حميد مشهداني: كان همي الاكبر بعد انهائي الدراسة المتوسطة، هو الانتساب الى ldquo;معهد الفنون الجميلةrdquo; ولكن معارضة والدي كانت شديدة، رغم محاولات الفنان ldquo;محمد القبنجيrdquo; افناعه لان والدي في تلك الفترة كانت تربطه بالفنان علاقة صداقة وعمل. فهو كان مقاولا لاحدى عماراته.. وكل هذا لم ينفع واصر على تسجيلي في ldquo;اعدادية الاعظميةrdquo; لانه كان يعتبرها ثانوية نموذجية، للقبول في كلية ldquo;الهندسةrdquo; بعد انهاء القسم العلمي فيها.
كان والدي يعتقد ان نسبة كبيرة من ميزانية مقاولاته كانت تنتهي في جيوب المعماريين.. وهذا كان صحيحا بشكل ما. لذلك كان يريدني ldquo;معمارياrdquo;. رغم ان همومي الدراسية كانت على ضفة اخرى. فقد كنت رساما هاوبا، ومشاهداتي لاعمال الفنان العظيم ldquo;فايق حسنrdquo; كانت تثير فيّ انفعالات متناقضة، بين رعشة خوف، واندهاش غامض، وكنت خلف معارضه ومساهماته الجماعية اينما كانت في بغداد، وحين وجدتني في الاعظمية، وأنا ابن ldquo;الكرخrdquo;غسلت يدي من املي في دراسة الرسم.
عزائى فقط كان جمال المدينة وروعة عمارة الاعدادية بين المقبرة الملكية. وrdquo;جامع ابي حنيفةrdquo; وفي الوسط حدائق النعمان. وهي من اعداديات بغداد العتيدة. فهي من القليلات التي كانت تحتوي مسرحا. كبيرا وصالة عرض للسينما.. ومرسما. وناديا رحبا للرياضة. وكنني كنت اتابع خطى ldquo;فايقrdquo; اينما كان نشاطه.
شاء القدر ان يتوفى ابي بعد سنتين، وحينها اصبت بأول كآبات حياتي، فتركت الدراسة، والاعظمية وأعداديتها. ورسبت في كل المواد،. و بقيت سنة لا أحرك ساكنا.. وتحت الحاح امي عدت الى الدراسة، ولكن هذه المرة في ldquo;اعدادية الكرخrdquo;
فايق حسن، لم يكن يمارس غير ldquo;أستاذيته، وفنهrdquo; فقط. فلم تؤثر فيه كل الغليانات السياسية في بداية السبعينات. فكان هو الشخصية العارمة.. كل ما كان يهمه هو مشغله وطلابه. وحسن ادائه التربوي. الشخصية المسيطرة على كل اجواء ldquo;أكاديمية الفنون الجميلةrdquo; وفجأة وجدتني معه في مشغله.. انا الذي كان حلمي التقيه ولو بالصدفة. ولكن حزنه كان بالغا حين الغى النظام البعثي طريقة القبول في الاكاديمية، كان كافيا ان تكون عضوا في حزب البعث او مزكى من قبل احدى منظماته المحلية. فالغي نظام الفبول السابق الذي يعتمد على اختبار وامتحان، عملي ونظري، بهدف تغيير الخارطة السياسية وتناسب فواها، فحزبالسلطة كان اقلية واظحة ففي ذالك الزمن الاكاديمية كانت تسمى ldquo;قلعة الحمرrdquo;وسنة بعد اخرى تحولت هذه الى مؤسسة بعثية.
كنت في حضرة ldquo;فايق حسنrdquo;ومنذ الايام الاولى شعرت ان علاقتي به ستكون صعبة، ولكنني حسبت حساباتي لكي لا يحدث ذالك. لان احترامي له كان فوق كل الاعتبارات، مرة دخل على مشغل السيدة ldquo;نعمة محمود حكمتrdquo; التى كانت تدرسنا مبادئ الالوان في الاشهر الاولى من السنة الاولى. وهي سيدة محترمة من خريجات اميركا، ولكن علاقتها بالفن لم تكن بتلك الحميمية، كانت قد عينت في الاكاديمية بسببrdquo;اكادميتها النظريةrdquo; وكفنانة لم تكن ذات مستوى عال،، وهي بدورها لم تبذل جهدا لتكون كذلك، وحين دخل ldquo;فايقrdquo; المشغل كعادته، دون نقر او دق على الباب، وحين القى نظرة علىrdquo;باليتrdquo; زميلتي ldquo;فاطمة لوتاهrdquo;ووجد فيه لونا اسود احتقن وجه الاستاذ وصار دخان غليونه اسودا ايظا، اقترب مني ورأى نفس اللون الزيتي عندي. وعند كل الطلبة كنا أكثر من 17 طالبا، كنت انظر السيدة ldquo;نعمة محمودrdquo; ووجها كان يعبر كارثة ستحصل، وحصلت، فهي كانت تراقبه وهو يكرف بيديه المجعدتين كل الوان الزيت الاسودوكانت، ترتعش تحت ldquo;بدلةrdquo;عمل ناصعة البياض، وكأنها طبيبية، كانت على وشك الاغماء عندما بدأ فايق حسن يدهن ويفرك تلك البدلة الجميلة ويلطخها بكل سواد الالوان قائلا (كم مرة قلت لك ان اللون الاسودلايستعمل لتدريس الرسم مع المبتدئين؟؟. وغادر المشغل تاركا السيد نعمة كما لوحة متحركة من اسود وأبيض.
