صالح كاظم من برلين: قبل أن ينتشر الوعي النازي في بنية المجتمع مثل مرض معدٍ، سعى النازيون بحماس كبير لبناء جهاز إعلامي ضخم بهدف الترويج لإيديولوجيتهم، وذلك بتوجيه مباشر من هتلر الذي أدرك منذ بدايات حركته أهمية الإعلام في العمل السياسي. وقام بتحميل هذه المسؤولية لواحد من أذكى أتباعه وأبرعهم، ألا وهو غوبلز الذي أشتهر بعلاقاته الواسعة في الوسط الفني والثقافي، مما جعل هتلر يعيّنه لاحقًا وزيرًا للتوعية الشعبية والدعاية. وقد إستغل الأخير موقعه هذا بدهاء كبير للترويج للحرب المقبلة التي كان يُهيئ لها في الخفاء وفي كسب عدد لا يستهان به من المثقفين للتعاون مع النظام الجديد، مدركًا في الوقت نفسه ألأهمية الكبيرة للفن الجديد نسبيًا، السينما، في بناء الوعي الجمعي للجماهير. ولم يأتِ هذا الإهتمام بدور السينما طارئًا، بل كان مرتبطًا بالنهضة السينمائية الكبيرة التي شهدتها ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، حيث أصبحت صناعة السينما، على الرغم من الأزمة الإقتصادية والسياسية التي أحاطت بجمهورية فايمار، تمضي في طريق الإزدهار، في الوقت الذي أصاب فيه الشلل مجمل المجالات الإقتصادية المهمة. ولم تقتصر هذه النهضة على الأفلام التجارية التي أغرقت الأسواق في حينها، بل شملت كذلك الأفلام الطليعية (السينما التعبيرية والسينما الواقعية ذات التوجه السياسي..الخ). من الجدير بالذكر أن غوبلز الذي ما زالت مذكراته تشكل مصدرًا مهمًّا للتعرف إلى الإيديولوجية النازية شارك هتلر وغورنغ في التأكيد على دور السينما كأداة تعبوية لنشر الإيديولوجية القومية الإشتراكية، غير أن عمل غوبلز في هذا المجال لم يقتصر على الجانب النظري، بل شمل كذلك الجانب العملي، حيث شارك، كما يبدو من خلال مذكراته في تأسيس شبكة واسعة لمراقبة و quot;توجيهquot; صناعة السينما تحت إدارة النظام النازي الشمولي، كما عمل على كسب العديد من الفنانين الكبار للترويج للإيديولوجية النازية، ومن ضمنهم المخرج فرتز لانغ (الذي لم ينجر وراء إغراءات الوزير النازي).
وتقع العلاقة المتميزة التي أسسها غوبلز مع الفنانة ليني ريفنشتال (1902-2003) في إطار تجنيد الطاقات الفنية الموهوبة في خدمة الهيمنة النازية على المجتمع بناءً على قناعته quot;الحماس للأفكار أمر مهم وجيد، غير أننا يجب أيضًا أن نجد المواهب القادرة على التعبير عن هذا الحماس فنيًّا...quot; من هنا فقد وقع إختيار غوبلز على الراقصة والممثلة والمخرجة ليني ريفنشتال لتضع لبنة السينما النازية من خلال تحقيق الفيلم الوثائقي quot;إنتصار الإرادةquot; بإجزائه الثلاثة عن مؤتمر نورنبرغ لـ quot;لحزب العمال القومي الإشتراكي الألمانيquot; في العام 1934، هذا الفيلم الذي مرت قبل أيام الذكرى الخامسة والسبعين على أول عرض له في quot;أوفا بالاستquot; ببرلين بحضور أدولف هتلر وعدد كبير من قادة الحزب النازي.
