كان الطفل سراج صغيرا و جميلا، يعيش مع والدته ووالده في كوخ على شاطئ البحر. كان يتفرج على السفن القادمة من كل الجهات والتي ترسو في الميناء الكبير للمدينة، يتابعها بعينيه حتى تغيب عن ناظره، متمنيا في نفسه لو كان على متنها.
يسأل نفسه دائما: quot;كيف يكون البحر البعيد؟ وكيف تكون السفينة على الماء حين تطفو ولا تظهر اليابسة وكيف يكون شعور البحّار؟quot;
كان كثير الحلم دائما بالبحر و بعرائس البحر التي حكت له والدته القصص الكثيرة عنهن؛ حكت له قصصا عن جمالهن الأخاذ و كيف يسرقن القراصنة و البحارة ويأخذونهم معهن إلى عالم أعماق البحر؛ وعن الكنوز الدفينة المغروسة في الأعماق المظلمة و عن الكائنات الأخرى التي لم يراها إلا بعض القراصنة، حكت له عن مخاطر البحر و عن لعنات جنياتها وسحرهن الذي يجعل الرجال يقتتلون فيما بينهم.
يعرف الطفل سراج حقا أن البحّارة يقصّون أحسن القصص حين يجتمعون على طاولة الأكل في مطعم المدينة الذي يملكه البحّار القديم صاحب اليد المبتورة.
سمع سراج الكثير منهم أيام كان يصاحب والده إلى المدينة، لقد التقى والده كثيرا من أصدقائه القدامى الصيادين و البحارة.
كان يسمع عن مهنة البحر المتعبة الشاقة المميتة والمليئة بالأخطار، سمع عن هبوب الرياح و العواصف و تلاطم الأمواج وهيجانها حين ترتفع لتصبح هالكة وكيف تلهو بالسفن، ناهيك عن خطر القراصنة الغرباء الذين يسطون على كل سفينة ضعيفة ، كيف يفسدونها ويغرقونها، كيف يأخذون المئونة ، سالبين المال والأسلحة كغنيمة ، حتى أنهم يأسرون البحّارة ليصيروا عمّالا وعبيدا يباعوا في سوق النخاسة.
وُلع سراج بهذه المغامرات ، تمنى لو في مستطاعه تعلم مهنة البحر ليجعل السلام يعم البحار جميعها بخاصة هذا البحر الذي كبر على شاطئه و تعلم السباحة في مياهه و كبر من خيره، هذا البحر الذي يمنح الأمان لسكان هذه المدينة الذين يقتاتون من صيد السمك.
لم يدخل سراج الكتاتيب و لا المدرسة بسبب فقر أبيه و لحاجته إليه؛ مما دفعه إلى مساعدته في أعماله لأنه مريض منهك من زمن كان يعمل بحّارا.
الوالد لم يرد لابنه أن يسلك طريقه لذلك عهد به إلى أحد الصبّاغين ليعلمه صنعة الصباغة.
كان سراج نبيها و ذكيا بحيث لم تمر إلا أيام على التحاقه بمهنة الصبّاغة حتى بدأ يحمل الفرشاة و يقيس الأحجام، هو لا يسأل بقدر ما يلاحظ ما يفعله معلمه.
مرت الأيام، صار سراج من أمهر الصبّاغين وعمره لم يتعدى الرابعة عشر.
اشتهر في المدينة بأنه الصبّاغ الفنان البارع بل سبقت شهرته اسمه في كل أرجاء البلاد.
لقد دفعه أبوه الحنون الذي كان يرغب كسائر الآباء في بناء مصير ابنه وتدعيمه بتعليمه إحدى الصنائع، فأختار له هذه المهنة الشريفة.
أحس سراج أنه لم يخلق لهذه المهنة البتة ، كان صوتا في داخله يهتف له بأن مكانه هناك بعيدا بعيدا حيث السماء تتلامس مع الماء و حيث الغيوم تتقاطع مع البحر، هناك حيث الزرقة في ذاك المدى البعيد و الفسيح، الصوت الذي يخبره أنه لم يخلق لهذه الحياة التافهة المسالمة الراضية بما دون المغامرة و المحال.
