محمد الحمامصي من القاهرة: يشكل البعدان الإنساني والثقافي تجربة الفنان التشكيلي مجاهد العزب، ليضفيا خصوصية على أعماله في مختلف مراحله، حيث ترتبط ارتباطا وثيقا بتقلبات حياته وعلاقاته وحضوره داخل الوسط الثقافي، وكذا بمرجعياته الثقافية ورؤاه، الأمر الذي لم يمكنه من تطوير تجربته فقط بل حقق له رؤية نقدية تتابع عن كثب حركة الفن التشكيلي المصري والعالمي.
قدم مجاهد العزب العديد من المعارض الخاصة والمشتركة منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الآن، كما رسم للأطفال وصمم أغلفة عشرات الكتب، إضافة لقراءاته ونظراته النقدية التشكيلية التي ينشرها هنا وهناك في الصحف والمجلات.. وفي هذا الحوار معه نتتبع التجربة والرؤية لنتعرف جوانب مضيئة من عالمه.

** البدايات الأولى تشكل ملمحا أساسيا في رؤية الفنان المستقبلية، فهل لك أن تلقي الضوء عليها؟
** البدايات البعيدة كانت مع مدرس التربية الفنية، أول من فتح لى أبواب المعرفة، رجل موسوعي لا يتوقف عند تدريس الفن والأشغال، لكنه يتعداها إلى تدريس اللغة العربية والشعر والتاريخ، مازلت أذكر اسمه حتى الآن quot;أحمد نبيلquot;. هو أول من نبهنى إلى قدرتى على الرسم ومدنى بالمزيد من الأوراق والأدوات وألوان المحترفين حين علم بفقرى وشكوة أبى رحمة الله عليه، وهو أول من جهز لى وحدى معرضًا سنة 1962 وكنت فى بدايات مراحلى التعليمية، لتستمر بعدها الرحلة الجادة. ثم جاءت فترة الحماسة الوطنية منتصف الستينات ومجموعة شباب الحي، ورسوم الحوائط ومداخل البيوت بالأصباغ وزهرة الغسيل الزرقاء، وحرية انتقاء المكان والمساحة والتعبير وانطلاق الرسم. ثعبان ضخم وفأس يشق جسده أو يقطع رأسه ووجه عبد الناصر: تسقط الإمبريالية، الموت لإسرائيل وعملاء إسرائيل، الموت للصهيونية، وانهزمنا. بعدها كانت معسكرات الطلائع ومنظمة الشباب 1968، ولأول مرة أحس مكانة وتقديرا وقيمة ذات، حين طلب منى إعداد صورة بالحجم الطبيعى لزعيم مصر وقائد ثورتها جمال. نفذتها بقش الأرز المضغوط على قماش القطيفة الأسود. قبلها لم أكن قررت دراسة الفن واتخاذه طريقا وحياة، لكن بعد هذا التاريخ الفارق وتعرفى على العديد من أهل الفن والموسيقى والكتابة والحرف والشباب التقدمى وتشجيعهم، اتخذت القرار. لكننا فقراء لا نحتمل تكلفة الدراسة وشراء الأدوات والخامات، إضافة لرفض والدى الفكرة من أساسها وعدم اقتناعه بها، بعد جهد وغضب وإحباط وتدخل الأقارب، عدلت الفكرة ودرست الميكانيكا كما أرادوا، لكنني لم أضيع فرصة كى أرسم وأتابع.

** ثم ماذا؟ كيف وجدت الطريق إلى عالم الفن؟
** عملت في أماكن كثيرة وصناعات يدوية وحرف، كبقية أبناء جيلى المحبين للعمل كى أجنى بعض مال يعيننى على شراء الخامات واللوازم حتى عام 1974 وأول معرض مشترك مع مجموعة الأصدقاء وتأسيس ورشة الفن بحلوان. الآن وجدت مكانى وحرية الانطلاق والتعرف على الأساتذة وأهل الفن عن قرب والتعامل معهم والتحرك بتوجيهاتهم. ثم قررت الانقطاع عن العمل والوظيفة والسفر إلى المجهول، إلى دراسة الفن ومتابعته. من وقتها كانت بداية الاحتراف وحتى الآن.

