ماجدة داغر من بيروت: ربما كانت الرمز الوحيد الذي أجمع اللبنانيون على الإنتماء إليه، ولعلّه أجمل الإنتماءات. وربما كانت آخر نقطة ضوء للبنانيين في أظلم سنواتهم، فكانت الملاذ والعبور إلى قدسيّة النغم، وكانت الدفق والنبض والعطر لعاشقيها. لم يكن الصبح ليطلع من دون تقبيل صوتها، فصارت سيّدة الفجر الممتلئ بأوتارها، يرشفها مدمنوها في قهوة صباحاتهم مكمّلاً حياتياً ووعداً بصباح جديد. وصلٌ سحري يولّده صوتها مع الكون، فصارت الكون اللحني لمقتفي الفنّ النادر ولغة السماء. وصارت، تلك القامة، ملاكة الصوت وشاعرة الصوت وسيّدة الصوت.
فيروز... وتبدأ حكاية شغف. شغفٌ يطلقه quot;الفيروزيّونquot; اليوم في العالم، في بيروت والقدس والقاهرة وأوستراليا، وربما في بُقع أخرى إذا بقي صوتها سجيناً.
سيشهد السادس والعشرون من الجاري تحرّكاً سلميّاً يهدف إلى دعم السيدة فيروز الممنوعة من تقديم أعمالها إثر خلاف قضائي مع ورثة الراحل منصور الرحباني. quot;الفيروزيونquot; أو عشاق فيروز يتضامنون معها في خطوة رافضة لكمّ الصوت تبدأ في بيروت، في باحة المتحف الوطني تحت شعار quot;لا لمنع السيدة فيروز من الغناء، تضامنوا معنا في وقفات إحتجاجية عربيةquot;. وعلى الفور استجاب فيروزيّو العرب والعالم، ليدعوا إلى اعتصامات مشابهة في القدس والقاهرة وثلاث مدن أوسترالية هي سيدني وملبورن وكامبيرا تحت شعار quot;فيروزنا إلى الأبدquot;. وجاء في البيان: quot;إثر الحملة التي تعرضت لها المطربة فيروز وتمثلت في منعها من تقديم عمل مسرحي على مسرح quot;كازينو لبنانquot;، وبعد محاولة طمس إسم الفنان عاصي الرحباني والفصل بينه وبين شقيقه منصور، تنادى عدد من أصدقاء عاصي وفيروز في لبنان والعالم العربي والمغترب للاعتصام (...)quot; كما أصدروا ملصقاً يحمل صور فيروز كُتب عليه quot;لفيروز من قلبي سلامquot;، ووزع في الأوساط الفنية والثقافية.
فبعد الدعاوى القضائية التي أقامها أبناء الفنان الراحل منصور الرحباني، أسامة وغدي ومروان حول الميراث الفني لعائلة الرحباني، مُنعت فيروز بموجبها قضائيّاً من أداء الأدوار التي قدّمتها من تأليف الأخوين الرحباني وإخراجهما قاربت 25 عملاً، لأن والدهم شارك عاصي في وضعها. فكان أولها إيقاف عرض مسرحية quot;يعيش يعيشquot; على مسرح كازينو لبنان العام الماضي، ليعرضوا لاحقاً مسرحية quot;صيف 840 quot; للراحل منصور الرحباني، والتي شهدت جدلاً أيضاً حول كاتبها الحقيقي الذي قيل أنه عاصي ولكن منصور هو من وقّعها وعُرضت بعد وفاة عاصي، وهذا ما نفاه أنجال الفنان منصور الرحباني. ويبدو أن الخلافات حول الحقوق المادية بدأت قبل وفاة منصور الرحباني، حين قدّمت فيروز منذ سنوات قليلة مسرحية quot;صح النومquot; في دمشق، وبدأوا من حينها المطالبة بحقوقهم. فسلسلة الإنذارات القضائية ضدها بدأت في نيسان 2008 حين استلمت فيروز من المدّعي منصور حنا الرحباني دعوى قضائية مرفوعة أمام quot;المحكمة الابتدائية في جبل لبنانquot; تطالبها بدفع مبلغ مئة ألف دولار، وذلك لأن فيروز quot;قدّمت المسرحية في دمشق بمردود فاق ملايين ك

الدولارات، من دون الحصول على إذن من أحد مؤلفي وملحني المسرحيةquot; أي منصور الرحباني. ويبدو أن سبحة الدعاوى كرّت مع الأبناء لتصير اليوم أشهر قضية تطال أعظم رموز الفن في لبنان.
