نصرت مردان: ولد الشاعر التركي إلهان بيرك (1916- 2008) بمدينة (مانيسا).تخرج في العام 1945 من قسم اللغة الفرنسية في معهد التربية.عمل كمدرس للغة الفرنسية ومترجما في المصرف الزراعي باسطنبول. من أعماله: تحية للذين أحرقوا الشمس، إسطنبول، صباح الخير أيتها الأرض، أغنية تركيا، كور أوغلو، بحر غاليليه، الخط المسماري، عرش الحب، صوب المساء، اوتوبيوغرافي، رجل طويل، كتاب الأعشاب الشافية، الحصان الطائر. كما اصدر انطولوجيات شعرية عديدة: مختارات من ازرا باوند، مختارات من رامبو، انطولوجيا الشعر الفرنسي، انطولوجيا الشعر العالمي. من أعمله التي ترجمت إلى لغات أجنبية: اسطنبول، اللغة الاسبانية 1988، قصائد، مدريد 1992، النهر الجميل، مدريد 1995، مختارات شعرية، نيويورك 2004. توفي في 28 آب / أغسطس 2008.
قضى الشاعر إلهان بيرك حياته في مطاردة المفردات الشعرية واللغوية ليعيد اكتشافها على ضوء قاموسه اللغوي. تقرب من تيار (التغريب) الشعري في بداياته الشعرية وكان من فرسانه الثلاثي: اورهان ولي، اوقتاي رفعت ومليح جودت آنداي في منتصف القرن العشرين، كرد فعل على نهج ناظم حكمت الشعري، ثم وجد نفسه في تيار (التجديد الثاني) في الستينات، والذي ظهر احتجاجا على المفهوم الشعري لجماعة (التغريب). لكنه وجد فيما بعد ضالته في السريالية وقد تمكن من التوغل في عالم الرؤى والأحلام والوصول إلى ضفاف التجريد في (بحر غاليليه) واللامعنى الذي حدده كهدف في ديوانيه (الخط المسماري) و(المصريات). حيث بذل جهودا فائقة لتحرير قصائده من حدود الفهم، ودفعها نحو الغموض وضفاف المنطق.
وهو في كل ذلك يبدو متابعا عن كثب وبدقة متناهية في رصد التحولات في جسد الشعر في العالم كله. حيث عاش بدوره طوال هذه الرحلة تغييرات في قصائده وانتقالات من رمزية (أحمد هاشم) الى اشتراكية (ناظم حكمت) في دواوينه (اسطنبول)، (أغنية تركيا)، (صباح الخير أيتها الأرض) في بداياته ليصل من ثم في فترة نضجه الشعري إلى دهاليز الرمزية واللامعنى جامعا في اسلوبه الشعري بين الشاعرين النقيضين أحمد هاشم وناظم حكمت. ليعود إلى اكتشاف خارطته الشعرية وذاته المتمردة قائلا quot; أنا أيضا عدو من يغني ويتجول بارتياح quot;. لكن ذلك لا يمنعه من أن يكتب أحيانا شعرا quot; للأرض المستديرة مثل فخار صيني quot;. لتستمر رحلته مع الشعر مع زيادة حجم السؤال في ذاته كل مرة، وعقب كل مغامرة شعرية. ليكتشف أنه لم يكتشف ذاته، وأنه في كل هذا يبدو مبتهجا ومستمتعا بخيبته وبحثه الدائم. لذلك يعوّد القاريء عند صدور ديوان جديد له في كل مرة على تقييمه مجددا كشاعر، وكأن قصيدة ديوانه متممة لقصائده في الديوان السابق.
في الفترة 1945- 1955 عمل من خلال التجريب للوصول إلى حدود التطرف، ليخرج في رحلة مع التجريد وليمارس أقصى مايستطيعه في التعامل من مقامرة مع اللغة والشكل والمضمون، في سبيل أن يبدأ ببناء وتأسيس مايريد كتابته من نقطة الصفر، مع حرض شديد للابتعاد عن كل مايتعلق بالطبيعة والمجتمع والقصيدة الشعاراتية، لينفصل الى الأبد من كل مايتعلق بناظم حكمت.
