يمسح سلام العرق عن نظارتيه بقميص صديقه ويهمس بتردد انه يشعر بالإختناق، ليطلب من الأستاذ الخروج من الفصل إلى أي مكان يتمكن فيه من التنفس. يخرج ويترك الباب وراءه بين المغلق والمفتوح ويختفي خلف جدران الممر المؤدي إلى الدرج نازلا أدوار المبنى الأربعة.
يتابع الأستاذ ساعة ساديته وهو يقرأ للفصل بانفعال مسرحي مفتعل قصيدة صمويل تايلور كولردج quot;the rime of the ancient marinerquot; ويبدي امتعاضه من سلام بحركة من فمه اهتزت لها رقبته.
أصوات الطلاب الخمسين ومعها quot;موتوراتquot; المياه المجاورة للثانوية، والأذان والصلاة وخطبة يوم الجمعة، تخترق الحر الشديد وتختلط بأنشودة بحار كولردج. يصل الأستاذ إلى القسم الرابع ولا يكاد يتابع الكلمات، تخرج من مصلّ يائس بقلبه المنقلب غبارا، حتى يجلس على كرسيه ويقع رأسه ساكنا فوق طاولته.
الفصل فئات مختلفة؛ هنالك الذين quot;يؤرنبونquot; آذانهم وquot;ينيشنونquot; أبصارهم ناحية الأستاذ في الزاوية الأمامية اليمنى والأمامية الوسطى، يبدون دوما انزعاجهم من الباقين مع كل حركة لهم أو جلبة، لكنهم لا يتورعون عن استخدام دفاترهم لتحريك الهواء على وجوههم. والباقون كل منهم يتخذ مجموعة متناغمة فيما بينها تتوزع على نواحي القاعة؛ في الزاوية الخلفية اليسرى يلعبون الورق. وفي الزاوية الخلفية اليمنى يمشطن شعورهن ويسرق أحد الفتية مشطا منهن ليمشط به شعر رجليه الكثيف فيبدين قرفهن وانزعاجهن. وفي الوسط -حيث الإختلاط الجنسي- توزع فتاة بدينة على رفاقها مؤونة شهر كامل من quot;الشوكولاquot; وquot;الويفرزquot; وquot;الهولزquot;. وأمام فرقة الآكلين يتمركز ثلاثة شبان آخرون يجذبون الفتيات أمامهم بنكات جنسية تطلق ضحكاتهن، أما في الجهة الأمامية اليسرى فهنالك فتى يمارس كمال الأجسام ويجلس متمددا كما النائم، ورقبة زميل له ضئيل الجسم تحت يده على مدار النهار يضربها كلما استطاب ذلك وينظر ناحية فتاة من سكان الجهة اليمنى يغمزها ويشير إليها بحركات من يديه وسواهما، وهي تحاول أن تبدي عدم اهتمامها فتنظر ناحية الأستاذ للحظة تعود بعدها إلى غمزاته. وبين الجميع يبقى شاب وفتاة يتنقلان بين المجموعات دون انتماء محدد إلى إحداهن.
أمام ذلك المزيج يغمى على الأستاذ وترتفع حرارته وقبل استيعاب أنه بحاجة لمساعدة تتعالى الضحكات من كل الجوانب مع أصوات quot;الفورمولا 1quot; والطوافات وسيارات الإسعاف من إحدى المجموعات. ويهرع الناظر والمدير بعدها لينقلاه بمساعدة أحد الطلاب quot;العمالقةquot; إلى السيارة وهو يهذي بكلمات كولردج:
alone, alone, all, all alone
alone on a wide wide sea
ولا تتمكن أي كلمات له أو نظرة لؤم وتهديد من المدير أن تكبح فلتان الفصل بأكمله أو تبعث فيهم الرحمة على أستاذهم. أما من كانوا من حزب الأستاذ فقد حاولوا تهدئة البقية وترداد كلمات quot;العيبquot; وquot;الحرامquot;، لكنهم لم ينتبهوا أنهم يقومون بضجة تساوي ما للآخرين أو تعلو فوقها.
إنسحب quot;المؤدَّبونquot; وبات الفصل مقهى شبابيا وشعبيا أيضا. بدأ الدخان بالتصاعد من سجائر بعض الشبان، واستبدلت الكراسي بالطاولات للجلوس. ولم تعد النظرة موحدة تجاه الجهة الأمامية، فلم ينتبهوا لسلام حين دخل عليهم وهو يحمل quot;ستيريوquot; صغيرا يردد: quot;تشن شن.. تشاتشا شن شن.. تشاتشا شن شن.. تشاتشا شن شنquot;، ويرقص الشاب على وقع أغنية quot;smooth criminalquot; لمايكل جاكسون فيهدأ الفصل بأكمله وينتظم ويردد النغمة بهمس.
التعليقات