quot;غُيّبت فيروز ومُنعتquot; هذا ما قالته ابنتها ريما، وهذا ما تشهده الساحة الفنية التي تخلو من سيدة الصوت الممنوعة من إحياء أي حفلات جديدة. وبعد الضجة التي أثارتها هذه القضية، وبعد التحرك الذي ظهر من محبيها، تكلّم ورثة منصور الرحباني بعد ما سمّوه quot;الصمت الأخلاقيquot;، في بيان مفصّل حول القضية والتركة الفنية والحقوق شرحوا فيه وجهة نظرهم وما دفعهم إلى الاحتكام إلى القضاء ومما جاء فيه:quot; يحاول بعضهم أن يشيّع للرأي العام أن الدعاوى التي أقامها منصور هي من أجل منع فيروز من الغناء. إن هذا الأمر غير صحيح على الإطلاق(...) إلا أن ما طالب به منصور كان أبسط حقوقه التي تنبع من المبدأ القانوني المكرّس في المادة/6 / من القانون الرقم 75/1999 التي تحظر على أحد المؤلفين في الأعمال المشتركة أن يمارس بمفرده حقوق المؤلف بدون رضا شركائه ما لم يكن هناك اتفاق خطي مخالف وما يترتب عليها من حقوق، والتي ما كان منصور لينكرها على فيروز لو رغب في إعادة أحد أعمال الأخوين واستحصال على موافقة أصحاب الحقوق بشأنهاquot;.
فيروز الرمز الذي أجمع عليه اللبنانيون لقرون خلت، أصبح اليوم إشكالية يتداولها الوسط الثقافي والفني في لبنان. ففي كواليسه الكثير من الهمس حول قضية تمسّ مَن صَنع الهويّة الفنية اللبنانية، ومَن أوصلت هذه الهوية إلى العالم وإلى أعماقٍ يصعب الوصول إليها إلا من ندرة مختارة كالسيدة فيروز. وانقسام ظاهر في الوسط الثقافي بدأت طلائعه منذ خروج القضية إلى العلن، كثر يقفون إلى جانب فيروز لتحرير صوت quot;عصفورة الشجنquot; التي حررتهم من شجن مزمن، مطالبين بوقفتها وصوتها وأعمالها، وآخرون يساندون أبناء quot;سِلفهاquot; إما عن قناعة أو لمصلحة فنية ما.
أما نحن فلا يعنينا من كل تلك الضجة سوى حصّتنا من الصوت، فنحن اعتنقنا فيروز منذ زمن طويل، ووشَمَنا صوتها منذ زمن طويل، وسُكبنا في حنجرتها منذ زمن طويل، واستسلمنا وأدمنّا وعشقنا وطُوينا فيها... منذ زمن طويل!
فيروز لنا، للآه، لكونٍ يتّسع كلّما شدَت، فكيف للكون أن يصغر؟ نعيش زمن فيروز ولا تغنّي، شاعرة الصوت ممنوع أن تغنّي. حاجتنا إلى فيروز لها اعتبارات أخرى، مغايرة، مجرّدة، ولا نقيسها بما يجري اليوم مع أبناء الراحل منصور الرحباني والدعاوى القضائية الموجهة ضدها، والحقوق المادية المطالَب بها، بل بحجم ظمأنا وشغفنا واحتراقنا. فيروز لنا، للآه، للكون. أعيدوها إلى الصوت فالصمت لا يليق بمن جعلت الأرض تغنّي والسماء تنتشي. فيروز للغد آخر الأيقونات، رجاءً حرّروا quot;يعيش يعيشquot; وquot;موسم العزّquot; وquot;لولوquot;، وكل التركة الرحبانية، فهي أيضاً فيروزيّة... مثلنا.