بفيلمها هذا، الذي لا يزال يعتبر على الرغم ممّا يحمله من بصمات إيديولوجية واضحة، إنجازًا كبيرًا في مجال السينما الوثائقية، حيث يرى فيه الكثيرون عملاً إبداعيًّا كبيرًا، سواء من ناحية توظيف الكاميرا، أم من ناحية توزيع المجاميع البشرية، وضعت ريفنشتال نصبا لهتلر، يضعه في موقع quot;الأنبياءquot;. ومنذ اللحظات الأولى يجد المشاهد نفسه وسط بحر من الصور التي تؤكد على دغدغة المشاعر القوميةلدى المُسْتقبِل، لتجعله مهيئا لإستقبال quot;القائد المنقذquot; الذي يهبط من quot;السماءquot; على متن طائرته الخاصة. لهذا الغرض قامت ريفنشتال بتوظيف طاقم يتكون مما يزيد عن 120 عضو و16 مجموعة تصوير لجمع مادة تتجاوز مدتها 60 ساعة، قامت بأعادة ترتيبها عن طريق المونتاج توثيقا لمؤتمر الحزب النازي. من خلال هذا الفلم أصبحت المخرجة واحدة من محظيات هتلر القليلات، كما أصبحت الى جانب المعماري البيرت شبير (1905-1981) من الأعمدة الثقافية الرئيسية للنظام النازي، وكان حصولها على الجائزة القومية للسينما تأكيدا على موقعها المهم داخل النظام. في تقييمه للفلم قال غوبلز quot;هذا الفلم هو إحدى الإنجازات الهائلة للسينما في هذا العام. أنه ينقل في صور ضخمة لا مثيل لها جسامة الأحداث الجارفة في حياتنا السياسية. وهو التجسيد السينمائي الهائل للفوهرر الذي يبرز هنا بشكل مؤثر لا مثيل له.quot;
ويجمع النقاد على أن هذا الفلم، رغم العبء الإيديولوجي الذي يحيط به، خطوة متميزة في مسيرة السينما الألمانية وذلك من خلال إستخدام أدوات تقنية جديدة في العمل تجلت في الجرأة في إستخدام الكاميرا بطرق غير مألوفة وفي المونتاج الديناميكي والمشاهد الجماعية التي ستتكرر في أفلام المخرجة اللاحقة.
لقد أستخدمت ليني ريفنشتال كل الخبرات التي أكتسبتها من خلال عملها كممثلة وراقصة تعبيرية على خشبة المسرح وفي السينما، وبالذات في الفترة التي عملت خلالها مع المخرج آرنولد فرانك (1889-1974) الذي عرف بإفلامه التي تدور أحداثها في المناطق الجبلية، لتحقيق مشاريعها في مجال الإخراج، فجاء فلمها الروائي الأول الذي عرض للمرة الأولى في العام 1932 quot;الشعاع الأزرقquot; مجسدا لكل هذه التجارب وحاز على الجائزة الفضية في مهرجان البندقية في تلك السنة. لاحقا قامت ريفنشتال بإخراج فلمها المعروف عن quot;الألعاب الأولمبيةquot; التي أقيمت في برلين في العام 1936، و قامت بالتعاون مع غوبلز وشقيقها بإنشاء شركة خاصة لإنجاز هذا الفلم، لكي لا يتولد الإنطباع بـ quot;أنه من إنتاج الرايخquot;، كما ورد في ملاحظة لغوبلز، وقد تم تحقيقه بجزئين هما: quot;مهرجان الشعوبquot; وquot;مهرجان الجمالquot;، أستخدمت فيهما تقنيات جديدة منها التصوير تحت الماء (جرى إنتاج كاميرات خاصة لهذا الغرض وفق تصورات المخرجة). وقد حقق الفلم نجاحا منقطع النظير في مختلف البلدان الأوربية التي عرض فيها.
وربما يمكن إعتبار ريفنشتال التي بقيت حتى موتها مصرة على أنها quot;لم تكن تمتلك أية قناعات سياسيةquot;، مثلها في ذلك مثل العديد من معاصريها ومنهم الممثل الكبير غوستاف غروندغنس (1899-1963)، والمعماري البيرت شبير، نموذجًا لبعض الفنانين الذين يسعون الى تبرير مواقفهم الموالية للأنظمة الشمولية من خلال التأكيد على quot;إضطرارهم لذلك خدمة للفن..quot;
ومن الجدير بالذكر أن ريفنشتال إنصرفت في السنوات الأخيرة من عمرها الى التصوير quot;تحت الماءquot;، كما حققت تفوّقًا كبيرًا في مجال التصوير الفوتوغرافي، مركزة على رحلاتها في أفريقيا مبرزة بشكل خاص البناء الجسدي المكتمل لمن صوّرتهم من سكان القارة السوداء.