عبد الجبار العتابي من بغداد: سنفتح اليوم ملف هاشم محمد البغدادي، ليس بوصفه راحلا، بل لانه يقف بموازاة المبدعين الكبار ورائدا لمدرسة خطية حديثة تعلم فيها الكثير، اذ لازالت آثاره شاهدة في بغداد ومدن اخرى حيث كتاباته من خهط الثلث على جامع (الحيدرخانة) وعنوان جمعية التشكيليين العراقيين، وانجازه المهم وهي مختاراته وخطوطه التي جمعها في كراسة قواعد الخط العربي.
بهذه الكلمات افتتح الفنان الدكتور جواد الزيدي حفل استذكار محمد هاشم الخطاط، الاسم الابرز في عالم الخط العربي والذي ترك بصمات واضحة من الخطوط المميزة، الرجل الذي حاز على العديد من الالقاب مثل: (نابغة الزمان وتاج بغداد وسراجها الوهاج وزينة السلف والخلف وعميد الخط العربي وخادم القرآن الكريم واستاذ الجيل ورافع لواء فن الخط العربي)، وكان يقف امامها متواضعا لا يستمتع الا بلقب (ابو راقم)، الرجل الذي ولد في محلة (خان لاوند) ببغداد سنة 1917م من عائلة فقيرة الحال واسعة الشرف محمودة السيرة، ومات في 30 نيسان 1973، الذي قال فيه الشيخ جلال الحنفي شعرا:
( لك في النفائس هاشم بن محمد / ما جل في الابداع عن وصف اللغى
حييت فيك بدائع الخط الذي / امسيت فيه وانت اشأى من شأى
فلأنت في ليل الفنون لفرقد / ولأنت في ايامها رأد الضحى
جددت في بغداد سالف سمعة / كانت لها في كل سمع قد وعى
ايام ديوان الخلافة جامع / فيها لاسباب الحضارة والعلى
يزهى بك الخط الانيق وانما / يزهى بذوق فيك غض المجتنى)
هذه الاحتفالية الاستذكارية اقامها بيت المدى في اصبوحة بشارع المتنبي وحضرها حشد من المهتمين بالخط وتلامذة الراحل ومحبيه ومن المثقفين والاعلاميين.
وقال الزيدي في مقدمته: ان استذكار البغدادي هو استذكار لمرحلة ومنجز مهم يقف في مقدمة الاثار الابداعية الفنية وهو الخط العربي الذي يعد ملمحا وهوية للطابع الشرقي الاسلامي، البغدادي انجز الكثير الذي يكمن بتجاوزه اساتذته الاتراك وفي مدرسة تحسين الخطوط في القاهرة حيث كانت مميزات حروفه لها سمة وخصوصية مختلفة، علينا ايلاء الاهمية لهذا الدور وتفعيل متحفه الخاص وترسيخ اثاره وعنوانه.
ثم تحدث خليل الواسطي، الخطاط ورئيس قسم التصميم في كلية الفنون الجميلة سابقا، فقال: يقترن ذكر الخط العربي في العراق بذكر الخطاط هاشم محمد البغدادي الذي اصبح علما من اعلام هذا الفن الاصيل، ويعود الفضل في ذلك الى جهوده المتميزة والمبدعة في بعث الروح الفنية الى هذا الفن الجميل بعد ان اصابه شيء من الركود والانحسار خصوصا خلال اواسط القرن الماضي، ومن هنا استحق هاشم البغدادي لقب عميد الخط العربي، فقد امتلك هاشم ملكة فنية ساحرة اهلته لامتلاك ناصية فن الخط العربي في نواحيه الفنية والتقنية والثقافية، وفجرت لديه طاقة الخلق الفني في الاثار الكتابية المختلفة مما ساعد ذلك للانطلاق بالخط العربي من افاقه الفنية الاصيلة ليعيد مكانته التاريخية التي كانت له ابان عصور بغداد الذهبية في زمن ابن مقلة وابن البواب وغيرهما.
واضاف: كان هاشم ومنذ صغره ميالا الى هذا الفن الرفيع، بل كان مولعا به، وبعد ذلك مضى في الارتقاء بأدائه الفني على اصول وقواعد المدرسة البغدادية والذي عرف بالمحافظة عليها في تجويد الخط تجويدا متميزا ساعد في اعادة الروح الفنية الى كيانها.
واشار الى: ان براعة هاشم في اتقان قواعد المدرسة البغدادية منحه القدرة على التفوق والاقتدار، حيث اظهر اعجابه بهذه المدرسة وروادها الاوائل، وحاول بعدها ان يقف على قواعد المدرسة التركية التي اخذت على نفسها تجديد المدرسة البغدادية وتجميل حروفها وضبط اصولها، وقد وصلت المدرسة البغدادية عند مشاهير الخطاطين الاتراك الى اوج رقيها، واستطاع هاشم استخدام القاعدتين بمهارة واتقان ولكن كان همه موصولا في اعادة الحياة الى القاعدة البغدادية وارجاعها الى تكوينها الاصلي (بغداد) والذي ارسى دعائمها ابن مقلة وابن البواب وكل الاقلام الاصيلة التي اخذت دورها في تطوير معالمها وتثبيت قواعدها وتحديد مكانتها، واكد الواسطي: ان اعتزاز هاشم بالخط كان نابعا من اعتزازه بامته وايمانه باصالتها والتي برزت في كل اعماله، وقد دفعه هذا الى ان يبذل الوقت والجهد في سبيل تمكنه من الوقوف على اسرار هذا الفن وضبط اشكاله ورسومه.