حينما انتتقلت الى الصف الثاني، كان هو استاذي اليومي في الالوان، وبيننا بدأت علاقة غريبة من الود والغضب، ولكنه بطريقته كان لايتوقف عن شرح الاشياء ببطء، متحدثا من خلف غليونه العتيق الذي لا يترك فمه ابدا الا لتنظيفه. هو الذي علمني كل ما ما اعرفه،، ووجد بي مادة خام كان يريد صقلها على طريقته الخاصة. فلا مثيل له في اسلوبه وتكنيكه، في استعماله الالوان. فهو، ldquo;الوحيدrdquo; منذ بداية تأريخ الفن المعاصر في العراق الذي حفظ الالوان في ذاكرته، كما يحفظ اي نص عن ظهر قلب. التوناة (التدرجات اللونية) في رأسه، وريشته لم تكن بحاجة لنوع من التعامل، فأصابعه، وراحتي يديهه كانوا بألوان ابدية، في حضرته، كانت مطيعة، حارة مرات وصارخة ودافئة مرات أخرى.
في ذالك العام قرر مطبلو النظام اقامة معرض حزب ldquo;البعثrdquo; الاول،. وزمروا له وطلب من كل فنان المساهمة بعمل او عملين، rdquo;مقابل مكافات ماديةrdquo;rdquo;عدد قليل من الفنانين الرائعين وعلى ر اسهم ldquo;فايق حسنrdquo; حاولوا بأدب تجنب شرف المساهمة في هذه المناسبة الفنية البعثية. ولكن حين عرفوا ذالك أجبروه ليلة قبل افتتاح المعرض اجبروه على ان يقدم. هذا ما اخبرني السنة التالية. فبضغط من المنظمة الحزبية التي كان يقودها، نزار الهنداوي، عصام البزاز ومديري، المتحف الوطني للفن الحديث ldquo;العبيديrdquo; ومدير مركز ldquo;صدام ldquo;المختار. وواحد اخر نسيت اسمه لحسن الحظ. لم يبق امام ldquo;فايق حسن ldquo;غير رسم عمل في نفس تلك الليلة. والعمل كان بورتريت لrdquo;ميشل عفلقrdquo;. منقول عن صورة خرجت من حقيبة احدهم.. المسكين فايق اراد تجنب كل هذا، وأنظروا اين انتهى به الامر. راسما عفلقا. واللوحة طرية لان الزيت يحتاج اياما لينشف. وهي اخر لوحة علقت قبل الافتتاح بساعة.. وكان السيد ldquo;ميشيل عفلقrdquo; ينضح دهن الكتان من جبينه. ومن يد بقلم ذهبي كانت توقع بعض الوثائق على المنضدة،، من يدري ماذا كان يوقعrdquo; قرارت سجن ياترى؟.
كلنا عرفنا ما كان يعنيه الفنان، كان واضحا انه قد اجبر على رسم هذا العمل بالذات... كان عملا رائعا كمنجز فني، اراد منه الفنان اظهار ضبابية الشخصية وغموضها.
في اليوم التالي، حاولت اخبار استاذي، بأن عمله الزيتي الرطب ldquo;لعفلقrdquo; كان جميلا رغم عدم حبي له وعدم اتفاقي معه عقائديا. حينها كنت كما لو اني طفل يسأل فنانا عملاقا مثل ldquo;فايقrdquo; انتبهت بسرعة الى غضب مكتوم. وغيض مكظوم غطى وجهه، فوضع غليونه على المنضدة وأدار لي ظهره ليصحح وضع الموديل الذي كنا على وشك البدء في رسمه. وبينما كان يطلق دخان غليونه، طلب مني بود غير معهود منه ان لا اعود لهذا او الحديث عنه، وهكذا فعلت والان وبعد اكثر من 38 سنة رأيت من العدالة ان اكتب هذا الفصل الكئيب من حياة الفنان.. لان ذالك ضايقه كثيرا. ففي كل وسائل الاعلام. كانت لوحته في الصفحات الاولى.. وفي التلفزيون. وكان يشعر بإحراج.
