ـ الرسم واللوحة، هما داخل الخارج وخارج الداخل، وهذا ما يجعله ازدواج الإحساس أمرا ممكنا، وما بدونه لن نفهم أبداً ما يتسم به الخيالي من كونه شبه حاضر، ومن أن رؤيته على وشك أن تتم..... quot;ميرلوبونتيquot; من / العين و العقل /

يعد إنتاج العمق وموقع الأشكال فيه، جوهر القلق الفني المشترك بين سيزان وبول كلي، فالأول عاب على التكعيبية إهمالها للون الذي يغيير القيم المكانية للكتلة، أي يمنح الكتلة قوانين الحجم التي ترسمها، و بالتالي تمنحها جسما، وليس مجرد قدرة اختزالية للتعبير عن بعدين في مسطح اللوحة التي تفقد بعديها المفترضين بدون مكانية العمق. والآخر ترك عبارته محفورة على قبره كمنبه بصري في قوله: quot; لا يمكن إدراكي في المحايثة quot;. ففي المحايثة تتراصف الأشكال وتفقد في زخمها، قدرتها على التموقع في منظورها الخاص الذي لا يفرز الأشكال من زاوية معينة على خطي سكة الحديد المتوازيين و المتلاقيين وغير المتلاقيين في العمق، بل و إنما يعقد عبر تموقع الأشكال ـ تنظيمها للأحجام و المسافات، علاقة المرئي باللامرئي الحاضر الذي يسند كل شكل من موقع حركته و سمكه أو شفافيته و خطوطه المنفتحة هكذا على رحابة التمظهر في مساحة اللوحة، و ليس المحددة لحدود شكل ما. فعندما تتحدد الأشكال بأرضية مغلقة مسطحة بلا تجاويف، تتوقف عن كونها أشكال رؤيوية، و تغدو مجرد صيغ عادية عن الرؤى الراكدة. إن قانون و قلق جعل الرائي مرئيا و جعل اللامرئي مرئيا عبر إنتاج العمق الشامل المنتج لقيم الحجم، الذي يقوض التوزع الكلاسيكي للأشكال على الخطين المتوازيين، هو ما جعل العمق مكانا لإقامة الأشكال، و من المعطى البصري الحديث تمثلا خالصا و حرا خارج ترسانة النقد الأدبي التي ضللت البصري بجره إلى الإشكال الأفلاطوني للسمعي ـ الصوتي في مواجهة الكتابة، فأقصت أيضا اللمسي من اللوحة. باختصار، اللغة التي راكمت عبر النقد الضال و ركام الصفحات ـ حتى هذه اللحظة طبعا ـ تجربة إدراكية ميتافيزيقة جردت الدراسات التشكيلية من الشكل و حصرت الامتداد بحواس محددة جدا، دون تحليل الكيفيات الحسية المتباينة و المميزة لكل الحواس الممتدة بميلها الخاص للإمتداد.(1) سنستطرد في نقدنا للنقد التشكيلي ما بعد سيزان في سياق آخر، لكننا آثرنا التمهيد عبر اللازمة النقدية الآنفة كمدخل لدراسة أعمال الفنان قرني جميل.