بدأ الطموح يكبر داخله و الحلم يكبر أكثر كلما رأى هذه السفن الغادية و الرائحة، إن طموحه أكثر نبلا.
كان الصانع الصغير يتغيب عن حانوت الصبّاغة، بسبب ذهابه للاستماع للقراصنة الذين ينزلون إلى اليابسة و يسلّون أنفسهم بحكاياتهم التي حدثت لهم في البحر و عن قصص أخرى سمعوها من بحارة آخرون في بحار بعيدة مختلفة.
كان القراصنة الشجعان العائدون و الناجون من العواصف و الأخطار يسردون حكاياتهم المليئة بالأخطار والمصاعب ، هذه الحكايات التي تمنحهم قوة مقاومة صعوبة البحر ، إنهم مثل الفراش تحت الرحى لولا هذا المدى الفسيح من الحكايا.
تأثر سراج بهذه القصص، أصبح متلهفا على إتباع خطى أولئك الذين كان خياله القوي يصورهم له أبطالا. ازداد شغفه في نفسه وذاك التعطش إلى المغامرة والسفر.
رمى الطفل أدوات الصباغة و ألتحق بسفينة من أسطول مدينته المحارب. اشتغل فيه كعامل تنظيف للأرضية الخشبية، ثم ما لبث أن صار معاونا لطباخ السفينة يقشّر البطاطس و الخضر و يطهو اللحم، ويسوي الأسرى و الأغطية.
كل هذا الصبر و الجلد لأجل أن يصل إلى رتبة بحّار أو ضابط .
مع مرور الوقت نال إعجاب كل طاقم السفينة بمن فيهم عبد الرحمان زعيم البحّارة الذي أوصى عليه الضابط الكبير بأن يجعله معه وألّح على تعليمه تحريك الدفة وعجلة القيادة، وحسابات الاتجاهات قال له:
ــ laquo; جدير بهذا الشاب أن يكون ربانا يوما ما، إنه طموح و يتعلم بسرعة، فتى في مثل سنه لا يزال في كنف أبيه إنه فتى شجاع و مقدام حقا.quot;
فرح سراج يومها أيّم فرح لمّا استدعاه الضابط الكبير و أخبره بعمله الجديد، ووصية قائد السفينة الذي شدّدّ في الحرص عليه.
قرر سراج اغتنام هذه الفرصة كما يجب و يظهر موهبته وحبه للبحر.
قال لنفسه: quot; لهذا اليوم كنت أستعد.quot;
أصبح سراج إلى جانب الضابط كأنه ظله لا يفارقه لحظة إلا في ساعات الراحة أو النوم لا غير. لقد أخذ منه الكثير ومع الأيام وحين وضعوه في أول اختبار أكد عن مقدرته الفائقة في قيادة السفينة في عرض البحر دون خطأ أو تهاون منه لقد كانت حساباته دقيقة وأوامره صارمة ، بالرغم أنه كان أصغر من في السفينة ومع هذا فكلامه مطاع و مهاب.
وفي يوم من الأيام كانت السفينة قد سلكت طريقا آخر في البحر لم تسلكه أبدا.
لقد اكتراها أحد الأثرياء لتشحن له سلعة من بلاد بعيدة خارج بحر المتوسط إلى وجهة المحيط. رغم المخاطرة ما كان ذلك ليخيف قائد السفينة و لا الشاب اليافع سراج.
قرر رفع التحدي أكثر فطلب من القائد أن يكون هو من يدير عجلة الاتجاهات إن سمح له ذلك بالطبع.
قال له:
ــ أرجو من حضرة القائد عبد الرحمان منحي هذه الفرصة وهذا الشرف العظيم.
رد عليه القائد عبد الرحمان:
ــ لك ذلك، هذا يوم يرى فيه البحارة كفاءتك، أثبت وجودك يا سراج يا بني أنت أهل لذلك.
شكر سراج القائد العجوز عبد الرحمان لمنحه هذه الفرصة العظيمة.
راح سراج ينادي بأعلى صوته معطي الأوامر للأشرعة أن تطلق وترخى، وأن ترفع الحلقة الحديدية الثقيلة و أن يأخذ كل بحار مكانه ويتأهب الجميع ليقتحموا تجربة جديدة.
