حوار مع عبدالله ثابت: *(الإرهابي 20) ترصد التجربة الإنسانية لجيل ما بعد أحداث دخول الجهيمان الحرم المكي.

bull;هذا هو المشترك المروّع الذي خدم نجاح الرواية أكثر بكثير من ألف يوم مما تعدون من 11 سبتمبر!
bull; أنا من جيل منقطع عمّا قبله، فالجيل السابق مهزوم ومدمر على يد الشراسة السلفية.
bull;قصيدة النثر لم تجد مشروعيتها في مجتمعنا بعد، فما زال هناك من يحتج على وجودها، ولا يعتبرها شعرًا أصلاً!
bull;التشدد الديني وثقافة النمط الواحد تم فرضها فرضًا قسريًا ليس على الجنوب وحده، بل على كل مكان، لكن الجنوب طاله الوجع الأكبر.
bull; أعوّض انعزالي في الحياة عن المشاهد المشتركة بشجاعة الكلمات، حدّ الصدمة.
bull;أصادم الجيف المجرمة التي تفتك بالحياة الإنسانية وتمشي بسوط نفوذها الذي تهلك به وجدان أمة بكاملها.
bull;في السعودية - للأسف- غالبًا ما نقتل المتطرفين ونتبنى أفكارهم.
bull;تجربة التديّن المغالية والمتطرفة، تهاجم الحياة وتنفي العالم، وتنظر إلى الآخر (المسلم) بالنفي والتكفير، فما البال بإتباع الأديان الأخرى.
bull; انظر إلينا لتسمع من يقول بقتل ميكي ماوس، وهدم الحرم، وقتل القائلين بالاختلاط،
bull; لا أعول على حركة النقد بالسعودية، ولا أراها تسير بالتوازي مع حركة الإبداع
bull;أغلب المشغولين بالنقد عندنا أشبه ما يكونون بمفسري الأحلام!


عبدالله ثابت وغلاف الطبعة الفرنسية وواحد اعماله بالعربية

عبدالله السمطي من الرياض: يعيش الروائي والشاعر عبدالله ثابت هذه الأيام نشوة صدور الترجمة الفرنسية لروايته ذائعة الصيت: quot; الإرهابي 20quot;.. وقد حاولنا في هذا الحوار أن نخرجه قليلاً من هذه النشوة ونقلّب عليه مواجع الكلمات. فعبدالله ثابت الذي اختصر مسافات قرائية عدة، وركض في وحشته باتجاه الأبجدية، يعد النشوة من quot; النوباتquot; التي تأتي وتذهب، ويبقى سؤال الكتابة وحده شاهرا تأملاته.
وهنا يشهر ثابت آراءه الصادمة التي جربها في كتاباته الشعرية والنثرية سواء في quot; كتاب الوحشةquot; أم في quot; النوباتquot; أم في quot; حرام CV quot; وهو هنا يجربها في حواره مع إيلاف فيقول إنه يصادم اليوم الجيف المجرمة التي تفتك بالحياة الإنسانية السوية، وتمشي بسوط نفوذها الذي تهلك به الأرض ووجدان أمةٍ بأكملها، من خلال كتاباته التي يقضي بها على عزلته ووحشته، ويؤكد على أن تنوع كتاباته بين الشعر والرواية والمقالة والنثر من قبيل أنه غير معني بمسألة التجنيس بل بالكتابة، ويشير إلى أنه من جيل منقطع عما قبله، وأن النقاد لا يقومون بدورهم النقدي فهم مشغولون بالصداقات والعلاقات، وبالتمجيد والقدح، وهو ينتقد المرحلة الصحوية التي عاش بعض أطرافها، ويسخر من فتاوى اليوم التي تطالب بقتل ميكي ماوس وهدم الحرم وقتل المطالبين بالاختلاط، وآراء أخرى عدة في هذا الحوار:

ما هي أبرز التحولات في مسيرة عبدالله ثابت الإبداعية؟
في البداية كانت الطفولة، وحياة الريف والحقول، والحياة الاجتماعية المفتوحة على الحب والتعايش الحميمي المشترك، وكانت كتاباتها بلا أحرف ولا كلمات، ولكن بكل ثانية صحوٍ أو نوم.. وهذه مرحلة، ثم كانت حياة المراهقة والتطرف والحماقات، وكان بها كتابات مزقتها مع جحيمها، وهذه مرحلة، ثم كانت مرحلة العنف اللاهث وراء كل كلمة وقراءات وانفعال وأحلام، وبقي في ذاكرتي فقط كلمات ضئيلة منها، وهذه مرحلة، ثم جاءت الكتابة التي لا تذهب إلى غير الأدراج وثرثرة الأصدقاء.. وهذه مرحلة، ثم جاءت الكتابة التي تذهب إلى صفحات القراء بالجرائد والمجلات هنا وهناك، وهذه مرحلة، ثم جاءت الكتابة في جريدة الوطن بصفحات الرأي، مع نشر بعض النصوص الشعرية فيها وفي غيرها، وهذه مرحلة، ثم كان كل كتاب أصدرته يمثل مرحلة تختلف عن التي قبلها؛ في quot;ألهتكquot; كانت الخطوة الأولى في الجرأة على النشر من جهة، وحفراً في سنوات صعبة من مساءلة اليقين واجتراح اللغة من جهةٍ أخرى، ثم كان كتاب quot;النوباتquot; بكل ما تمثله مرحلته من اسمه وعنوانيه الرئيس والفرعي quot;تالفٌ يمضغ عصبهquot;، ثم كانت مرحلة الرواية quot;الإرهابي20quot; والتي كانت فوق كل ما توقعته وعكسه أحياناً، وعبرها وعبر أثرها دخلت إلى عوالم وصراعات وآفاق لم أخمنها يوماً، ثم كانت مرحلة الانسحاب من مسرح الصراع والآراء والخروج من تلك الوجوه والكلمات الفجة إلى الافتتان بقداسات الحياة الجميلة، والأشخاص الذين ملأوا الأرض ألوانًا وأقواس قزح، ودونت تلك المرحلة في كتاب quot;حرامC.Vquot;، وبعده جاء quot;كتاب الوحشةquot; تسجيلاً لمرحلة بالغة العتمة، بما في العتمة من الحنين والقرى وأمي، بما فيها من الأمصال والليل، والكحل والحريق، الخواتم والخراب، والضلالة والجوّ، وكلماتٍ سوداء لرجلٍ مدهوكٍ بالظلام. كما كانت المقابر والأصوات والسينما واللحى والجدائل والموسيقى والجوائز وأبها وصنعاء وبيروت وجدة وروما وباريس ولندن ومقاعد الطائرات والمهرجانات الكبرى، والبلدان التي آتيها لأول مرة، والوجوه العملاقة التي التقيتها.. كل هذه التفاصيل تحمل في عمقها تحولاتٍ تنفخ روحها في كل كلمة كتبتها وسأكتبها!

لماذا تراوح بين الشعر والرواية في كتابتك.. على الرغم من أن الشعر عنوان للكثافة فيما الرواية عنوانها البوح والكشف والتفاصيل؟
لأنني أنظر إلى الكتابة باعتبارها كتابة فقط، دون الاعتبار ولا التخوّف من جنسها ولا إطاراتها المسبقة. الكتابة هي الكتابة، وفي الأصل لدي احتجاج ونقمة على إرث الموتى وما لطخونا به من الكلمات وصيغها وسطوتها، وهو احتجاج ونقمة فحسب وليس نفيًا لجماليتها، هو احتجاج ونقمة لأن ما تركوه صار سلطةً بقوانين وإطارات نُؤاخذُ على الخروج عنها، وعليه فإني غير معني بقوانين الشعر ولكنني معني بماهيته، ولا معنيّ بتسمية الرواية، لكني معنيّ بكنهها وجوهرها، وأكثر من هذا فإني غير معني بالتجنيس، ولكني مشغولٌ بجوهر الكتابة، بالروح الصريحة للغة، وغير هذا فنحن في زمنٍ تقاربت فيه الأجناس الأدبية من بعضها حتى ذاب معنى تجنيسها، والكتابة التي لا تشبه زمنها أو تسبقه كتابة ميتة!