السُّمك ـ الزمن
يتحرك المرئي في أعمال قرني عبر علامات متعددة و دقيقة ليشَّيد نسيجه المتشابك مع رؤية الأشياء من الداخل، لذلك تتزاحم الثنائيات الكمية في أعماله لتكسو بعضها البعض، في حركة انعكاسية تلغي إحالة مظهر الأشياء إلى العالم التي ترسم مسار عقل المتلقي في التفكير بها كأنها أشياء من الواقع و تحدد محاكاته في القول: هذا بيت و ذاك مفتاح. بل و إنما يعيد إنتاج الأشياء في نسيج متشابه بينهما يفسح المجال لتحول الشيء إلى جسم خاص داخل اللوحة، و يجعل نظرتنا عن المرئي هشة لافتقارها إلى اللامرئي الذي يكسوها من الداخل. و لكن كيف تتمثل هذه العلاقة التضمينية التي لا تجعل حيوان السلوقي ـ كإحدى الثيمات الموضوعاتية في لوحات قرني، مجرد صورة لأجل السلوقي الذي نألف علاماته. إنها تتمثل في ديناميكية العلاقة بين الخصائص البصرية الثلاث / شكل ـ خط ـ لون / و التي تتتقاطع فيما بينها بمعالجاتها المتباينة و المنفتحة على بعضها، لتحقيق التموقع الحركي للأشكال في عمق اللوحة. فاللون لدى قرني معجون من خلائط عدة، تتراكم عبر إجرائية خاصة لتنتج سمك اللون و أدراجا متدرجة لهذا السُمك اللوني، الذي ينفتح على تعرجات خطية نتيجة تصدع الطبقة العلوية من هذا الخليط الوني المنغمس بقوة في نسيج القماش و المتصدع من الأعلى، كاشفا عن أخاديد منفرجة على زمن التصدع و على زمن مسار التصدع. فقرني جميل يعمل ببطء عظيم ـ بطء يفتقر إليه الفن المعاصر المرادف للحالة البضائعية المعاصر و المتمثلة في إنتاج سرعات تنفي بعضها بعضا، و تتأزم في تعاظم حاجتها إلى البطء ـ، ينجز لوحاته بروية منسجمة مع الملامس و الطبقات المؤسسة لسطوح أعماله، لذلك يظهر السلوقي في أعماله كأحفور نباتي أو حيواني ترسب عبر طبقات صخرية مديدة، إذ يتضافر الملمس الخشن شبه الصخري بنتوءاته المبثوثة هنا و هناك، مع سمك السطح و تقشره لتشكل السلوقي في خصوصيته المتناقضة، فهو مندمج في الطين بتدرج ظهور عناصره الشكلية، و طاف في الطين أيضا بهوامش الظل التي تهندس العلاقة بين الألوان المتباينة و الممهدة لبروز السلوقي اللوني على سطح اللوحة و إلى الأمام، بروز ذو أدراج هائلة، تجعل مدة كل درجة من درجات ظهور السلوقي نحونا، فاعلا رئيسيا في إدراك المعطى البصري لهذا السوقي الأحفوري. إذ أن الطاقة التعبيرية للأشكال في أعمال قرني تنسجم مع منطق تحسس النقص و إضفاء النظام على علاقة الخطوط و الألوان بالشكل الناقص، الذي يجعل من غياب بعض الأعضاء أساسا لحضورها المتخيل و المرجأ إلى حينها التخيلي، لكن يظهر الخط الفقري للشكل في اللون الأبيض بسطحه المدبب أو في اللون الأسود الجلي الذي يشرخ فكي السلوقي و خط عنقه الملتوى، بينما تبقى أعضاء أخرى مغمورة في الأرضية الإحتياطية التي يعالجها قرني بشفافية المسحات البيضاء المخففة لشدة التجويف اللوني، و تجعلها مهيئة للخروج من تحت قشرة أرضية أقل يبوسة و أكثر لزوجة وذلك بإشباع اللون المحيط أو في دكنة اللون المحيط لمنطقة البروز الشكلي. تشكل هذه المعالجات المتعددة للعمق علامة البعد الناقص ـ الزمن الذي يعبر عنه قرني بإجرائيات متعددة و ببلاغة بصرية أكبر بكثير من إدعاء التكعيبين