** يبدو أن البدايات لم تكن سهلة؟
** لم تكن حياتنا سهلة يسيرة عامة، فبعد سفر ورؤية وتعلم عدت إلى القاهرة، لم أجد عملا وأصبحت عاطلا لا دخل لى ولا مورد رزق فترة طويلة، أو هكذا كان شعورى بها فسافرت إلى بغداد العراق 1979 بحثا كغيرى عن مورد رزق جديد، ولحسن حظى أو لمشيئة القدر أجد نفسى وسط جمع من المثقفين والكتاب والفنانين العراقيين والعرب الذين سمعوا بى وبعضهم كان لديه فكرة عن البدايات وكيف أصبحت. كانت بغداد بيتا للغرباء وقتها، نتبادل المعارف والخبرات وكنت ألحظ تقديرا خاصا للفن المصرى والعراقى على حد سواء، هناك عرفت فنا عميقا ضاربا وله جذور كما لنا هنا من جذور اتاح لى فرصة العمل من جديد وإثبات قدراتى وما تحصلت عليه من علم، فالفن وجود وعمل متواصل وجهد ومتابعة. حتى عام 1980، ولظروف خاصة بعائلتى وعدم رغبتى فى مواصلة التواجد ببغداد وسط المراقبة وقيد الحريات، عدت إلى القاهرة مرة ثانية بعد إنجاز لا بأس به وعلاقات فى كل اتجاه لأعيد البحث من جديد عن فرصة عمل. تضيق الدنيا كعادتها مع أمثالنا ولا أجد مفرًا من العمل فى تخصصى القديم quot; التصميم الميكانيكى quot; بمصانع الصلب. لكن القدر يخطط لك دون أن تدرى، فأقع على مجموعة من الكتاب والفنانين المتحمسين وقد علموا ما أنا عليه، فنشكل جماعة جديدة تضم مختلف الاتجاهات والاسماء المتحققة ولها انتاج ثقافى معروف، وتستمر الحياة.

** هل أفدت في معارضك من زخم تقلبات هذه الحياة التي عشتها؟
** كنت في كل معرض أصب خبراتى التى توصلت إليها مع محاولة تقديم عرضًا دراميا يحمل حالة واحدة، مع تراتبية تجريب إما فى الرؤية أو فى الخامة أو فى التناول والإخراج ووجهة النظر. لا يشغلني توجه بعينه أو مدرسة متعارف عليها، فقط أعمل بلا كلل إلى أن أصل إلى قضية ما أو إحساس ما فأبدأ فى الاتجاه إليها متخذا ما يلزم من أساليب وتقنيات، كلها تطرح تساؤلات لا إجابة لها عندى على الأقل، فأنا ابن لسؤال دائم حول الإنسان المعاصر وما يحيطه من مشكلات.

** هل لك أن تضعنا بين العام والخاص في تجربتك؟
** لا أعرف الفرق بين العام والخاص، لكن ما يدهشنى حقًا هى حالة الرضا والاستسلام رغم كل هذه المعاناة الإنسانية، وكذلك حياة البسطاء من الناس الشعبيين فى الحارات والأزقة والقرى البعيدة. أؤمن بمقولة quot; هنرى ماتيس quot; : بأن الفنان مجموعة من الأحاسيس والمدركات يحولها إلى أشكال ذات دلالة، فأتحرك من خلال مدركاتنا ومحيطنا البصرى وتاريخنا الممتد. كما أؤمن بحتمية وجود جسور واضحة وتواصل دائم بين الفنان ومتلقيه مما يجعله قادرا على فهم العمل الفنى وتعاطيه والتحاور معه، فالفن ليس طلسما منغلقا، فلا أبتعد كثيرا عن مدركاته البصرية وما يراه فى الواقع المحيط. حتى الألوان، فهي خليط آنى ولزوم ما يلزم لتوصيل المعنى، ألوان قريبة متفاعلة مع الحس الشعبى وما تعارف الناس عليه.