بعد ذالك بأسبوعين، طلب مني الجلوس كموديل ليرسمني الطلبة.. ورأيته يهيئ ldquo;الستاندrdquo; الخاص به.. فعرفت انه كان يريد ان يرسم لي ldquo;بورتريتquot;، انهاه خلال 3 أيام فرسمني الفنان بعمل جميل، فأخذته الى بيتي قبل ان ينشف. لانني كنت خائفا من فقدانه. هذا كان بعد أسبوعين من صورة عفلق، ولكن رسمي كان طوعيا ووديا:، ولكن بعد هروبي من العراق في منتصف السبعينات. وتورط ldquo;صدام حسينrdquo; في حروب مدمرة وقمع ظالم. خلال الحصار ولظروف اقتصادية صعبة، اضطر واحد من اخواني بيع اللوحة لسيدة مقتنية لاعمال فنية، بمبلغ لا يتجاوز الالف دولار، وحينها كانت هذه ثروة ldquo; الان هنا اتوسل من يملك اللوحة ان يرسل لي صورة لها. عن طريقrdquo;ايلافrdquo; ممنونا له سأكون،
وهكذا كانت علاقتي مع فايق حسن، تتمرجح بين ود وكره وغضب وحتى غيرة. فبعد اكتشافي وشغفي بالكرافيك والطبع في ldquo;استوديوrdquo;الفنان غالب الناهي الذي يقع بالضبط فوق مشغل ldquo;فايقrdquo; والذى يفصلهما سلم خارجي، كنت أستغل فترات غيابه مع غليونه لاصعد خلسة للتطبيق في تكنيك الكرافيك. وحين يعود ولا يجدني في مشغله كان يستشيط غضبا، ويصعد السلم راكضا ويأمرني النزول بعد ان يعنف ldquo;غالب الناهيrdquo; لسماحه لي بذالك.. وفي احدى المرات انزلني السلم وهو يجرني من أذني. وفي الصف الاخير كنت قد انشغلت برسم جدارية rdquo;فريسكوrdquo; في مدخل الاكاديمية. وكانت واحدة من كبريات الجداريات المنتشرة في بغداد، كلفني برسمها استاذrdquo;مادة الجدارياتrdquo;. الفنان ldquo;غازي السعوديrdquo; ولكنني كنت اشتغلها ليلا وحتى احيانا كنت انام في الاكاديمية. وهذا لم يكن يضايق الاستاذ ldquo;فايقrdquo;. بالعكس، كان معجبا بالعمل. ولكن الذي اغضبه بعد فترة هو تكليفي برسم جدران، مسرح الاكاديمية من قبل الاستاذ ldquo;سامي عبدالحميدrdquo; الذي كان يعد مسرحيته العظيمة ldquo;كلكامشrdquo;. فوافقت ذالك، عارفا ان هذا سيثير امتعاض فايق.
وبدأت العمل، بنفس الطريقة التي امارسها في مشغل الكرافيك، مستغلا غياب فايق للعمل برسم كل جدران المسرح بين شخصيات ldquo;الملحمة الاسطوريةrdquo; وكتابة بعض النصوص الاصلية كما وردت في ترجمة الدكتور ldquo;طه باقرrdquo; فصارت صالة المسرح وكأنها معبد سومري، او بابلي. وعاد النزاع مرة اخرى مع ldquo;فايقrdquo; ولكن هذه المرة فاز الفنان rdquo;سامي عبدالحميدrdquo; الذي توسل استاذى ان يسمح العمل في اعداد المسرحية ولو بضعة ساعات في الاسبوع في البداية رفض، رغم ان ldquo;ساميrdquo; كان عميد الاكاديمية... اخيرا وبعد الحاح هذا الاخير وافق على مضض. رغم انه يجد الحجج لتعنيفي على طول اسابيع لاعداد rdquo;كلكامشrdquo;. ولكن بشكل اخف.
هكذا كان ldquo;فايق حسنrdquo; فنانا ورجلا رائعا. ربما طال الموضوع ولكنني اختصرت الكثير من الاشياء. وبعد تخرجي مباشرة كنت الوحيد من كل خريجي دورتي تلك املك شهادتي مترجمة ومصدقة ولم يبقى علي الا عبور ldquo;جسر زاخوrdquo; بينما كان زملائي في اصطفاف عسكري امام عريف في احد معسكرات بغداد.
قبل سفري الليلي بأيام. عزمني في بيته على غداء نباتي. هذه المرة كنا اصدقاء. واخر حديث بيننا قال ldquo;كل هذه السنين كنت اعرف منو وشتفكر ldquo; قال هذا مبتسما وفي قلبي لم يكن له غير الود. كنت على وشك اخباره بمشروع هروبي من العراق. وكنني فضلت عدم إقلاقه في موضوع اخر. قبلت رأسه وخرجت الى محطة الباص.

برشلونة اسبانيا