الذين ملأوا الصحافة آنذاك بتعبيرهم عن البعد الرابع ـ تماشيا مع الدُرجة في حينها ـ (2) و ذلك في تعويضهم الحركة الدورانية، بتزامن تموضع العناصر الجانبية و الخلفية مع الأمامية معا على سطح واحد، و تجنبا لقياسا خاطئ، فإن تركيب الوجود معا للعناصر الشكلية المتباينة في فن المنمنمات الإسلامي يأتي في سياق فلسفة صوفية ـ كوانتية عن الزمن و عن المكان في آن. و هو أمر مختلف مع التكعيبية التي خلطت بين الهنا و هناك و بين البعد و القبل، و ذلك لافتراضهم وضعا جسديا ثابتا ـ و ربما مطلقا في رؤية الكائن الجمالي. إن كولاج عدة وجهات نظر، لا يعوضها، بل و إنما يفقدها تعدديتها و تقاطعاتها، فالجسد لا يكون ثابتا في دورانه، و سيالاته العصبية لا تسلك ذات المسالك لترجمة المعطى البصري في الدماغ، وذلك لأن الشبكية لا تحدد الكيفية الحسية، بل تكتفي بتحويلها و حسب. من هنا اعتباطية الادعاء التعبير عن البعد الرابع في التزامن. أما الفنان قرني بانشغاله بالتعبير من العمق عبر إنتاج عمق شامل للشكل، عبّر عن الزمن بعلامات زمنية خالصة في طبيعة توظيفه للمواد و معالجته للسٌمك و لخطوط السٌمك المنفتحة على حركة هذا الشكل. السلوقي لم يكتمل بعد، و نحن في لحظة رؤيتنا له، نتلمس زمن الطين المتشقق و زمن تخثر المواد اللزجة، و زمن المدد الهائلة لطبقات سمك اللوحة، و بالتالي زمن تجلي السلوقي من اللوحة التي لم يتجمد المرئي فيها داخل لحظة زمنية محددة، إنها تكتمل في تقاطع عدة أزمنة لخلق حاضر الشكل الممتد من ماض ٍ غائر في علامات الشكل الممتدة إلى لوحة سابقة، و كذلك في علامات الشكل الممتدة إلى لوحة لاحقة، إنه تعاقب يعايش الكيفيات الحسية المتعددة و المتحولة، هذا التحول الذي لا يكفيه التزامن لكي يكون متغيرا، فالشكل المنفتح لحوف السلوقي غير المخططة بحدود تحده، و طبيعة التعرجات العفوية التي قد تزداد عمقا و تصدعا و امتدادا، كلها تعبر عن العمق في سمك المواد المستخدمة كألوان نجموية التعين ـ أي أننا نبصر ربما قوامها الزمني الذي لا يمكن قياسه، و بالتالي تختلف هذه الإجرائية في أعمال قرني عن الإجراء التجريدي المعبر عن العمق بالإيهام به في تدرج الدرجة اللونية. لقد بات سهلا التحدث عن اللامرئي المنتج للمرئي داخل أعمال قرني. فالنسيج ليس متخيلا بل هو قائما في علامات بصرية تجعل المتخيل حاضرا أو على وشك الحضور، و من هنا أيضا زمانية الشكل لدى قرني. لأن السُمك هنا وحدة دلالية تضافرية كما في المونوكروم، إنه اللحم الذي يتوسط المرئي و اللامرئي في هذه اللوحات، و لكنه لا يكون ـ و لا يمكنه أن يكون كذلك إلا في المعالجة البصرية الدينامية لمشهدية الشكل/ السلوقي، إذ يعرض قرني لوحة كبيرة بقياس (150 times; 150) مكونة من درجات رمادية و بنية رمادية، يتخللها مجموعة من الثقوب الغائرة بدرجات بنية داكنة نحو الأسود العميق المنفرج على خارج آخر / زمن آخر، ثم يعقب ذلك لوحة بنفس الحجم لمجموعة ثقوب منفتحة على بعضها و يطفو عليها بدرجات رصاصية و بيضاء إيحاء شكلي عن السلوقي المرتقب، وهكذا حتى نتلمس التعبير الأيمائي عن السلوقي في لوحة ثالثة، تجعلنا نفهم التعاقب على أنه تعايشا للحظات حقبية في