** هذا التواصل الذي مارسته تجربتك الفنية في ظل واقع يزداد تناقضا وإحباطا كيف مكنت لها الاستمرار والتطور؟
** الفنان يقاوم كل ما هو سلبى راكد، ولا ينظر إلى الخلف متمنيا التقدم والانطلاق، والسعي إلى كل ما هو جديد مدهش. هو متمرد بطبعه، يطارد إحساسه بالقهر والاغتراب وأحلامه لا تعرف التوقف أو الهدوء والانبساط، مفزعة قلقة. كل ما فى داخله يدعوه للثورة إينما ذهب، مع احتفاظه بكل الصور والمعانى من الخيابات والاحباطات وحتى الانتصارات، يستعيدها وقت شاء أو قل تلح عليه بين حين وآخر لتقض مضجعه وتتشابك معه، لا تتركه ولا يستطيع الخلاص منها مهما حاول. ليس على المستوى الشخصى الذاتى فقط بل هى تتحد والعام اتحادا يصعب التفريق بينهما، لذلك تراه قلقا متوترا وبلا هوادة.

** هل تبعت أو تتلمذت على يد أساتذة أو مدارس تشكيلية بعينها؟
** لا أحب العمل تحت أى ضغط، محبا للظل مفضلا أن يتحدث العمل عن نفسه، مستفيدا من وجودى وسط الناس. فالفن باب واسع للحرية وسيظل. لا أتبع مدرسـة بعينها، فقط أسعى لترك أثر كما علمنى أساتذتي، فالفن : فعل ذات يراد به إحداث أثر أيًا كان هذا الأثر. أستفيد من خبراتى ومعملى وخبرات من حولى ومعلمى الأول والأخير هم البسطاء. خاماتي فقيرة إلى حد بعيد. أميل إلى العمل الجدارى الصرحى و أستمتع به وأظنه فرصـة مفتوحـة لا تنتهى لمزيد من الخبرات والجرأة وامتلاك الأدوات والخامـات، كما أنه يفتح أفاقا رحبة لإعمال الخيال وإحكام البناء التشكيلي.

** هل أفدت من العمل في التصميم الميكانيكي في أعمالك خاصة الجدارية؟
** نعم، لقد أفادني العمل فى التصميم الميكانيكى لمعرفة كيف أقيم صرحًا وكيف أخلق علاقة بصرية هندسية بين الفراغ والكتل، كما أفادني فى تصور المساحات الواسعة وعمل التكوين اللازم والتآلف بينهم، فتعددت أعمالي الجدارية لشركات قطاع الأعمال العام وعدد لا بأس به من الأماكن وشركات السياحة. أكثرها مجانية بحكم وظيفتى التى كنت أحصل منها راتبى الشهري.

** وماذا عن العمل بالرسم الصحفي ورسوم الأطفال وتصميم الأغلفة وغيره؟
** في عام 2000 تركت العمل فى القطاع الحكومى وتفرغت تماما للفن، لا أفعل شيئا غيره سواء بالكتابة النقدية والرسم الصحفى ورسوم الأطفال أو بالرسم وإقامة المعارض أو بإلقاء بعض المحاضرات هنا وهناك. أقتات من عائد تصميم الكتب والأغلفة، ولا يحزنني عدم رواج الفن فى مصر، بل أنني أجد عذرا لرواد قاعات العرض، فيكفيهم ما هم فيه من أزمات إقتصادية وصعوبة حياة ومشقة الحصول على موارد تكفى بيوتهم، ولا مانع عندى ــ أيضا ــ أن أطبع كتابى على نفقتى وأوزعه مجانا، ليس لغنى أو مقدرة وسعة فأنا أعيش حد الكفاف، لكنها القناعة بوجوب المساهمة والمشاركة التفاعلية كما أفادنى أساتذتي، فمنهم من ساعدنى بالمال على شراء لوازمى وخاماتى وقت كنت لا أجد مليما.

