جماليات اللوحة ووعي البصيرة المتسائلة


قراءة: عبدالله السمطي

1 ndash;
الهاجس التكويني هو الذي يهيمنُ على لوحات الفنانة غادة علي آل حسن، فهي تقتطع من مشهد الحياة الضاجة بالحركة مجموعة من المشاهد التكوينية المتجاورة لخلق مساحات من التأمل، وتدبر هذه المشاهد فنيا ودلاليا. من هنا جاء هذا العمل التشكيلي المتميز في لوحتين هما: quot; رؤى 1quot; وquot; رؤى 2quot; .
إن الرابط الهارموني بين اللوحتين جلي، فهما امتداد لبعضهما البعض، وعناصر اللوحة ومكوناتها هي نفسها في اللوحتين، ثمة تطابق بينهما، لكنهما تطابق متضاد أو على الأقل نما في أفق الصيرورة والتحول .
تتشكل كل لوحة من ثلاثة مشاهد متجاورة. هذا التجاور الأفقي ينم عن محاولة الفنانة تأكيد أمرين:
-الأول: جذب المتلقي ( المشاهد) إلى أن ثمة سردا تشكيليا يتجلى في اللوحة على اعتبار أن هذا التجاور، هو تجاور زماني أيضا لا مكاني فحسب.
-الثاني: طرح المكونات والعناصر بوصفها سؤالا يكمن خلف فضاء اللوحة الممتد.
في المشهد الأول على يمين اللوحة صورة لوجه إنسان تستهل به الفنانة لوحتها من اليمين، ثم تختتم بها اللوحة من اليسار، وما بينهما ستة أشكال مرسومة بعناية وفق تقسيم هندسي محدد على شكل مربعات. هذه الأشكال هي التي تمثل تيمات الرؤيا في اللوحة وهكذا في quot; رؤى 2quot; .
أول ما يبده في الوجوه أنها وجوه مجردة، بمعنى أن هناك عناصر مغيبة في هذه الوجوه الأربعة في اللوحتين، فهي وجوه بلا أفواه، كأن القدرة على الكلام ممحوة تماما، وهكذا الرائي في حال الغياب . إنه صامت متأمل. ألوان الوجوه مزيج من الأحمر والبرتقالي الداكن، هل هي طالعة من رحم الحياة، مجللة بالدم؟
يتغير المشهد عند منطقة الصدر. الصدر الذي يحوي أسرار الإنسان. فعند الوجه الأول يكنّ الصدرُ مشهدا فوضويا للخراب، وفي الصورة الثانية يكنّ صورة بناء، ربما قلعة قديمة فيما تدور أمامها معركة، ربما تشير إلى معركة الحياة.
في صورة الوجه الثالث وعند منطقة الصدر أيضا المشهد معتم، لا شيء يبين تماما أو يتضح، مع وجود بعض النقاط الصغيرة الوضيئة التي قد تنم عن أن ثمة ما يأتي للتغيير.
في الوجه الرابع .. المشهد مطفأ تماما.
العيون في الوجوه متأملة متسائلة مندهشة، منكسرة، الوجوه شبحية كأنها قادمة من فضاء الحلم. الوجوه والرؤوس مجردة من الشعر، الوجهان في اللوحة الأولى يلتقيان في النظر إلى الداخل، كأنهما يتأملان الحلم معا . الوجهان في اللوحة الأولى مختلفا الحجم. الأول أصغر نسبيا من الثاني، وهو أدق وأنعم، حيث العينان واسعتان، والتأمل رقيق، مع عنق طويل، وصدر ناعم. ربما هو وجه أنثوي، فيما الوجه الثاني هو وجه ذكوري، حيث الرقبة القصيرة، والوجه الممتلىء، والصدر القوي العريض. كأنهما يعبران عن الصيغة الإنسانية للوجود. كأن هذا التأمل في الرؤيا هو تأمل مشترك . وهو الأمر نفسه الذي نقرأه في وجهي quot; رؤى 2quot; .
تتحرك الوجوه في اللوحتين بشكل متباين. ففي quot; رؤى 1quot; يلتقيان كما قلت سابقا في النظر إلى الداخل، داخل اللوحة، كأنهما يسردان عبر البصر هذه المشاهد الستة المتجاورة في المربعات، فيما في اللوحة الثانية ينظران إلى الخارج كأنهما اطمئنا قليلا على ما تبدل وتغير بشكل وضيء من ملامح الرؤى الأولى.
فما هي الصيغة التي تجلت فيها هذه المشاهد الستة المتجاورة ؟ وما رمزيتها؟

