلي الفظاظة والخشونة واللامعنى فى إطار بهيج.
بمعنى ان ظاهرة مثل تزحيف الرمال بالساعات فى قيظ الشمس هى فكره عبثية كذلك حراسه الحفر البرميلية بدون سلاح ndash; فى معسكرات التدريب- هو امر مضحك كما أن أسلوب توزيع التعيين ndash; كل برتقالة على 10 عساكر ndash; هو أمر أقرب إلى التهريج لم يكن مقصدي بالطبع هو فضح وتعرية النظام العسكري الصارم بل التنبيه الى وصول البيروقراطية إلى المؤسسة المفترض بها حماية الوطن فكيف يحدث ذلك وquot; الجنديquot; ذاته مغبون، مطحون ومجرد quot; غره على رقعه صاج؟ أليس الأمر بحاجة إلى المراجعة أم أن الصمت هو المطلوب فى هذه الحالة؟.
** فى مجموعتك quot; مكابدات الطفولة والصبا quot; الصادرة في بيروت تركت هذا العالم ودخلت لعوالم الحارة، هل هناك سبب محدد دفعك لهذا النوع من المعالجة؟
** أكتب فقط عما أعرفه وأنا ابن حارة شعبية أقرب لورشة الأثاث الضخمة، عملت فى مهن مختلفة منذ طفولتي، وكان من حسن حظي أن أتنبه للعلاقات الإنسانية التى تحيط بنا فى أواخر الخمسينات ومنتصف الستينات، أعتقد أن سنوات الطفولة أصبحت بالنسبة لى هى المخزي الثرى جدا بكل ما يحمله ذلك من مباهج. منذ كتبت quot; مشيرة quot; وأنا أفتش فى ثنايا الذاكرة عن كل المشاهد التى تشكل المادة الخام للقص.
وأظن أن اجتهاداتي السردية نجحت فى أن توقظ داخلي هذا الطفل البريء الذى يجمع البراءة والارتباك. رأيت العالم فى تشكله عبر علاقات حميمة تعلن عن الخلل المندس فى كل تفصيلات حياتنا، ورحت أنقب فى الحكايات عن المعنى العميق للكون، فكل حكاية هى فى حد ذاتها اكتشاف لأسرار هذا العالم المليء بالتوتر والإحباط والإخفاق. تجد ذلك فى quot; غائبون quot; و quot; جيران quot; و quot; مناخوليا quot; التى ناقشت فيها مسألة الجنون والعلاقة بينه وبين العشق، وقد استفدت كثيرا بقراءاتي للمفكر ميشيل فوكو وكذلك بترديدات البيركامو وسارتر، أعتقد أن المشهد البسيط يمكن ان يشير الى معان شديدة الثراء وهو ما تجده فى quot; المكابدات quot;.
** كثيرون ممن قرأوا quot; صندل أحمر quot; لاموك على تصنيفك لها كمجموعة قصصية فيما هى quot; رواية quot; لأن بطلها واحد ومجالها الحيوي واحد، هو quot; الولد فلفل quot; فى محل الأحذية؟
** هذا الأمر يردنا إلى فكرتي عن السرد. أنا أفرق تماما بين نسبية مركبة، معقدة، متراكبة للنص الروائى، وبين القصة القصيرة التى تتكئ على quot; اللقطة quot; ولغتها التكثيف.
أعتقد أن كل وحده سردية جاءت مغلقة، وتعلن عن خطاب بعينه، ولن أفرح كثيرا حين أصنف كروائي كما نجد فى هذه الموضة التى اجتذبت الكثيرين، أرى أن القصة القصيرة فن نبيل وهو فى ذات الوقت فن صعب يعتمد على الإحكام والقدرة على الاقتصاد اللغوي وبسط الخطاب بنوع من النصاعة والإبانة. هذا حدث كذلك فى quot; شمال.. يمين quot; حين صنفها نقاد كرواية لكننى تحفظت على هذا التصنيف، لأن البنية الجمالية كانت من البساطة بمكان بحيث يسهل علىّ ككاتب أن اعتبرها نصوصا قصصية فمع نهاية كل وحدة سردية يكتمل معنى ما وأسرب خطابى بلا تلجلج او لعثمة، كما أن فكرة واحدة نضبطها معياريا على النص القصير فى مساحته وفى تشكله أيضا.
** قرأنا لك مؤخرا مجموعة من النصوص على هيئة مراوحة سردية كل باقة سردية تحوى مجموعة quot; بتلات ملونة quot; ولكنها فى المجمل تجعلنا نعيش عالما واحدا هذا رأيناه فى نص quot; رأس البر quot; و quot; هواء بحرى quot; و quot; مخابئquot;. هل يمكنك توضيح الامر؟
** سأحاول رغم تيقنى أن الشكل لم يعد له نفس القدسية القديمة فى هذه التجارب وصلت إلى قناعة مؤداها أن المكان هو وسيط مناسب جدا للسرد فنصوص quot; هواء بحرى quot; تجرى أحداثها فى مكان أعرفه تماما هى قرية quot; عزبه البرج quot; بحكاياتها وأساطيرها فى رأس البر رحت استعيد تفصيلات ما رأيته صغيرا مع ازاحات فى المضمون، وهى نصوص فتن بها كل من يعرف المصيف بصفة شخصية فى quot; مخابئquot; كان هدفي هو أن أتأمل الأشياء فى لحظات صمتها وتوترها انا مؤمن بفكره اللعب الفنى الحميد وأن تختبئ من المستقر والمنجز والمكرور لصالح المراوغ والمذبذب واللامحدد.