** ألم تتأثر بالمدارس الأوروبية في الفن خاصة بعد هذا التطور في تجربتك؟
** ما يقدم في أوروبا والغرب بشكل عام من فنون وغيرها من أبداعات يخصهم وحدهم، أما أنا فلى منتجى وتراثى الفنى التشكيلى الكبير عميق التجربة، ولدى أيضا من التقنيات ما لا يستطيع فن آخر أن يقدمه. مراحل مرور الفن المصرى عبر تاريخه ونموه اكسبته خبرات مدهشة فى ما ورائية الفن وفلسفته، ولا أزعم كذبا حين أقول أن الغالب الأعم من فنون الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الآن تعتمد إعتمادا كليا على تقنيات وأساليب ألفها الفن المصرى من قرون ما بين فرعونى بمراحله وتطوره إلى رومانى ثم قبطى ثم إسلامى اللهم إلا سنوات الانحطاط التى أحدثتها دولة المماليك الأولى والثانية ودولة الخلافة العثمانية حتى العصر الحديث. كلها فنون لها جذور وخلفيات ثقافية عميقة وتحمل منهاجا ورؤى كما تحمل أساطيرها التى تعجز العالم عن اللحاق بها. فلا أستفيد من الغرب ــ على المستوى الشخصى ــ سوى ببعض من تكنولوجيا المواد والخامات والأدوات وما يتبعها من تقنية أداء، مفضلا الغرق فى الداخل ومتابعة البناء على ما سبق من فنوننا.

** هل تميل أو تفضل خامات على أخرى أثناء العمل؟
** لا أميل إلى خامة بعينها وكل خاماتى المستخدمة هى نتاج تجاربى وتحاورى معها ومدى قدرتها على التعبير عما أريد طرحه وأعتمد الخامات البسيطة مستزيدا بجديدها عند أهلها من الحرفيين والصناع وأهل المهن الشعبية. حتى الإطار الخارجى للوحة أنا صانعه وأظنه عاملا أساسيا فى التكوين البصرى وليس الجمالى فقط، إذ لابد من وجود علاقة عضوية بين اللوحة وإطارها. لا تقف لوحاتى عند حدود الإطار الخارجى بل تتعداه، وكأنها تفصيلة قد أقتطعت من مشهد كامل كان يجب الاطلاع عليه والتفاعل معه. هي دعوة للتفكير والتأمل، لا استخدم الفرشاة وأعتمد أصابعى ويدي، وأحيانا أستخدم اساليب الطباعة بترتيب وضع الألوان والإزاحة والحذف والإضافة كما لو كنت صباغا حرفيا.

** الفن التشكيلي أصبح فنا نخبويا في مصر، لا تتذوقه الأغلبية وترى فيه شخبطات باختصار هي بعيدة عنه؟
** الناس تركض طوال يومها خلف قوتها واحتياجاتها، والفن أيضا يعجز عن التواصل معهم بسبب الفنان وتغريباته، بمعنى أنه جاء وقت وأصبح فيه الفنان متعاليا على الناس ليس متلاحما وقضاياهم اليومية. ابتعد الفنان بفنه عن أن يكون فنا شعبيا، وأظنها عيوب النخب جميعها، وكلما تابعت فنون العالم تظل تبهرنى المدرسة المكسيكية مثلا ودرجة إقترابها من الطبقات الشعبية وحضورها فى الشوارع والميادين وفوق جدران البيوت والمحال التجارية حتى أصبحت ضرورة حياتية لا غنى عنها، وهذا ما كان عليه الفن المصرى من قديم. الآن انفصل الفن عن الناس هنا فأنفضوا عنه. ثم أن الخلل الثقافى والانحطاط المتعمد مع غموض الفن الحديث وطريقة تناوله المعيبة والاستسهال وعدم وجود النقد الحقيقى المبدع، كلها عوامل دفعت إلى الابتعاد والنفور.