خرجت شعريًا بشكل صادم. أنت تستخدم تعبيرات صادمة نثريا دون الالتفات لماهيتها الجمالية. شعرية القبح مهيمنة لديك لماذا؟
لا أظن أن لي الحق أن أجيب على سؤال كهذا، لأنه ليس دوري أن أتكلم عن شعريتي ولا تعبيراتي، ومع أني لا أوافق على أني أستخدم التعبيرات الصادمة دون الالتفات لماهيتها الجمالية، ولا أوافق على أن شعرية القبح تهيمن علي، إلا أني لن أدافع عن أعمالي فالإجابة ليست من حقي، ولكني سأتكلم فقط عن مسألة الصدامية لأنها موقف، فأقول أني أعوّض انعزالي في الحياة عن المشاهد المشتركة بشجاعة الكلمات، حدّ الصدمة، أعوّض بهذه التعبيرات الغاضبة عن موقفي من هذا الشلل الإنساني المريع إزاء الوجود وتفسيره، ولجوء الإنسان منذ وجد إلى تدمير عقله وحياته، وتشييد أوهامه وخرابه، إنني أصادم الجيف المجرمة التي تفتك بالحياة الإنسانية السوية، وتمشي بسوط نفوذها الذي تهلك به الأرض ووجدان أمةٍ بأكملها، مهما كانت تلك الجيف أنيقةً، وتبرق أصداغها وجلودها الرطبة، أو تفوح روائح العطور منها، ومهما لونت عطشها للدماء والتعسف والسطو على حياة البشر بادعاءات العدالة أو الاخلاق والفضيلة، والتصرف والكلام نيابةً عن الله ونبيه، إنني أصادم كل الظلَمة الذين يستخدمون هذه الحيل الحقيرة أو ينفذونها على أرض الواقع، ويسلبون بها أبجديات الحياة والإنسان حيثما كانوا!

