بعد رحيل أصدقاء الصبا جان دمو وجليل القيسي وسركون بولص وقحطان الهرمزي وأخيرا، قبل أيّام، أنور الغساني

مرثية لنا نحن
الباقون والشمس تغرب

مرّةً أخرى يجيءُ الذئبُ المبهمُ
غارزاً أسنانهُ في القطيع،
لم تبق إلاّ بضعة شياهٍ
مشتتة، ضائعة في البوادي،
تلعقُ حملانها الدم المر المسال،
تترنحُ القوائم، تُساق إلى المسلخ
والصيادون هناك يشحذون لها السكاكين.

إنها عتمةٌ إذاً؛ هو الليلُ دامس،
وما لا نراه غفلة ماكنةٌ يديرها المجهول.
عيوننا كليلةٌ وخلفها أشباحٌ تتراقصُ،
أطيافٌ مشوّهةٌ، كلابٌ مسعورة وعظايا
تهيءُ الوليمة الأخيرة
ثمّ ترصدُ وَهْنَ الجسدِ في الليل البهيم.

هو الليلُ إذاً، لا رجاءَ إلا لعتمةٍ تطول
نتوسل الوقتَ فلا ينصتُ لنا:
أيتها النجوم القميئةِ إلتمعي
فالليلُ اسود وبصرنا كليلٌ،
شبحٌ أو طيفٌ يتخيّلنا ويتبعنا
هو من الماضي أو في الحاضر يقفُ
يترصدُ ثمّ يعلن انه الحارس التوأمُ
فيأخذنا للرحيل سَويّةً
بعيداً عن رؤية الأشياء،
وعن الأوهام، وعن تراكم الذكريات.
يوعدنا: في الغد تطلعُ شمسٌ معتمة؛
لا نهارٌ ولا ليلٌ،
لنترسب في الأبدية
الآتية

برلين ndash; تموز 2009

الوقت المتبقي


ـ كم من الوقتِ تبقى لكَ؟

ـ الوقت إسفنجةٌ، للنوم، للانتظار،
لتفحص ما رميناهُ في بئرنا المهجورة

ـ لا أعني ذلك الذي تحصيه ليأتي الغدُ
حاملاً بشارتهُ، آملاً في مواعيدهِ،
بل الوقت بثقلهِ، حينما تُقرعُ الأجراسُ
وتفتحُ لكَ بوابة الأبدية.

ـ أي وقتٍ غريبٍ هذا وأنا لم امسكهُ بعدُ
وأدعوهُ إلى الحوار، أو أطعمهُ من زادي.
كنتُ يافعاً أبني عُشّي
فيمرّ هارباً مثل طائرٍ مهاجر.

ـ أتحدثُ عن زمن الأنهار التي جفتْ،
زمن ما في الأرض من أنقاض وبقايا،
ومن شظايا عدّوكَ وعدّوي؛
عهد شيخوخة الملتاع بالنساء، ثمّ تآخى معهنّ
فتحوّلنَ إلى أخشاب.
زمن الأشجار حينما تجفّ الأغصان،
وتكسو جذوعها العقدُ،
تبني تحت لحائها الحشراتُ والنملُ
بيوتها، وتضعُ بيوضها، آكلة مع الوقتِ
قلبها المريض.

ـ لمْ أعرف هذا الوقتَ،
كان غريباً عليَّ، ربما انقضى لوحده.
هكذا، قبلَ وهلةٍ فقط تقابلنا،
مَسّني فشككتُ بنواياه.
ولأنني ما زلتُ فيهِ ولم أرث نهايته،
أخادعهُ ويخادعني، وأعرفُ أنني
صيادٌ أهملَ فخاخهُ والفريسةٌ تريد أن تلعقَ الدمَ.

ـ هو هناكَ إذاً، يمضي، ويمضي بكَ،
يترككَ، يهملكَ، ثمّ يأتي.
مع ذلكَ مملكتهُ مَسرحٌ للضباعِ
تمضي إلى الجثةِ المتروكة:
وليمة الوقتِ هيَ
خاتمة المطاف.

ـ أنا أواجهُ الـضيفَ وأدعوهُ إلى مائدتي،
لنحصي بعد السكرِ
ما في الأقداح من مرارة.
أداورُ الوقتَ، أخادعُ الساعات
أحاول أن أنسى أولئك الذينَ حاصرهم الوقت.

ـ لكنَ المحطة قريبةٌ،
سوفَ تنزل فيها وتجتاز الطريقَ دون متاع
منتظراً القطار التالي الذي لن يأتي؛
حَملَ المسافرينَ ورحل.

ـ أتحدثُ عن أولئك الذين وصلوا،
رَموا ساعاتهم، وامتلكوا الميعاد.

ـ الموظفُ يرافقهم منذ زمن،
يشطبُ على الأسماءِ، واحداً واحداً،
يبحثُ عمن يتغافلُ حتى النهاية
يأخذُ وديعته فلا يعود للتحولات من معنى.

ـ حسناً، أريد أن أتآخى معه.
أتواطأ مع مُلكِهِ ـ
أي بنيان صَمدَ كلّ هذا الدهر.
أكتشفُ تلك المملكة التي يجيء منها.
ربما هي أطول من الوقت
أو انها غير ممتثلةٍ لهُ.
وربما الوقتُ فيها ملفقٌ
أو حاجةٌ للتمايز تخافهُ العادة
و نريد الآن إزاحته.

ـ لكن الوقتَ وقتٌ، سيّد نفسهِ،
لاعبٌ ماهرٌ
لا يتساءل عن العدالةِ ولا يعرف المماطلة.
يستلّ سيفهُ، في الغيابِ وفي الحضور،
ويلعبُ بهِ مثل بهلوانٍ
مبهم النوايا يجتذبُ الجميع.

ـ حينما تحين خفقة ذلك الغريبْ،
يودّعنا ، لنودّعهُ؛
شبحٌ تراءى فتغلّبَ علينا
بعد أن تغلبنا عليه في الوداع
فلم يعد للوقتِ معنى

ـ ولا لهذا التصالح من بريق.
خفقة ذلك الغريب الأليف حاضرةٌ
يمسّـنا مبعوثٌ منذ الأزل
فيمضي بنا إلى الـمجهول

17 شباط 2008