أتصور أن فى كل فن أدبي نوعا من المعرفة وكلما كان الحفر فى طبقات معرفية اعمق كان التأثير شديدا.
اعتقد كذلك أن السرد الجديد لن يصبح مدهشا إلا بلغة مختلفة ورؤى غير مطروقة، وهذا عين ما فعلته فى حكايات السرير والتى كتبتها دون خطة، فقط كنت ألعب مع اللغة ومع مستويات الحكى ومع الفكرة المستبقة عن القص تمردت تمردا محسوبا لصالح المغامرة الفنية التى تجعل اللغة هى بطلها الأول!
** quot; تحولات الورد quot; مجموعة قصصية ثامنة محبوسة فى إدراج النشر الحكومي. ماذا عنها وهى التى عرفت القارئ العربي بك؟
** بدأ دخولي الجدى لشبكة الإنترنت عام 2003 أي منذ حوالي خمس سنوات والحقيقة أنني رحت انظر لإشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة فى عالمنا العربى. الرجل يشكو من أطماع المرأة والمرأة لا تأتمن الرجل. وهذا الشكل من انعدام الثقة بدأ يعلو رويدا رويدا.
أردت أن أحكي عن الأزمة بطريقتى ووجدت أن العالم أن خلا من اللمسة الرومانسية الرقيقة فسيكون صادما ومملا.
حسنا لقد شطح بى الخيال قليلا ورحت استعيد قصصا حقيقية عن تلك العلاقة القديمة التى تتجدد مع كل الأجيال.
لست quot; طوباويا quot; لكنني أجد أن الحياة تستحق منا ان نعاملها بصفاء ونقلل من حجم الشكاوى والأنين والإحساس بالظلم.
هذا ما حاولته تلك النصوص حتى أن قصة quot; نرجس quot; صار لها جمهور عريض جدا ومثلها قصة quot; شهر زاد quot; و quot; تمر حنة quot; أنني أعيد الاعتبار للقصص الكلاسيكي و، أجدنا بحاجة لقصص رومانسية هى انبه هذا الواقع. السفر والهجرة والحب القديم كلها محاور تستأهل أن نتوقف أمامها بالدرس والفحص والتمحيص.
أنا كاتب من واقع يقدس العمل ويتحفظ فى علاقاته بالآخر وسوف تجد فى نصوص هذا الإحساس المتزايد بالخطر لكنني لم آت بشيء من عندي. رصدت الواقع مع تحرير فى الوقائع وربما بإعمال المخيلة لان فى الفن منطقة سريه تصل الأرض بالسماء تشغلها اللغة بشيء من فصوصها النادرة وأحجارها الكريمة!
** هل تعتقد ان النقد الأدبي أعطاك حقك؟ وما ملاحظاتك حول الجهد الأكاديمي الذى اشتغل على ما قدمته من سرد؟
** سأقول إننى محظوظ مع النقاد أو أن أعمالي وجدت أصواتا نقدية موازية بالرغم من بعدى الجغرافي عن العاصمة. سأبدأ بأخر دراسه وصلتني من الناقدة العراقية الدكتورة وجدان الصائغ التى قدمت تحليلا رائعا لروايتي الثانية quot; ظل الحجرة quot;. كما قام الدكتور صلاح السرورى بإضاءة مجموعة quot; شمال.. يمين quot; وهو الشىء الذى فعلته الدكتورة عبير سلامة والناقد سيد الوكيل. أما quot; مكابدات الطفولة والصبا quot; فقد نوقشت فى quot; نادى القصه quot; وفى quot; اتيليه القاهرة quot; وقدمت حولها دراسات للدكتور شريف الجيار والناقد احمد عبد الرازق ابو العلا. وفى فرع اتحاد كتاب مصر بالدقهلية تناولها الناقد إبراهيم جاد الله وكان لكل ناقد مداخله الجمالية ودرسه الذى استفدت منه كثيرا خاصة وان الجميع أشاد بعمود السرد الذى التزمت به وجاء اللعب الفنى مع اللغة والأسلوب وجده التناول.
اعتقد أن النقد ضروري للكاتب كى يطور تجربته السردية لقد مضى زمن الاهتمام بالمضمون كعنصر أساسي للنقد وبتنا نرى إضاءات نقدية تبحث فى عناصر الكتابة كلها. وما يهمني هو ألا يجاملني الناقد أو يخدعني فكثير من النقاد ضللوا الكتاب ولم يضعوا العلامات الإشارية أمام نصوصهم وهذا أضاع عليهم زمنا طويلا حتى يكتشفوا بأنفسهم ان ما قدموه من كتابات كان بحاجة ماسة لكلمه صدق. والحمد لله أنني لم أمر بتلك المحنه ربما لحسن حظي أو لأنني أمتلك الوعي لأفرز الطيب من الخبيث.