... وخرجت أيضًا روائيًّا بشكل صادم بروايتك (الإرهابي20) هل خدمك الحدث العام (11 سبتمبر) في كتابة الرواية إعلاميا وأدبيًا؟ أم وظفت الحدث روائيا وكنت تتوقع أصداءه؟
لا ريب أنه لا يمكن عزل نجاح أي عمل عن آثار واقعه الذي جاء منه وذهب إليه، لكن هناك فارقاً جوهرياً بين الأثر والتوظيف، ومن هنا أذكر بأن رواية quot;الإرهابي20quot; صدرت في مطلع عام الألفين وستة، بينما كانت أحداث أيلول سبتمبر في عام الألفين وواحد، أي بعد خمس سنين، وهذا يلغي افتراض استخدام أو توظيف الحدث، كما أنها لم تخرج بالفرنسية إلا في العام الحالي 2010 أي بعد تسع سنين من الحدث نفسه.. وأعتقد أن أحداً يريد توظيف 11 سبتمبر لن ينتظر كل هذه السنين ليكتب شيئاً، وقبل هذا فإن quot;الإرهابي20quot; لم تتناول 11 سبتمبر إلا في صفحتين أو ثلاث، وعليه فالحدث العام لم يخدمها بشكل مباشر، حتى لو حملت عنواناً يتعلق به. أعتقد أن ما خدمها هو رصدها لتجربة إنسانية تمثل جيلاً أو أكثر في السعودية، تلك الأجيال التي دخلت إلى ردهات التعليم بعد أحداث دخول جهيمان وأتباعه للحرم، وما لحق بها بعد ذلك من الآثار السلبية، والتي يأتي على رأسها أننا في السعودية - للأسف- غالباً ما نقتل المتطرفين ونتبنى أفكارهم، وأحيانًا بشكل مؤسسي، وبذلك كان أغلب الذين عاشوا تجربة التعليم الحكومي بالأخص من تلك الفترة حتى اليوم يمثلهم النموذج الذي كتبت عنه في الرواية، وأي واحد منهم كان مهيأً ليكون قاتلاً بأثر الأفكار القاتلة التي يحملها، وهكذا يأتي التبرير لعنوان الرواية؛ الإرهابي20. أرجع فأقول أن الذي خدم نجاح الرواية إعلامياً وأدبياً هو تمثيلها لمشترك واحد بين أكثر من جيلين، وهو تجربة التديّن المغالية والمتطرفة، التي تهاجم الحياة وتنفي العالم، وتنظر إلى الآخر (المسلم) بالنفي والتكفير، فما بالك بما كنا ننظر به إلى المسيحيين واليهود وسائر أتباع الأديان الأخرى، ولست بحاجة للدفاع عن هذا الرأي، لأن الفتاوى والمقولات والأحداث التي تتوالى منذ أكثر من ثلاثين عامًا أدلّ وأكثر وأوفى من أية مرافعة للدفاع، انظر مثلاً أين هم السبعة مليار إنسان فيما يخص تعليم الأطفال، وانظر مرة أخرى لتجد أن هناك من يرى أن تعليم المراحل الأولية من قبل المعلمات حرام وبعضهم يرى أنه يعدّ اختلاطاً!! وانظر إلينا لتسمع من يقول بقتل ميكي ماوس، وهدم الحرم، وقتل القائلين بالاختلاط، وانظر أيضاً لترى من حارب أن تبيع المرأةُ للمرأة ملابسها الداخلية، إلى درجة التهديد بالتصفيات والقتل.. يا رجل بالله عليك قل لي أي وباء هذا الذي نحن نعيش بداخله، وهذه الأمثلة التي ليست سوى قطرة من محيطٍ متلاطم يحفّ حياتنا وتفاصيلها في سائر اليوم والليلة، ولا أحدثك عنها باعتبارها من ماضٍ حدث قبل مائة سنة، ولكنها حدثت وتحدث هذه الأيام! هذا هو المشترك المروّع الذي خدم نجاح الرواية أكثر بكثير من ألف يوم مما تعدون من 11 سبتمبر!

ما أثر الخطاب الصحوي في توجهك الإبداعي؟
في الخضمّ البشع من القبح والتناقض والدموية التي تعج بها صدور الكثير من المتطرفين المغالين الإسلاميين إلا أني مدين لهم شخصيًا بشيئين، انعكسا على حياتي وسلوكي وكتابتي، أولها الإعداد النفسي لشخص لا يخاف فيما يريده أحد حتى الموت نفسه من جهة، وشخص لا يمكن كسره من جهة أخرى.. ومهما تآلب الآخرون على تدميره إلا أنه يعود وينمو من جديد، وثانيها الصرامة مع الذات في العكوف على القراءة وطلب العلم التي تخدم خطواته وتصليب الإرادة التي تمكنه من الوصول إلى ما يريد. هذان الشيئان من أخطر وأقوى ما تملكه جماعات الإسلام السياسي ومتطرفيها!