** حدثنا عن الحداثة وعصرنة الفن وغيرها من المصطلحات التي تتردد هنا وهناك في المعارض والمهرجانات التشكيلية والكتابات النقدية دون أن يستوعبها الكثيرون؟
** دعني أصارحك، حكاية عصرنة الفن هذه بها الكثير من الالتباس وخلط المفاهيم وخداع العقول. الكل يقول بالحداثة وما بعدها مثلا ومواكبة فنون العالم، نعم الفنان ابن عصره لكن السؤال: عصره أين ؟، هنا أم هناك ؟!. كذلك ما نتحدث عنه كثيرا وما نحن بصدده الآن حول عولمة الفن ثم مقولة أخرى تؤدى نفس الغرض لكنها فضفاضة هلامية quot; الأصالة والمعاصرة quot;، كلها خالية المعنى ولا تؤدى إلى شىء يمكن البناء عليه، ففرق كبير بين مفهوم الحداثة والمعاصرة وما يتم تحت لوائها من استهانة وانغلاق وطلسم، وفرق آخر مهم بين طرح مفهوم الأصالة والمعاصرة وما يجرى من استنساخ واجترار الأفكار القديمة بأساليب جديدة مستحدثة. العديد من الفنانين للأسف لديهم مغاليق وتوجهات فكرية وأداءات سطحية يصعب فهمها حتى على أنفسهم، والكثير من النقاد الآن لا يقومون بما يجب أن يكون عليه الناقد من فهم ووعى وابداع نقدى وربطه بالثقافة الشعبية ومدركاتها، وأظننى قلتها مرارا ولا أمل : النقد هنا إما مجامل سطحى أو قديم رث لا يستطيع مجاراة المستجد إلا من رحم ربى ولهم كل الاحترام والتقدير، لذلك دفع ضعف النقد وندرة الجاد منه إلى مزيد من الجرأة والاستسهال التى وصلت إلى حد التبجح بالفن.

** بشكل عام كيف ترى لارتباط الفن التشكيلي الفن بمتلقيه عامة؟
** لا بد وأن يكون مرتبطا إرتباطا وثيقا بقاعدته الأساس وهى الناس، ليس بالمعنى الفج الذى أطلقه السماسرة وتجار السقط quot; الناس عايزه كده quot; بل المقصود هنا هو وجوب وجود مساحة إلتقاء وبناء جسور الوعى بين الإبداع والتلقي، فالفن ثقافة، والثقافة تداول وتبادل أفكار ورؤى ومفاهيم وإعداد. هو حوار دائم بين كل أطراف اللعبة، لأنك حين تعد هذا الفرد لتناول الثقافة لا بد لك من حزمة عريضة من مقومات هذا الإعداد، فأين التعليم مثلا ؟، وأين المجتمع وأولوياته ؟ وما علاقته بالتشكيل والفن البصرى عموما ؟. لا شىء !!

** الإبداع والتلقي وجهات نظر تختلف وتتفق لكن بالنهاية تقدم مساحات فنية جمالية ما رأيك في علاقة التعليم المصري بالإبداع، ومن جانب آخر دور البعثات الخارجية؟
** كما نقول دائما : بأن الإبداع وجهة نظر، فالتلقي أيضا وجهة نظر ورؤية. ربما لا تتشابه أو تلتقى بالتوافقية مع الإبداع، بل هى كذلك فى معظم حالاتها. هى خط ممتد على نفس الاستقامة مواز للإبداع وفى الغالب هى التى تحدد أثر الإبداع وصداه وجودته. المسألة تتلخص ببساطة فى طرق التدريس فى المراحل الأولى، ولا أتصور مثلا أن يدرس الفن من خلال قالب معد سلفا كما يعد درس الرياضيات مثلا وتحدد الأفكار فى مسـاحات تعبير ضيقة كالتى تعتمدها مناهج التدريس وحصص التربية الفنية، كأن نقول للطالب ارسم كذا وكذا ولا تخرج عنه فى موضوع تعبيرى عن السوق والزحام، وكنت اندهش من تقييم أقل حين يرسم الطفل أكوام القمامة وبقايا الثمار وتهافت الكلاب الضالة عليها، وهى جزء أساس من الحالة الكلية للموضوع التعبيرى. نقول كذلك أن هناك عيب شديد فى مجموعة الأساتذة الذين أتوا بما ليس منا. العلوم الإنسانية تدرس فى مكانها وبيئتها وبين أهلها، وكل مجتمع له علومه المتولدة منه، فكيف يدرس الفن خارج جماعته ؟. أنت تريد إرسال بعثات إلى الخارج لدراسة الفن فيأتى بعدها الدارس بالمستغرب من الأفكار والرؤى والقناعات بل زاد عليها أن حمل معه فى عودته بعض أفكارهم التى تحط من قدر فنوننا وتقلل منها، فالغرب هو صاحب المقولة الشهيرة : quot; الفن المصرى فن بدائى ضحل quot; !!. ولا نعيب دراسة الخارج لكن كان يجب عليهم تحصيل جديد التقنيات وكيفية تطويع التكنولوجيا وتطبيقاتها وما هى الأدوات والخامات والمستحدث منها، وكلها تفيد الفن ولا تهدمه.

