جاء الصيف بتصور البحر، وأخذ الولد يسأل أباه عن الرحلة. وعدتني يا أبي بنزهة إلى شاطئ البحر. الأب المشغول يؤجل ما وعد به ابنه، يجيبه: حين أفضى من أشغالي المتراكمة، الأسبوع المقبل سوف آخذك. يمر الأسبوع المقبل. الوقت القصير الذي يملكه الأب لا يكفي لرحلة إلى البحر ولا لرحلة إلى بر المدينة. الأم تسمع سؤال ابنها الشبيه بالشكوى. لكنها مشغولة أيضا في أعمالها.
في أحد الأيام وعند الظهر، أنهت الأم فجأة أعمالها، أنهت ما تراكم بين يديها وشعرت أن لديها وقتا، لا تدري من أين جاء، كي تنفذ طلب أبنها في رحلة البحر. لا يستطيع أبوك أن يأخذك، سوف أفعل أنا، هكذا قالت. وقبضت ساعد ابنها تمضي به نحو البحر.
لم يسبق لها أن ذهبت وحدها، كانت ترافق زوجها أيام الزواج الأولى، ولم تكن لتنتبه إلى الاشارات التي تدل على طريق البحر. تبقى صامتة في الطريق، تحدق في عيني زوجها وتبتسم حين يداعبها، وتضع بين وقت وآخر رأسها على كتفه.
الطريق ليس طويلا، هكذا اعتقدت، ففي الأيام الأولى لزواجها كانت تمضي معه، وكان الطريق ينتهي بسرعة ويحضر البحر، أمواجه ومساحته لا تنتهي. تمد عينيها فتسطع الشمس، وتنتبه فتسمع هديره مثل خوار حيوانات تجمعت (تلالا عند ظلاله). تستمتع بصوته الأزلي الذي لم يتغير ولم ينقطع منذ بدء الخليقة. تصوري يا ناديا لم يسكت البحر منذ بدء الخليقة! هكذا زوجها يقول وهو يداعب الريح التي تعبث بشعرها. يلمسها فتشعر أن البحر هو من يداعبها.

الآن تأكدت أنها لا تعرف الطريق. وأن ما يبدو أمامها ليس سوى مساحات لا تؤدي إلى شاطئ البحر. شدت على معصم ابنها ونظرت إلى عينيه وإلى شعره الأسود. فسألها: هل تنظرين إلى شيء؟ هل سنصل قريبا؟!
سيظهر البحر حين نصل، هو الآن متوار خلف تلك المرتفعات. يجب أن نصعد التلال التي أمامنا. وخالجها إحساس أن الطريق إلى البحر قصير وسينتهي على حين غرة. قالت: يجب ألا نفكر بالطريق، سنجد أنفسنا وجها لوجه أمامه، أنا أعرف البحر! وهزت رأسها تؤكد ما قالته. لديها كما أدرك الابن خبرة وتجربة.