زمن شامل. إن ديناميكة ظهور و عدم ظهور أعضاء السلوقي، و تقاطع السمك مع ثقل الألوان الداكنة و اللزجة، و البقاء في درجة ضوئية متناقضة ـ أحمر ماغينتا خفيف في الأرضية و رمادية ظلية ممسوحة الطاقة بطبقات بيضاء خفيفة في الطين المتشقق، و وجود ثقوب أو نوافذ زمنية بتدرجاتها البنية الداكنة نحو الأسود؛ كلها تشكل الدعامة الزمنية للشكل الدال في لوحات قرني جميل. لذلك نجده يجمع بين النغمية اللونية المتقنة و بين السماكة بطبقاتها المعلنة عبر النتوءات و التصدعات المتجذرة في العمق لإنتاج العمق كعملية تبلور لأشكاله. من هنا عدم اتفاقي مع استسهال وصف أسلوب قرني بتعابير مدرسية غامضة في أساسها أو بتحديدها بهذه التسميات المدرسية كالتجريدية أو بالتعبيرية أو بغيرها من الأسلبات المغلقة. إنها تعبيرية ذاتية التهوه، فاللطخات اللونية و التنقيط اللوني و الحركات الخاطفة للفرشات المعزوة للرسم الحركي، تتقاطع و تتضمن في قوة الشكل التعبيري المتحرر من طبيعته المرجعية، و هذا الشكل الحر، المنتزع من سياق استخدامه الوظيفي، موضوع على خلفية تجريدية، او في فضاء تجريدي خالص، بحيث يمكننا البقاء داخل كل لوحاته كأعمال تجريدية بالغة الإتزان اللوني، حتى و لو نزعنا عنها العنصر الشكلي للسلوقي، و ذلك لأن قرني يهندس الفراغ بإنجازه لتركيب لوني متدرج و متقاطع بحركة اتجاه مستويات السطح لديه، و هذا إجرائيا خروج على نظام علاقة الشكل بالفضاء الموروث من التعبيرية و السريالية المدرسيتين طبعا، كون الفراغ فيهما مرمز ببلاغة عاطفية في الدرجة اللونية التي تضفى مناخا نفسيا و عاطفة مضاعفة على العنصر الشكلي. أما الإجرائية الحركية للون فهي ايضا تستمد قيمتها من القيمة الموقعية للون في علاقة مع لون آخر موضوع عليه أو مجاور له، و ليس مجرد مرادفا حركيا لجسد الفنان، إنه تقنية لمضاعفة إنفعالية اللون بالوضعية الحركية للون، مع ترك الطاقة تمرر عبر الدرجات اللونية المتباينة أو بين درجات اللون الوحد. فعلاقة العنصر الشكلي بالفراغ في أعمال قرني معقدة، لأنه يعتمد لإزالة التنافر بين درجتين لونيتين، تمويه المناطق الظلية بتلطيفات او بمسحات شفافة تدغم حدود الشكل في الفراغ و تحرر الخط من تحجيمه للشكل، لذلك لا يتوقف الإجراء الظلي هنا عند حدود تنظيم عملية تحول الضوء في درجاته اللونية أو تنظيما فراغيا لتنقلات الطاقة بين لونين مشرقين أو مشبعين في الأمام و للخلف، بل إنه يعطي الشكل حرية انبثاقه من داخل اللوحة بتحرير خطوطه من تعينها الطبيعي و كذلك من عدم اعتماده لخطوط محجمة للشكل الذي ينتشر ـ يتمدد في السطح عبر مستويات و ملامس مختلفة، و في المجال المدغوم تتحرر إمكانية البروز و الغياب في آن. لذلك يبتعد قرني عن الخط العامودي الصريح و المتعامد مع خط أفقي صريح، و مثلما يحدث في أعمال quot; يوجين كارير quot;، يدفع قرني حدود الحجم بعيدا في المسافة، ليبقي الشكل مستمرا وحوافه مدغومة و منفتحة على ممكنات بصرية أخرى، كما أنه في لوحته التي يظهر فيها حيوان الرنة بقرنيها المقوسين باتجاه داخل اللوحة غير المرئي و كذلك الذي يخفي جسمها في البقعة السوداء الداكنة التي انفجرت وسط اللوحة ذات الفضاء