كيف انتقل التشدد الديني والاجتماعي والثقافي من الوسط إلى جنوب المملكة؟ وما دلالة ذلك؟
أعترض أولاً على كلمة quot;انتقلquot; في سؤالك! الحقيقة أن التشدد الديني وثقافة النمط الواحد تم فرضها فرضاً قسرياً ليس على الجنوب وحده، بل على كل مكان، لكن الجنوب طاله الوجع الأكبر، ولا أعرف بأي منطق فكر الذين دبروا لهذه القصة، أو سمحوا بها على الأقل، لا أدري أيّ ذريعة يمكن الاقتناع بها ليخنقوا هذا التنوع والتعدد والثراء الديني والثقافي والتراثي والوجداني في كل ناحية! هل كان بهدف الاطمئنان على الولاءات؟ ألم يكن هناك ما هو أجدى ليجتمع الناس عليه، كفكرة المصير الواحد في وطن واحد على أرضٍ واحدة! ألم تكن التنمية الحقيقية والتعليم العصري والمتنوع كفيلةً بخلق ذاك الحسّ العالي نحو الوطن والدولة؟! إني أتساءل كيف يمكن أن يكون لديك هذا الكم والكيف الهائل من الأماكن المختلفة والذي يسعك أن تزاحم بتنوع ما فيها ثقافات العالم وموروثات الشعوب، فتسمح أن يُعتدي عليها في بضعة عقود من الزمن حتى توشك أن تقع أنت وإياها في فراغ هذا الضمور المخجل، وهذا التناسخ الخالي من أي معنى.. أسألك كيف تريد أن تسبق الآخرين برجلٍ واحدة، وأنت أنت بيدك من سمح لخطابٍ واحد أن يكبل أطرافك الأخرى، بل وأرعبتها به، وتركتهم ينزعون منها حقيقتها ووجودها، حتى جفت أو تكاد، وصارت الأمكنة في كل الجهات تعجّ بأصحاب تلك الألسنة المزدحمة بطيش الغلو والحرب على الحياة! ها أنت اليوم في مواجهتهم، وفي مواجهة خطابهم الذي لا يهدأ إلا ليعود بصورةٍ أنكى وأكثر إيغالاً في إحراجك أمام العالم، بل وها أنت في مواجهة نقمة وغضب من سمحت بتهشيمهم! إني بكل القلق أعجب كيف سكت كل هذا الوقت أو تجاهلت ما يحدث وأنت تراهم يأخذون الناس منك!. لقد كانت هذه غلطة كبرى، وربما كان من قبيل المستحيل معالجتها في زمنٍ قصير، نعم إن استعادة ما أخذه خطاب الغلو (الصحوة) يحتاج إلى حذرٍ شديد، وزمن قد يكون طويلاً، وخصوصًا أنت ما زلت تجاملهم.. الحاصل أنه بهذه الغلطة الشنيعة انتقل التطرف من منابعه الأولى إلى الأقاصي من كل جهة، وأنجبت مقولاتٍ مضمخة بالويل وأشخاصًا كثيرين جدًا جدًا، وهم جاهزون لنسف الأرض عن بكرة أبيها!

ما هي الآفاق الجديدة التي تحملها كتاباتك؟ وهل هي متضامنة مع آفاق الخطاب الإبداعي السعودي؟
الحديث عن الآفاق التي تحملها كتابتي وقراءتها أيضاً ليست مهمتي، إنها مهمة النقاد، وربما لم يكبر مشروعي للحد الذي يمكن قراءة أعمالي باعتبارها منجزاً ضخماً حانت مراجعته للكشف عن آفاقه، وشخصياً لا أعول على حركة النقد بالسعودية، ولا أراها تسير بالتوازي مع حركة الإبداع، بل هي متأخرة للحد الذي أراها ما زالت في الغالب ضربًا إما من القدح أو التمجيد، وليست قراءةً جادة وفاعلة وكاشفة ومؤسسةً لآفاق كتابة مستقلة في السعودية. هل لدينا حركة نقدية أصلا! برأيي أن لدينا أسماء قليلة هنا وهناك من النقاد.. بعضهم ما زال مأخوذًا بالثمانينات، وكأنه لم تُكتب كلمة بعدها، وآخرون مشغولون بالصداقات، وآخرون مشغولون بالـ...! أما الجادون والصادقون فقليلٌ ما هم، ومع ذلك فإن كل هذا المجموع لم يبلغ منجزهم النقدي ما يمكن وضعه بالتوازي مع التراكم الثقافي العام الذي بلغته حركة الأدب والثقافة في السعودية! كم نحن بحاجة لأولئك النقاد المحرضين باستقراءاتهم الكاشفة، ورؤاهم الموضوعية لمستقبل أدبنا وثقافتنا. ليس عبر مقالات وكتب التنظيرات، بل بالاشتغال الجاد على المطروح على الرفّ السعودي. نقادنا يؤلفون كتبًا طويلةً عريضةً عن الحداثة والنقد والتفسير، وقليلٌ جدًا من نقادنا من عمل على مشروع أحد شعرائنا أو روائيينا. يؤسفني أن يكون أغلب النقد لدينا بمثابة تفسير المنامات، وليس فتحًا واعيًا وعميقًا في القادم، وأغلب المشغولين بالنقد عندنا أشبه ما يكونون بمفسري الأحلام!