2-

تنطوي المشاهد الستة في quot; رؤى 1quot; على جملة من الأشكال، فالشكل المستدير يرمز إلى الأرض، والمثلثات قد تومىء إلى بعض آليات تفسير الحلم في المخيال الشعبي، كما أن المشاهد تضم صورة طائر أبيض ميت ملقى، فيما إن صورة الأرض مثقوبة من المنتصف، هذا في الجزء العلوي من المربعات.
في الجزء السفلي الذي يضم ثلاثة مربعات نجد أرقاما متتالية ( 234 ) وسحبة فرشاة تأتي بشكل تلقائي تكرره غادة الحسن في عدد من اللوحات كإشارة أسلوبية متكررة تدل بها على لوحتها . ثم جزء من باب قديم، خشب مكسور، أيضا تكرره للتواصل مع لوحات أخرى لها، كأحد الدلالات الفنية والثيمات التي تتميز بها لوحاتها، ثم مفتاح ملصق في جسد اللوحة.
وتحاط المشاهد بجملة من الخيوط الانسيابية كأنها علامات تساؤل. كل هذه إشارات للحلم، ودلالات عن الرؤيا، وهي إشارات ودلالات تحتاج للتأويل أكثر.
في المشاهد الستة في quot; رؤى 2quot; نحن حيال صيرورة للتحول لمشاهد quot; رؤى 1quot; حيث الطائر الميت يصبح طائرين طليقين دبت فيهما الحياة، أحدهما يقف على الكرة الأرضية متأملا ناظرا إلى صخب الحياة وأحداثها. إنه ينشد السلام. سلام الأرض، فيما الطائر الثاني يقف في أريحية تامة متأملا أيضا . المشاهد الأخرى فيها جزء من خشب متكسر، وقصاصة صحيفة، وشكل لنافذة هلامية . وتنسرب أيضا بعض الخطوط التلقائية المتعرجة كأنها تومىء لعلامات سؤال.
اللوحتان المتصلتان دلاليا وشكليا حافلتان بالرؤى وجاذبتان للتأويل . في الحلم تتوحد المتطابقات، وتتعادل قيم الأشياء . في الحلم يتحول الرائي إلى متأمل لأنه يصغي لسرد الأشياء وتجاورها وتحولها. الإيقاع السريع والانتقال من مشهد لآخر هو من طبيعة الحلم، ذلك لأن الوعي واللا وعي يمتزجان، ويصبح هذا التنقل والتحول من مشهد مريع إلى مشهد جميل وبالعكس هو الصورة التي يكون عليها الحالم أو الرائي. تجاور مشاهد الرؤيا مع المشاهد الكابوسية هي صيغة سوريالية في الأدب والفن. من هنا فإننا لا نندهش كثيرا حين تجمع الفنانة في لوحتها بين المتناقضات، أو لنقل بين هذه المشاهد المتنافرة المتوحدة معا: طائر ميت، قصاصات صحف، مفتاح مهمل، باب خشبي مكسورة أطرافه، وجوه حادة متأملة بلا أفواه، صور للفوضى، أرض مثقوبة، ثم أرض مكتملة تقطعها في المنتصف إشارة للخليج. وهي إشارة ذات مغزى تنشد أن يعم السلام هذه المنطقة.
الأمر الأكثر إرهاصا في اللوحة . أن هذه المشاهد التي تضمها المربعات الستة في كل لوحة تجري على سطح الكرة الأرضية، فثمة استدارة جامعة خفية يلمسها المتأمل في هذه المشاهد. هذه الاستدارة تلملم هذه التكوينات الستة. فالخارطة الطبيعية تملأ منتصف اللوحة بشكل مستدير لتمتد إلى خلفية الوجوه المتأملة. كما أن الخطوط والألوان المستخدمة: الأحمر القاني، والبرتقالي، والأصفر، والأزرق تومىء إلى عناصر الأرض جغرافيا: البحار، المرتفعات، الوديان، الأغوار، كما أن هذه الخطوط المتعرجة التي تشير إلى التساؤلات في المربعات، ربما تشير ndash; بشكل رمزي أيضا ndash; إلى هذه الحدود بين الدول وقد تلاشت وأصبحت مجرد خطوط عابرة.

3-
تستخدم غادة الحسن ألوان الإكريلك الأكثر اكتنازا وتماسكا وصلابة، والأكثر ديمومة، ومقاس كل لوحة ( 50 x 180) وهو مقاس طولي يلائم تعدد المشاهد، والألوان الداكنة تطغى على معظم المساحة اللونية، الأزرق ببرودته والأحمر ( المحاصر بالبرتقالي والأصفر ) غالبان، مع درجات من ألوان أخرى، ثم الأسود الذي يمثل خلفية الوجوه.
دكنة الألوان، تقاطعها وتضادها، تعبر عن هذا الغموض الذي يكتنف مساحات الحلم والرؤيا، ومن هنا يصبح التأويل علامة أساسية في قراءة لوحة غادة الحسن.
وإذا علمنا أن الفنانة غادة الحسن تقوم في لوحاتها الأخرى باقتطاف جزء إشاري من المشهد الكلي، فهي بهذه الجزئيات تومىء وترمز دائما . فالابواب الخشبية القديمة بما تكنزه من تاريخ وذكرى وتراث لا تأتي مكتملة في لوحاتها بل هي أجزاء مكسورة . وفي هذه الرؤى نحن حيال عناصر ومكونات جزئية، ولكنها ذاتأبعاد دلالية متعددة.
وهكذا فإن quot; رؤىquot; غادة الحسن تطل من شرفات التأويل لتمنحنا يقظة دائمة متسائلة، تبحث في تأملاتها، عن يقين الإنسان، والأشياء، والوجود.