البرتقالي المشبع بجلاءه و بحرارته المشعة، حيث يغيب الخط الصريح على حساب انقشاع طبقة عن المرئي و بقاء اللامرئي مشعا في عمق اللوحة. إنه بذلك يعطي الشكل بعده الزمني، لأننا نعايش ديمومة اللوحة عبر الشكل الذي مازال يتدفق ببطء من طبقات العمق السميكة، و يتشكل آناء رؤيتنا له، و هذا التشكل آناء الرؤية ليس تمثلا ميتافيزيقيا، بل إنه قائم في منقط اللوحة الداخلي، حيث يتضافر الملمس المتجعد للقماش الممزوج باللون و بمادة مثبتة لبروز التجاعيد، إلى جانب حركة اتجاه سطح اللون البرتقالي الموجية و المتقاطعة في اتجاهات مختلفة، التي تصعد من احتدام الحركة في فراغ اللوحة، و بالتالي تمكن الشكل من أن يتمخض عن اللوحة داخلها اللامرئي، و طافيا من عمق اللامرئي الذي بات محسوسا و منبسطا في عدة لوحات متعاقبة،و ذلك إذا ما وضعت متساتلة و رأيناها عن بعد، كي نعايش تعايش لحظات اللامرئي و المرئي المتعددة، خصوصا مع الجحم الكبير لأعمال قرني، فقضية الحجم ليست محض مترية أو هندسية، إنها رهان بصري خالص و خبرة لونية تمتحن قدرة إضفاء النظام على ملكة التحسس لدى الفنان. فحسية اللامرئي في هذه الأعمال، تتأتى من التوازن المتقن لدرجة الضوء التي ترسم الشكل كتجسَّم، فالقسمات الغائبة للسلوقي تتجلى في العلاقات اللونية التي تمهد مظهر بعضها البعض،و هكذا يتدرج الأخضر العفني نحو الرصاصي الداكن، محدثا شرخا رصاصيا في وجه السلوقي ليكوِّن خط فمه، مرورا بالأسود الممسوح بطبقة رصاصية ـ بيضاء ترسم بشفافية بُنية الفم الممدّد و المتأهب للتعين.

اللمسي ـ مستويات التجسٌّم
يبقى هناك بعد ناقص في الرؤية، إذا لم يتم ممارسة الجانب الآخر من رؤية العمل التشكيلي، فالإدراك اللمسي لا يمكن ممارسته عن بعد، و هو يتطلب لإدراكه، استدعاء اللمسي في المرئي، و هو استدعاء غير ممكن بدون الإحساس العضلي الذي يفترض من سياق العمل ككل أن ينطبع به. لذلك نجد في كل لوحات قرني صيغ جسدية يستقبلها المتلقي كمعادلات داخلية للجسد في اللوحة. فهناك النتوءات التي تبرز في فضاء اللوحة و هناك الطبقات اللونية المتقشرة لداخل خارج الرسم، و السمك البارز للون الذي يتخارج فيه المكان و التفكير، و دائما هناك الثغرات و النوافذ التي تفتح اللوحة على خارجها من الداخل، كما في اللوحة التي تتضمن في منتصفها على نافذة مستطيلة، تتدرج الوانها من الرصاصي البني إلى البني الأسود، و في أسفلها وجه أنثوي موضوع أفقيا و متجه عاموديا، بارز إلى الأمام و موجه إلى عمق النافذة التي تموضع الوجه داخل اللوحة نحو خارجها اللامرئي، و هكذا يغدو هذا الوجه موجودا داخل اللوحة ـ المكان فيما وراء كل وجهة نظر. فبروز الوجه خارج اللوحة و توجهه نحو عمق اللوحة، يعيد ترسيم مسار العمق في هذه اللوحة التي تشملنا ايضا كمتلقين في عمقها الذي يفرزنا داخل علاقتنا بما نراه. فالنتوء ليس مرادفا لوجود انبعاجا في سطح مستو ٍ، إنه خروج على علاقة طبيعية، و بالتالي هو علاقة مع خارج اللوحة. بروز وجه الفتاة في هذه اللوحة يمتدد إلينا في علاقة مع ما يتجازنا؛ إنه علاقة فيما وراء وجهة نظر محددة، لذلك تشملنا اللوحة في عمقها الذي يقيم الوجه البارز للفتاة فيه.