في ديوانك الشعري اكتشاف للوعي، وسريلة الأشياء هل ترى أن هذا التوجه غريب عن البيئة الإبداعية السعودية؟ أم لا يهمك هذا الأمر؟
قراءتي للبيئة السعودية غير وافية للحد الذي يمكنني من التقاط المشترك بيني وبين تجارب قصيدة النثر المماثلة بالداخل السعودي، لأسباب أني من جيل منقطع عمّا قبله، ولا يرى فيه نموذجاً ولا مثلاً كافيًا، بل أراه مهزومًا ومدمرًا على يد الشراسة السلفية، ولا لوم عليه، وكذلك فأنا منعزل تماماً عن الوسط الثقافي السعودي منذ البداية على المستوى الشخصي، ومشاركاتي بالداخل تعد على الأصابع، ولكن الأسباب الكبرى هي تأخر وإخفاق الكدح النقدي الذي يبني لرؤيةٍ قادمة، كما ذكرت فيما سبق، والثاني أن قصيدة النثر نفسها لم تجد مشروعيتها في مجتمعنا بعد، فما زال هناك من يحتج بصلف على وجودها، ولا يعتبرها شعراً أصلاً!أضف إلىأني شخصيًا لم أتأثر شعريًا بشكل مباشر بالأعمال الإبداعية السعودية. أحببت بعضها فقط، لقد كان تأثري وامتثالي بنماذج لا أكاد أجدها هنا، وهذا لا يعني أني لم أعبر عن حياتي ولا واقعي في السعودية، لقد قرأت وتأثرت بشعراء العالم، لكنني كتبت من تحت رائحة ثياب أمي وجبلي وقريتي وأهلي ومجتمعي وحتى الحروق والخدوش والعلامات التي في نواحي جسدي! ومن الطريف، الذي يؤكد أن مجتمعنا، بالكثير من مؤسساته الثقافية، لم يعترف بعد بأن هناك شعراً اسمه قصيدة النثر حتى اليوم، أنني إن دعيت بالداخل فإنني أدعى بوصفي روائيًا، وربما يقال quot;الشاعرquot; من قبيل الحرج والتسميات، وفي الوقت نفسه أدعى كثيراً للمحافل الأدبية العربية والعالمية بوصفي شاعراً. من المؤسف أن العالم من أقصاه إلى أقصاه تجاوز مسألة قصيدة النثر وحسمها من نصف قرن وأكثر، وشعراء قصيدة النثر هنا ما زالوا يبحثون عن مشروعية واعتراف بما يكتبونه. أذكر أن أحدهم في مهرجان بيروت39 الذي كان في شهر إبريل الماضي، قال quot;إنكم في الخليج تشدون الشعر لأكثر من خمسين سنة للوراء، ما زلتم تناقشون إن كانت هناك قصيدة نثر أم لا، وهذا ما كان يناقشه العالم العربي قبل أكثر من نصف قرنquot; وقلت له quot;صدقتquot;، وهذا لا يعني أبداً أني ألغي أو أتهجم على القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة، ولكني لا أراها هي الشعر فقط وما سواها ليس بشيء، وأكثر من هذا أن أشرح كيف أني وزملائي الذين يكتبون قصيدة النثر نواجه هذا الاقصاء المخزي والواضح في السعودية، بينما لنا أسماؤنا المفارقة والمميزة والمحتفى بها عربياً!