الطريق على مايبدو طويل، هكذا شعر الإبن فيما بعد، وأن أباه الذي كان يؤجل، كان يؤجل بسبب طول الطريق. لم يكن يريد له العذاب في معالجة المسافة التي ستصله إلى البحر. إن جاء البيت الآن ولم يرنا فيه يا أمي فماذا سيفعل؟! فأجابته: سيتصرف، ستكون هذه أول مرة لا يجدنا فيها بالبيت وسيتصرف. سيدخل المنزل الفارغ ويدرك أن الأم مع ابنها في مكان ما.
لكنه لن يخمن أنهما معا عند البحر.
صعدا المرتفع ووصلا قمته وتوقعا عندها أن يريا البحر، لكن بدلا من ذلك رأيا البادية تمتد شامخة لا يحدها أحد. فانتقلت النظرات بينهما تسأل: أين البحر؟!
تعرف بتأكيد لا يخالجه شك أن البحر في هذا المكان، في مكان تلك البرية الممتدة، البادية المتسعة، هنا، الشمس تتصارع وتتلاهب مع الأمكنة، والسراب يتحرك من دون بحر. أين البحر. صخور وأتربة ورمال تمشي على صحراء لم يمر بها بحر قط.
هل ضعنا يا أمي؟! وهو ينظر يمنة ويسرة لعله يرى أثرا لبحر أو لماء.
من على المرتفع كانت الريح تهب والسراب يبدأ والظلال تسقط. لا شجرة واحدة. صوت المرتفعات، ما وراء الصمت.
هل ضعنا يا أمي، لم يقلها لأنه شعر بقبضة أمه على المعصم وحزمها وثقتها، وأن البحر قريب وفي مكان يبعد خطوة واحدة عنهما.
نظر إلى عينيها وإلى شعرها الذي بدأ يلهو ويعلو مثل...، وتلمعّه الشمس، وتدفعه في كل الأنحاء. خصل سوداء، خيام، مرتفعات. ماهذا. في كل وقت. هناك. حين يضيع المرء يبرز تساؤل غامض عن المكان وعن الوجود، أين البحر، فالزمان ليس والحال في هذه اللحظة يعيش المرء أسراره/ الكون / خضم وانشغالات، وجها لوجه مع العالم الذي ينفتح مع أبوابه على أشياء لا يراها الواقع.
البحر ليس هو البحر؟
إصرار الأم وحزمها على أن البحر هنا- ومدت يدها تشير، بدأ القلق، هل أضعتُ الطريق؟!
تذكرت، أن رحلاتها مع زوجها كانت إلى هذه البقعة، في هذه البلدة، ولا يمكن أن تكون إلى مكان آخر. بعدما تزوجت لم تغادر بلدة البحر. وسمعت منه قصص البحر والحكايا ndash; لكن أين البحر الآن؟
هل هو في هذه الناحية؟ سأل الإبن الذي راح يظن أن أمه سلكت طريقا آخر.
نحن على أعلى مرتفع / أنظر خلفك سترى البلدة والأراضي المحيطة بها. إن كان هناك بحر فيجب أن نراه!
جاء الوقت الذي أصبح فيه وجه الأم شاحبا، القلق، ستساءل ذكرياتها. كأن رحلاتها مع زوجها لم تكن يوما إلى البحر. وتذكرت، ذكريات غامضة مريبة. لم تكن إلى البحر، بل، ربما، كانت إلى مكان آخر.
شحوب الأم وقلقها بعث الإحباط في عالم الإبن. هل صحيح. ليس صحيحا، أو، يقصد أن ما أراده لم يكن موجودا قط! ماذا يا أمي. كيف إذن حكيتِ لي عنه: ذهبتُ أنا وأبوك إليه ومشينا واصطدنا وسبحنا وتجولنا في القوارب ورأينا مرة سمك دلفين يقفز نحو الأعلى يرقص في الفضاء \ مطر...
الأم الآن- صداع، في كل مكان. تتذكر الزوج الذي يدخل المنزل ndash; حين يدخل لن يجدنا. هل حقا كنا نذهب نزهة ndash; أيام الزواج الأولى- شهر العسل- إلى البحر- نزهة؟
تتحدث إلى نفسها - تريده- وتستجوب أفكارها- هناك ظنون. هل- السؤال الأول- تعده حقا، سؤالا أول؟!
وراحت تروي قصة النزهة الأولى. كانت الشمس في المنزل وهناك سخونة وقال لها افتحي النافذة، لكن الحرارة تقفز مثل جريمة تملأ الغرفة، وعلينا يا زوجي أن نذهب إلى مكان بارد. فخطر في باله البحر، لماذا البحر، ليس بعيدا تحضري يا حبيبتي ثم حملها على كف حنان وذهب. وهي ذابت ndash; حديدها انصهر أمام كلماته وعيناه حين تنظران نحو وجهها - جلال وغمام، هل أقرأ لك أكثر، ثم استدارت إلى ابنها تكمل الحديث كي تجد أن الإبن لم يعد بين يديها أو في قبضتها، بحثت، ربما، وراءها، أو، هنا، أين صغيري. صداع، كان علي أن أحمل حبوب وجع الرأس- الشقيقة. رأسي ينقسم إلى نصفين ولا أعود أملكه. كان يجب ألا أنسى حبوب وجع رأسي.
غطت وجهها براحتيها ودلكت المكان فخرج رمل وبعض الرطوبة. مكان لا قرار فيه، من أين جاء، من أين ظهر، بزغ من دون أن تدري، شمس ما ورائية، عامل الطبيعة / التجلي. يا زوجي ماذا تفعل وحدك في البيت، بماذا تهجس الآن، هل في البيت سخونة، افتح النافذة.
فتحت عينيها وصدقت أنه- لم يكن- ثمة بحر في هذا المكان، هل ترى ما أراه، ماذا أفعل، أغرقني حبك أول الأمر!


[email protected]