شجرة تعمل على إصلاح هذا البيت وعش الطيور
ويبدو غير مبال عندما تحمل قصائد (الخط المسماري) لغة أقرب إلى النثر من خلال قوله:
quot; اهتممت في (الخط المسماري) باللغة التجريدية. بحيث أستطيع أن أقول بأنها لغة مضادة تماما للغة اليومية. وقد لجأت إلى ذلك خشية ان يكون ما أكتبه مفهوما. أود القول: ان اللغة اليومية مرتبطة بشكل جذري بالفهم، ومواجهة المعنى تعني من وجهة أخرى الوقوع في حالة تضاد مع اللغة اليومية..quot;.
وهو في كل هذا مخلص فيما يقول دون ان تفوته الإشارة إلى كبار أساتذة اللغة الشعرية في العالم من أمثال أبوللونير ورامبو وماكس جاكوب وازرا باوند ومالارميه ورينيه شار، الذين قضوا حياتهم في بحث دائم عن لغتهم الشعرية.
في ديوان (بحر غاليليه) يعود للاهتمام بالأزمنة القديمة والحياة في الحضارات اليونانية والسومرية والمصرية والآشورية والفينيقية والرومانية. حيث يبدأ في كراسين كبيرين الحديث عن حياته في تلك العصور قائلا عن نفسه quot; مهمتي أن أخلق التوتر quot; مضيفا بأنه لا يفكر قط بالنقاد والقراء على الإطلاق. وأن ابتعاده عن المجتمع لا يعني بأي حال من الأحوال ابتعاده عن عصره.
كما لايتردد إلهان بيرك متن التأكيد عن عدم أهمية المشاعر والأفكار أو المضمون. حيث يمكن العثور على كل ذلك في النثر:
quot;.. ان مايسحرنا في القصيدة هو التوافق في بنيانها، فهو الذي يحير العقل والمنطق. المهم هو الإفصاح عن شيء.. لكن المهم هو تجاوزه وبالسرعة الممكنة. فالشكل يتأسس ويبقى بعد تجاوز المضمون..quot;.
لكنه رغم ذلك لا يتردد في ديوانه (عشقنامه) من التعامل بمهارة وحرفية مع اللغة والتناغم بل وحتى من اللجوء إلى القافية في بعض الأحيان. وهو الديوان الذي أخذ ثمانية أعوام من عمره. وفيه كتب القصيدة الجنسية بدون تحفظ مضيفا عليها رشات من الإثارة. وهو يبدو في قصائد الديوان متطلعا إلى التاريخ والميثولوجيا والطبيعة والبحر من نافذة الشهوة الجنسية. لذلك يفتتح ديوانه بعبارة لوالت ويتمان (الجنس يستوعب كل شيء). وفي سبيل ذلك يكتب قصائد غزل على نمط الشعر التقليدي العثماني (شعر الديوان).
لم يجد بيرك التعامل مع الشعر فحسب بل كان يجيد التعامل معه، وجس نبضه، ولاغرابة في ذلك فقد كان يحترف الشعر.
قال عنه الشاعر جمال ثريا (1931- 1990): quot; لقد أثر فينا جميعا.. فهو يؤمن بأنه يعيش ليكتب الشعر. وهو لاينظر إلى القدح بشكله المجرد بل لكونه موضوعا للكتابة..quot;.
لقد ظل إلهان بيرك يكتب حتى آخر يوم من حياته، ولم يعترف بمفهوم الشيخوخة quot;..لم تتجذر عندي الشيخوخة. اليوم عندما أنظر الى العالم الذي شخت فيه، أحس وكأنني عدت مجددا الى الدنيا و الموت ليس عندي أكثر من كلمة. أنا مغلق على الموت. الموت بالنسبة لي اسم مثل بقية الأسماء: شجر، طير، عشب. يخيل لي أنه مجرد صفحة من كتاب أو انه نسخة سوداء سلبية من صورة، او قدح فارغ..quot;.
نماذج من شعره
التسمية تعني الموت
كل شيء في بابل التي تحتضن القمر
عند الاتفاق كل شيء يبعث على السأم
وينقلب ميزان الصمت
الصمت الكبير.
