علي النجار من مالمو:ان كانت للشعوب ذاكرة، وهي كذلك، فهي وبكل تأكيد تبقى يقظة ومتشعبة المسالك، هي ذاكرة تتوزع ما بين أنشطة فطرية وعقلية معرفية واجتماعية متعددة. قد تتشضى أو تضمحل أو تتوسع بعض من دوائرها المعرفية الثقافية بتقادم أزمنتها. لكن، سوف يبقى للفطرة مقام خاص ضمن هذه المسالك، كونها كانت وما تزال تسكن في العمق من ثنايا الطبقة العميقة من مكونات الجينات الإنسانية، أو بذرتها الأولى. وهذا ما تشهد عليه انبثاقاتها المتعاقبة طوال حقب التاريخ المتتابعة وحتى يومنا هذا. وان تسربت بعض من مكوناتها الوجدانية (التعبيرية الافصاحية) عبر دروبها المتعاقبة، فان ما ترشح منها لعصرنا الحالي يبقى شاهدا على عدم إمكانية اندثار هذه البذرة، رغم كل ما تعرضت له هذه الفطرة من اختراق التحولات المحيطية المتثاقفة والمتبدلة المتسارعة عبر كل العصور وصولا لعصرنا الحالي. فبذرتنا الإنسانية الفطرية الأولى لم تزل حية. وهي إذ تتقمص بعض من ذواتنا هنا وهناك، فليس الأمر بالنسبة لها اعتباطا بقدر من تحقق شروطها ضمن محركات هذه الذوات الوجدانية الحاضنة.
في زمننا العربي الحديث، وما اخصه هو الحداثة المدونة أو المنقولة منذ بداية القرن العشرين، أو ما بعد الحقبة العثمانية تمييزا عما قبلها من الأزمنة الأخرى. والتدوين هنا هو افتراضا القاسم المشترك لهذا الزمن العربي. لما لذلك من علاقة وثيقة ببحثنا. الذي اعتقده ان منجز الفن الفطري العربي اخذ اتجاهات عديدة ضمن مساحته. اتجاهات أو اختلافات ارتهنت بالجغرافيا الحضرية أو المدنية، وبالواقع الاجتماعي والمتغيرات السياسية. مع الأخذ بنظر الاعتبار التمايز ما بين الفن الفطري والفولكلوري ومنه الصناعي و ألتزييني وصلته بمواد التدوين من أحبار وأصباغ وخامات أخرى، وما تبع ذلك في أوقات احدث من استخدامات للمواد الصباغية الصناعية الغربية. ومن اجل الإحاطة ولو بشكل مختصر بواقع الفن الفطري العربي لهذه الحقبة الزمنية. ارتأيت معاينة ثلاثة نماذج لفنانين فطريين من ثلاث دول عربية وهذه الدول هي العراق ومصر وبلاد المغرب.
(منعم فرات) ولغة الصخر: الحجر التعليم
من أشهر فناني العراق الفطريين، وأوضحهم أسلوبا تتمثل في منحوتاته سمات بلاد الرافدين الفنية التنقيبية المعروفة عبر حقبها المتعددة. اختار كما أسلافه السومريين والآشوريين مادة الصخر مجالا لإنتاج منحوتاته. ولهذا الاختيار عوامل عديدة منها توفر هذه المادة وسهولة حصوله عليها. ولمألوفة المنحوتات الأثرية في عموم العراق. سواء ما متوفر منها في متحف الآثار العراقي الحديث النشأة وقتها، أو في المواقع الأثرية العديدة التي تغطي مساحة رقعة هذا البلد الجغرافية. وإذا ما عرفنا بان منعم جرب النحت على الحجر وأنجز رأس إنسان واستهوى هذا العمل منذ عامه الثامن عشر ( في عام 1918). في تلك الحقبة الزمنية التي كان فيها العراق يفتقد حتى إلى التعليم الابتدائي إلا ما ندر، وكانت الكتاتيب التي تحفظ القران هي السائدة في أزقة بغداد وبقية المدن، كما كان الخطاب القرآني وملالي الخطب الدينية وقراء ومستطلعي الحظ والتنجيم ( فتاحي الفال) لهم النصيب الأوفر من حصة الثقافة الشعبية السائدة. ولم تكن ثقافة فناننا إلا بعضا من هذا التحصيل المعرفي الشعبي. وان كان يتماها وشقه الديني المحاذي لمنطقة التصوف المحلي. فقد كان الخطاب الديني والتراث العربي بشقيه ألمديني واللا مديني (الريفي والبدوي) يسيطر على ذاكرته. ولم يكن نتاجه ببعيد عن كل ذلك، بل كان تفسيرا لواقع أو مخيال ورموز ذلك التراث مترشحا عبر غربال تفاصيل هذه الثقافة الشعبية لبداية القرن التاريخي. وما منحوتاته بمجملها إلا تمثيلا لمحنة وجدانه ورهافة أحاسيسه.