اما الخطاط روضان بهية التدريسيس في قسم الخط في كلية الفنون الجميلة فتحدث قائلا: لم يكن هاشم الخطاط الذي ارهف السمع الى صرير القصب وهو يتسلل الى عصرنا الراهن عبر مئات السنين سوى خطاط مفرط الحساسية لكل ما هو دقيق الصلةبما يمكن ان نسميه بـ (المدرسة البغدادية) التي تتصل عبر تعاقب الاجيال بخطوط ابن البواب وياقوت المستعصمي وصولا الى ابن مقلة الذي يعد اول من اخضع الحروف الى تناسبات جمالية اسسها على علاقات الدائرة بوصفها شكلا هندسيا في غاية الاحكام والتناسب، لقد كان هاشم دائما خطاطا متمرسا انحاز نهائيا الى سلطة القاعدة الخطية التي كانت نتاج جهود تجويدية استغرقت مئات السنين سعيا وراء الشكل الامثل للحروف خاصة في خطي الثلث والنسخ حيث استكملت في الوقت الحاضر كامل ابعادها التطورية حتى انها تبدو وكأنها لم تبق زيادة لمستزيد سوى مساحة الابداع على مستوى التركيب والانشاء في التكوينات الخطية، وهذه مساحة لا تحدها حدود، لقد حسم هاشم الخطاط برؤيته الفنية الثاقبة الجدل بشأن الذي يحدد انتماء خطوطه الى المدرسة العراقية في الخط العربي وليس المدرسة العثمانية بالرغم من تأثره الشديد بمعطيات تلك المدرسة واعلامها من الخطاطين الاتراك الذين اوصلوا فن الخط الى ذروة عالية جدا.
واضاف: ان خطوط هاشم لا تماثل ايا من خطوط الاقدمين ولكنها بمثابة خلاصة اسلوبية وازنت بين كل ما هو قديم ومعاصر برؤية استخلاصية دالة على عبقرية متفردة ودقيقة ساعدت على اظهارها موهبة ومهارة عالية على مستوى الاحتراف والصنعة.
وفي ختام حديثه اشار بهية الى: ان تراث هاشم الخطاط ثر وغزير ويستحق بالفعل ان يصار الى احياء ذكراه من خلال السعي نحو احياء فكرة تخصيص متحف باسمه في بغداد يجمع اثاره الفنية والمادية من اقلام القصب واحبار واوراق واية ادوات كانت قيد الاستعمال لديه، وتخصيص اسبوع من كل سنة يتزامن مع ذكرى وفاته لاقامة معارض للخط العربي وفعاليات ثقافية مرافقة، واصدار كتاب شامل يوثق حياته واثاره وذكريات عن طلابه ومن عاصروه من الخطاطين، والحفاظ على كراسته من الطبع المشوه والتجاري والكيفي ومحاولة زبادة عليها بطبع لوجاته الملونة طباعة فاخرة ورصينة.
كما تحدث في الاحتفالية محمود الوتار، الخطاط وأحد تلاميذ المحتفى به، فقال: هاشم شخصية فذة وجادة وصارمة ومبدعة وفي نفس الوقت هو ذو عاطفة دافئة وروح سامية جدا، يجمع بين العاطفة والعقل، جاد في عمله ومبدع في انجازه وصديق لكل انسان، هاشم.. لم يكن يفتخر بما يعمل واسهاماته لم تكن مادة للاعلام، انما كان يعتبر ذلك من واجباته كخطاط وعراقي واستاذ، واعتقد انه لو قدر له ان يعيش طويلا لقدم انجازات اكبر ولكن الفنان يصطدم بجدار الظروف والاحوال وهذا ما يعيق عمله.
اما الدكتور نصيف جاسم محمد التدريسي في قسم التصميم / كلية الفنون الجميلة فقال: المرحوم هاشم الخطاط هو بلا شك من ذلك الجيل الذي اسس مسارا واضحا لجيل متواصل متصل من الوعي الخطي والجمالي وتشكيل البنية الحيوية للمنظومة الكتابية منذ ان اطل بها ابن مقلة وابن البواب والمستعصي الانيق والجميل الخط، واضاف: احيا هاشم ما احيا مما اندرس من ذلك وبعثه مبعثا اخر، فكانت كراسته الثابتة الحروف واشرطته الخطية ومنها شريط جامع الحيدر خانة المهم الذي يؤطر ويوشح شارع الرشيد ببغداد، فضلا عن نتاجاته المميزة التي اثرت المكتبة الخطية واحالته الى كنز ثر. واختتم كلامه بالقول: كان هاشم البغدادي وما زال قمة الهرم الذي يمتاز به وعينا الجمالي، وسيبقى كما كان تاج بغداد وسراجها الوهاج واسمها المتألق دوما.
وقد جرت عدد من المداخلات التي اثنت على عطاء الراحل وانجازاته الكبيرة، مؤكدة ان الرجل عاش مظلوما في حياته ومماته حيث تعرض للاهمال حيا مثلما تعرضت نتاجاته الكبيرة للاهمال ميتا.
وفي ختام الاصبوحة الاحتفائية جدد المحتفون ضم اصواتهم الى بعضها بضرورة تخصيص متحف للراحل واقامة نصب له ليكون شاهدا للاجيال الحالية والمقبلة على قيمة هذه الشخصيات المبدعة الكبيرة.












التعليقات