تقول لايمكن مصادفة أسماء
الحيوانات في التاريخ
وكذلك أسماء الأزهار والأصوات
الأصوات التي هي كل شيء.
في الطرف الآخر من العالم
رأيت الزمن مجهولا بعد أن تم تسميته
كان ثمة طير ينسى اسمه باستمرار
أما بالنسبة لسلسة الجبال فكانت تجهل أسماءها.
ما أجمل كل ذلك!
تسمية الشيء يعني موته
كل شيء يفسر نفسه
محمد الفاتح قصير القامة
الفارابي كان أسمر اللون
آه، كان يجب أن لا نتعرف على الأسماء
فالعالم الذي ترونه من خلال الأسماء، ليس عالما
من أجل هذا نرحل دون أن نرى وجه الأرض.
ليس ثمة من لا يملك ثقلا.
كان يجب أن نبدأ من هنا.
نفي الزمن الطائش في الخارج
انشطرنا.
في واقع الحال نحن نكتب عن الموت، الموت والمرض.
لماذا أقرأ الشعر عموديا
جربوا أنتم أيضا
فالأمر يستحق ذلك.
سمعت أن عشبة تتحدث لنفسها
سأكون حاضرا في عيد ميلاد الطيور
الليل ينتظرني
نحن نعرف الطريق.

مصريات
السماء القابعة فوق البيت عاشت مساءا صينيا
أنتِ يانوافذ السأم، واللحية البيضاء هلموا الى الملاجئ!
بحر هائج يقع في الحدود الجنوبية من وطني
هل تموتون، وأنا أكبر؟
انتظركم في ذيل الصباح
قبل قليل ولجنا الى الحب. يد الرياح حمراء
دوق أبيض البشرة.
أيها المطر، أيتها الطبيعة هيا الى الملاجئ
فأنا سأكتب عن القمع.

منحوتة 1
إليك الألف، الدال، والزاي ياشعر الليل،
بيتي المتأخر، يانهر زمني القديم
أنا في مكان ما، انحدر منه
أطهر نفسي في مراياه المفتوحة
ماذا قلت لكم ياجياد الريح
كي أرتفع الى هناك
تعالوا وقفوا في محوري
لتخرجوا من بيوت الموت الكبيرة.
منحوتة 2
كان المساء الأول للسماء في العالم
أقبلت مفتتحا مساءك الذهبي الخالص
كنا في المكان الأبيض الذي يجب أن نكون فيه
استولوا على أسواري وضفافي ودفاتري
جمعتنا الخيمة في أقدم الأزمنة
أين زمن أمرائي وكهوفي؟
أنا المتقادم أعبر برعب
طيوري وجنودي وسير حياتي.
استيقظت لأنني أحبك ثلاث مرات
استيقظت لأنني أحبكِ ثلاث مرات
قمت في النهاية لسقي الأزهار
كانت ثمة سحابة ترحل بخطى حثيثة، كنت أراها
كان وجهي يبدو وكأنه سقط من مكان ما من النهار
قذفت بقصيدة لم تكتمل أزقتها وشرفاتها
أصابني السأم، أعددت لنفسي طعاما وجففت أعشابا
كان وجهكِ مثل أيام الجمهورية الأولى
قمت وأخذت أذرع المكان
قرأت الأشعار بعد أن وصلت الى السن المذكورة فيها
أحسست فوقي بأنفاسكِ الفواحة بالقرنفلِ واللبلاب
أنقص وأنقص رغم ذلك، كم أنتِ جميلة!
لم أر حبا ولافراقا على هذه الشاكلة
كلما تذكرتكِ
ينحدر غزال ليشرب من ينبوع
أرى الأعشاب وهي تكبر
في كل مساء أقضيه معك
تقودني حبة زيتون خضراء
وحفنة من سماء زرقاء
الى مكان ما
كلما تذكرتكِ
أغرس وردة في المكان الذي تمسه يدي
أروي ظمأ الخيول
وأغرم بالجبال أكثر.

رسم
كانا مثل رسم، الثعلب الجميل، والأرنب الماكر،
الدلتا والصبي!