(الأحجار منذورة لي)، هذا ما كان يردده (منعم فرات) دوما. وللنذر أصل سحري بالمعنى المجازي. والسحر الذي يسلطه منعم على أعماله ذات الهيئات المركبة هو خليط من مركبات ذهنية ذات مرجعية تاريخية واجتماعية عاش أزمنتها، هو المتلبس سحرا غابرا و المتسربل أخلاقية فروسية عربية نادرة، وكما دونته ابنته لاحقا ( عاش ومات وحيد منعزل فريد ومؤمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لا يحسد أحدا ويكره التزييف (الزيف) والحيلة والغش والفتنة قليل الكلام والضحك يخاطب الله في كل وقت لماذا ذبح هذه الحيوانات الأسيرة الضعيفة ولم لا تحلل ذبح الحيوانات المفترسة، يكره الحرب ويقول لماذا تزهق الأرواح لولا الطامعون لا يشرب الخمر ولا يلعب القمار (1)) وما يهمنا من مقتطف هذه السيرة على أهميته هو ما ورد فيها من مفهوم أنسنة الحيوان وبقية المخلوقات، الذي تمثل على أوضح ما يكون في معظم منحوتاته أو احفوراته. بما ان أعماله النحتية منفذة بواسطة الحفر والكشط والحز وبما يوازي تعرية سطوحها من زوائدها التي تغلف أو تطمر رؤيته المشهدية لمجاميع كائناته الإنسية والحيوانية. أو اختلاطاتهما معا في نسيج واحد، أجسادا وملامح متبادلة أو متكافئة الأدوار أو الأداء الأسطوري. بما ان الأسطورة هي عنده فروسية أخلاقية، حاضرة هنا في شقيها الواقعي والخيالي. وان كانت المنحوتات الأثرية العراقية مغرقة بتفاصيل مثقفة (وعيها الزمني وإغراضها الدينية والدنيوية (2)) فان اختلاف أعمال منعم عنها يكمن في عمق الإفصاح عن فطرته وهو الذي صان سجية هذه الفطرة طوال دروب عمره. وعن ابنته مرة أخرى (أرسلت الوزارة ـ تقصد وزارة الثقافة العراقية وفي وقت متأخر) منعم إلى طبيب العيون يفحصه ويسأله فقال للطبيب أنا لست طيارا ولا مدفعيا. أنا نحات والحجر قريب مني (إلي) أنت طبب نفسك وخرج).
ربما للأحلام دور مهم في إخراج منحوتاته. فان كانت الفطرة حلما سكن الذات الإنسانية يوتوبيا منذ الأزل. فإنها كذلك خاضعة للضمور أو الظهور، ربما بسبب من محفزات ظرفية. وان كان في الإمكان تجسيدها، فإنها تجسدت في أعمال هذا النحات الفريد. فكل منحوتة مستقلة من منحوتاته تمثل حلما سكنه في لحظة ما.
وان كان قد عاش حياته الحلمية نذرا مستحيلا. فان سحر هذه الأحلام سوف يكون شاخصا كما هو سحر الدمى السومرية. وان جازت المقارنة بينهما فهي جائزة بحدود مبثوث نواياها الحلمية الأسطورية وبملامحها الرافدينية وبمحركات حاضنتها الطينية. وما الاختلاف إلا في حدود نوايا الفنان. وان كانت منحوتات منعم تندرج ضمن مساحة الفن الفطري، فإنها شـأن أعمال سكان استراليا الأصليين (الأبرجينيز) تبقى محافظة على خصائص تفردها بدلالاتها السحرية وبمحمولات تفاصيل كائناتها المؤنسنة، كما أنها تشكل استثناءا بين بقية أعمال الفنانين الفطريين العراقيين لوضوح خطوطها الأسلوبية رغم صغر أحجامها و ميزة كتلها النصبية الواضحة.
مع استثنائنا للرسوم العراقية الفطرية التي أخذت منحا مغايرا عن عموم الرسوم الفطرية العربية. كونها، وخاصة في منطقتي الفرات الأوسط والجنوب، تميزت بالاشتغال على تشخيص الرموز الدينية، وعلى الرسوم التمثيلية لوقائع تاريخية دينية أيضا، وبتأثيرات مشرقية فارسية، ومغربية عربية (جغرافيا). كما الاختلاف في أحجام هذه الرسومات والتي تقارب مساحات اليافطات الإعلانية، سواء مثلت حدثا مفردا أو سلسلة أحداث متعاقبة. ولكثرة تكرار تفاصيلها واستعادتها، فإنها شكلت حدثا فولكلوريا شعبيا واضح المعالم وقابلا للاستنساخ إلى ما لا نهاية. كما ان معظمها ابتعد عن الأداء ألمسندي للوحة الرسم. لذلك بقي النتاج النحتي الفطري هو الأبرز في هذا المجال في العراق. مع استثناءات نادرة. ربما يرجع سبب انحسار أو شيوع نمط الرسوم الفطرية العربية المتقاربة الخصائص في العراق، هو اكتفاء الذاكرة الجمعية العراقية بهذا الأداء النحتي والرسم الديني المشرقي. وان تكن لم تختلف بشكل مطلق عن بعض النماذج الملحمية لبلاد الشام ومصر على سبيل المثال. لكنها تبقى متفردة في إخراجها ونواياها الثقافية ومرجعيتها التاريخية الخاصة.
(*)ـ الجزء الأول من مقال نشر في كتاب الفنون الفطرية في التشكيل العربي، نشر دائرة الثقافة والإعلام، دائرة الفنون، حكومة الشارقة. 2007
(1)ـ موقع الفن العراقي:سيرة منعم فرات بقلم ابنته.
(2)ـ نفس المصدر السابق.
التعليقات