** هل تتابع الفنون الغربية وكيف ترى لتأثيرها وسعى البعض لغرسها حتى باتت الكثير من الأعمال تغريبا؟
** نعم، علينا أن نفهم الفن الغربى وفنون العالم كله ونتابعها عن كثب، لكنها ليست حاكمة وليست نموذجًا أولى بالإتباع. عندما نتحدث فى الأدب مثلا عن التفكيكية والبنيوية. هما مبنيان أصلا على نظرية فلسفية هناك، أهلكت بحثا وتنظيرا ونقاشا مريرا وطبقت فى علم النفس عند جاك دريدا بفكرة إعادة إنتاج الصورة، وكذلك نظريات فرويد وقوانين الحركة لنيوتن والنسبية والنسبية العامة عند إينشتاين قد استعان بها بيكاسو ومعاصروه وأنتجوا فنا فارقا حتى صار منهاجا. كل هذه النظريات العلمية والفلسفية والجدل حولها تحول إلى مناح متعددة فى الإبداع الفنى والأدبي، فهل لديك فهما لتلك النظريات ومحاورات بشـأنها تبنى عليها فنا كما كانت هناك ؟، إذن، كيف لك بغرسها هنا دون قاعدة فهم وتقول ها هى التكعيبية مثلا ؟. هذا مصطلح نهائى جذوره هناك مع أن لديك هنا ما يتيح لك بناء نظريتك ومفاهيمك ومدارسك الخاصة والتى تستطيع البناء عليها. لديك هنا التجريدى والسريالى والتنقيطى .. الخ، فكان من الأولى بك قبل أن تذهب إلى التغريب البحث فى ما ورائية الفن المصرى وما هى الفلسفة التى أدت بالفنان المصرى أن يبدع هكذا؟، وما هي الثقافة الحاكمة لخلق مفاهيمك الخاصة كأى مجتمع يريد المشاركة الفاعلة.

** أخيرا ما قولك في دعاة الحداثة؟
** أقول لك رأيي في الحداثة ومفهومها أولا، أنت لو فهمتها بالمعنى الغربى مثلا، أنبهك إلى أن ما لديهم ليس حداثيا، بل هو منقول تابع من فنون الشرق وفننا نحن منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن، بل أدهشك حين اقول أن فن النحت الأوربى الحديث مبنى على أسلوب لتمثال فرعونى من عصر بناة الأهرام، تمثال صغير للأميرة quot;نفر حوتىquot; بنت quot;ددف رعquot; حفيدة quot;خوفوquot; والموجود بمتحف اللوفر. لكنك مررت بالعديد من فترات الانحطاط. أنت محتل بثقافة غريبة عنك فترة لا تقل عن 800 سنة، بل هى من أحط الفترات فى تاريخك، ثم فترة اعتدال وبعض نهضة لم تكتمل حتى عام 1952، وحين أتى أهل التحرر زادوك قهرا. البيادة الإنجليزى موجودة فى الشارع حتى اللحظة، والمد الوهابى بفلوس النفط !!. لكنك تستطيع استعادة مجدك القديم بسهولة ويسر، وأضرب لك مثلا: إيرلندا كانت محتلة من انجلترا ودمرت تماما لكنها أخرجت عباقرة مثل جيمس جويس وبيكت وغيرهما، وباريس دمرت عن آخرها فى الحرب العالمية الثانية وأعيدت مركزا للإشعاع الحضارى والثقافى للعالم أجمع، ثم ما هى الحداثة؟، وماذا أفعل أنا وغيرى من الأحياء الذين يبدعون؟. هى حداثتي وحداثتهم، فلماذا أربط حالى بما هو أبعد وليس له جذور هنا، أنقول عن فن الوسط الأفريقى مثلا أنه ليس حداثيا ؟!. دعنى أصارحك أكثر : لماذا يجب على معرفة لغته الانجليزية مثلا كى أخاطبه بها، وما يضيره إن عرف هو اللغة العربية لمخاطبتى ؟. الخلاصة : لست أقل منه.