قوبلت بتلق نقدي متميز، هل أثر هذا التلقي على توجهاتك وقناعاتك الأدبية؟
هناك ما يُكتب أحيانًا بصدق وموضوعية وأجد فيه وجاهة تجعلني أعيد قراءة طريقي ومراجعته، لجعله أفضل، ولكن ليس لتغييره، أما القناعات فهي على رأي أميل سيوران quot;أكثر شرًّا من الأكاذيبquot;، أعني أني بلا قناعات ثابتة ومطلقة حول شيء في الحياة، صحيح أن لدي بعض الأمور المحسومة، لكن حسمها يتعلق أيضًا بجوهر الحياة وطبيعة استمراريتها وتغيرها ومستقبلها وأفق نموها، وربما لا أعرف إلى أين أمضي في كتابتي ولا حياتي، لكن هذه هي ضريبة المغامرة في الذهاب إلى المجهول ومواجهته، وراضٍ أنا بل ومولعٌ بالقلق والتيه الذي ينطوي عليهما أي غيب، وأحتقر كل طمأنينة وبلادة تنطوي عليها أية ذاكرة! نحن في عالمنا العربي والإسلامي، في هذا الزمن، نتخلف ونقتل ونكره ونجمد لأن نماذجنا وأمثلتنا الكبرى وراءنا، وكلما حاول أحدنا أن يشير إلى أن شيئًا ما هناك في الأمام، وأنه يمكن لهذا الركض نحو الأمام أن ينقذ لغتنا وأفكارنا ومصيرنا، حتى لو لم نصل إليه، كلما أطلقنا عليه تهمًا شنيعة ودبرنا لتصفيته اجتماعيًا وأخلاقيًا وحياتيًا!
أما بالنسبة إلى ما قوبلت به كتبي من الحظوة فأعترف أنها جميعها حظيت بحفاوات واسعة في الصحافة وما سواها من وسائل الإعلام، وكان للإرهابي20 وكتاب الوحشة نصيب الأسد، وكان لي التوفيق بالحصول على عروض الترجمة وخصوصًا للرواية، من أكثر من دار وأكثر من جهة وزمن... وفي هذا قليل من العزاء!

ما جديدك الروائي وقد تواترت الأخبار أنك انتهيت من عمل جديد؟
نعم انتهيت مبدئيًا من عمل، وأنا في مرحلة مراجعته ببطء قبل أن أدفع به للناشر، وهي ndash; إن كان ولا بدّ من التسمية - رواية مسرحها واحد من جبال هذا الكوكب، وتحمل بداخلها حكاية ملتبسة ما بين الغيب والواقع، ومحاولة لرصد طباع ذلك المجهول، وعمود الحكاية هي الأسرار التي لا نطمئن عليها في أوطاننا فنهرب بها إلى أقاصي العالم، وفيها أشياء عن حياة الليل والصباح، وبداخلها أيضًا منامات وشعر، ولوعات أكثر مسافةً وأبعد من أي رحلة أو رحيل. لقد بقيت زمنًا في كتابة هذا العمل، ولا أدري أي مصيرٍ ينتظره. بأي حال لقد بلغ هذا من العمر بحيث لا يمكن إجهاضه أو الاعتداء عليه.. كل ما أستطيعه هو الصبر على مراجعته وتأخره وثقله على كاهلي حتى يتزامن صدوره مع مطلع السنة القادمة!