يكتمل الشكل في أعمال قرني بما هو غائب عنه، لذلك يأتي الشكل الحقيقي للجسم في هذه اللوحات عبر مستويات و مدد عديدة، من الهيئة الرحبة التي ييمنحها قرني للأشكال التي يرسمها، كل جزء موضوع في هيئة متنافرة زمنيا لإنتاج دواما و ديمومة للشكل. إذ لم يكن عبثا أن صار السلوقي ثيمة شكلية في لوحات كثيرة، فالحيوان الهجين متضمن في أوالية دمغ حدود مستويات السطح، و ملمس السطح متضمن في تركيب السطح و هكذا يغدو المرئي مستندا باللامرئي المنتشر في عدة لوحات، مع الأخذ بالحسبان أن اللامرئي في الفن التشكيلي ليس تعبيرا متيافيزيقا، بل إنه قائم في صرح المرئي وفقا لشيمات بصرية محضة، لذلك تزدوج الرؤية في الرسم. و لذلك أيضا يعتمد قرني في لوحاته إجرائية تكونية تتمثل في تنويع مستويات السطح بملامس متعددة، و ترميز كل ملمس بمستوى ما من تجسّم الشكل، و هكذا يتضافر سياق اللوحة ككل و علاقة اللوحات فيما بينها، في تغليف رؤيتي بما تفتقر إليه من صيغ حسية غير مرئية، فلوحته التي هي مجرد مجموعة من الثغرات الدائرية، التي يتوزع فيما بينها مساحات شاقولية بيضاء، ليست مجرد ثغرات لاموضوعية، بل هي التي تمنح اللوحة التي تعقبها إمكانها الشكلي المتمثل في هيئة حيوان ذو درجات رصاصية بيضاء، لذلك يتداخل ملمس السطح لدى قرني في تركيبه للسطح، لأنهما ـ الملمس و التركيب ـ يدرجان الجسم في أدراج و يمنحانه زمانيته و استمراريته، فالشكل لا يبدأ من اللوحة التي يظهر فيها، مثلما لا يتحدد مآله في اللوحة التي يجسده في وضعية طافية و ملتوية. إنه شكل إحفوري و سيتحلل إلى ما لا يمكن التنبؤ به. و هذا ليس مصالحة أو مطابقة ذاتية بين الملمس و التركيب، بل إنه حركة تقاطعية يمنح الشكل سيرورة بصرية، و يحصنه من ثباتية جامدة، أي من موته كصيغة بصرية راكدة من شكل اجتماعي راكد.

هوامش:
1- راجع بهذا الصدد. الفن في العصر الحديث. جان ماري شيفر. ترجة فاطمة الجيوشي. إصدرات وزارة الثقافة السورية. ص 384 و ما بعدها. فهي مساهمة جيدة في نقد الخلط بين علم الجمال و بين النقد الفني البصري، و بين هذا المجال الأخير و بين فلسفة الفن، و هي دوائر متمايزة و متقاطعة بدون أن تنسحب إحداها على الأخرى. لكن الخلط كان ـ بكل أسف ـ أساسا في تنظيم التجربة الإدراكية للفنان مع الفن من جهة و للمتلقي مع الفن من جهة أخرى.
2- التكعيبية. أدوارد فراي. ترجمة: هادي الطائي.دار المأمون. بغداد 1990. ص. 206 و 208 و236. و حتى يمكن القياس على المبدأ الثاني من المبادئ التكعيبية التي يطرححها ألبير غليز. ص. 200،و المتعلق بتأثير الأشكال على بعضها في الموقع الفضائي، و هو مبدأ مشتق من الانطباعيين و المتعلق بقانون التضاد المتآني الذي يصح في انعكاس الألوان على بعضها في المنطقة الظلية و المعدلة لرسم الشكل، لكنه مبدأ غير دقيق فيما يتعلق بالموقع الفضائي للأشكال.

* قرني جميل:
ـ مواليد 1954. أربيل. العراق.
ـ خريج معهد الفنون الجميلة ببغداد. 1977.
ـ أنهى دورات في الليتوغرافيا / 12 / ببرشلونة. 1982

معارض شخصية:
ـ 1976 بغداد
ـ 1977 أربيل
ـ 1985 برشلونة. 1987 غراندا بإسبانيا. 1991 فاليسيا.
ـ 2008. غاليري سردم. السليمانية. العراق.
ـ شارك في الكثير من المعارض المشتركة العالمية و البيناليات.