قال أحد البحارة: أيها الضابط الشاب نحن لها، نحن لها.
و هتف الجميع: نحن لها، نحن سادة البحر، نحن سادة الماء.
كان الجميع مفعما بالحيوية و الطموح و الشجاعة و الحماسة الزائدة، هذا الاندفاع الكبير جعلهم يمارسون عملهم مصحوبا بأهازيج و أغاني تكسّر هدوء البحر.
quot; إلى الأمام إلى الأمام
حيث البحر يموج
و زرقة السماء
نحن سادة البحر
هيه هيه، هيه هيه.quot;

كانت الأيام عسيرة على سراج بعدما حمل هذا التحدي و ليثبت جدارته بالقيادة، كان يتناوب مع الضابط العجوز التحكم في الدفة.
الطريق إلى المحيط محفوفة بالمخاطر والأهوال، لقد واجهوا في طريقهم عاصفة كادت تقلب لهم سفينتهم، إلا أنهم نجوا بأعجوبة لكنهم ضاعوا في هذا المحيط المتسع.
كانوا يتقدمون شوطا وسط الماء فلا يرى من هو في برج المراقبة علامة واحدة تدل على اليابسة. يُعيدوا الكرة لكن لا مخرج لهم في الأفق فظنوا أنهم هلكوا.
كانت معنويات البحارة تنهار في كل لحظة تتقدم بهم دون الوصول إلى مخرج إلا أن سراج كان يعرف كيف يحافظ على اتزانه أمامهم، يوضح لهم أن لكل مشكلة حل وأن الله سينجيهم. كان يحمسهم بأن هذه أول تجربة لهم و ستزيدهم خبرة في حياة البحار و المحيطات و أن أهاليهم و الناس في انتظارهم على الشاطئ حين عودتهم ، و سيرمون لهم الأزهار و الورود و سيحكون لأحفادهم عن مغامرتهم هذه كما كانوا يحكون دائما.
كان يبث فيهم الأمل و يشحنهم بالقوة التي بدأت مياه المحيط تمتصها منهم و هم البحّارة الشجعان الذين لم تخر قواهم يوما.
لقد تاهوا في ماء المحيط و كل حسابات الضابط كانت تبدو خاطئة ومن البحارة من بدأ يحمّل الضابط الشاب سراج مسؤولية ضياعهم؛ لقد كانوا يتحركون من نقطة في المحيط ثم يعودون إلى نفس النقطة مما جعلهم يشكـّون في إبحارهم أصلا.
مرت أيام و ليالي، بدأت المؤن والماء بالنفاذ، بدأ الخوف يسكن القلوب والهواجس تسكن العقول وتيقن البحّارة أن أمر هلاكهم محتّم ووارد.
أمر سراج كل من في السفينة بالتقشف و ألّح عليهم الاقتصاد في الماء إلى أقصى درجة الاقتصاد، فهم لا يدرون إلى متى سيبقون عالقين في هذه الحالة المستعصية على الفهم.
قال القائد عبد الرحمان لسراج:
ــ لم أمر على هكذا حالة في حياتي، كل الحسابات لم تفلح بإخراجنا من هذا الماء.
رد سراج:
ــ هل حدثت أشياء كهذه من قبل ولو على سبيل الحكايات الأسطورية.
رد عبد الرحمان القائد:
ــ نعم، هناك حكاية يقصها البحّارة و القراصنة من قديم الزمان عن مكان في المحيط؛ من يدخله لا يخرج منه أبدا، لا أحد يعرف مصير كل من دخله.
رد سراج:
ــ ربما نحتاج إلى تفاصيل أكثر فقط فالحل في التفاصيل ، ما علينا فعله هو الرمي بالمرساة و الانتظار، ربما رأينا ضوء بليل ، أو تمر علينا سفينة من هنا، البحارة بدأت قواهم تخر، ولو كررنا المحاولة في الخروج و لم نخرج سيصابون بشيء من القنوط و ربما تخور قواهم لا يمكننا حينها شحذ همهم مجددا.
قال القائد عبد الرحمان:
ــ رأيك وجيه و لكن إلى متى نبقى ننتظر؟
رد سراج:
ــ أياما فقط.
سكت القائد عبد الرحمان وكان يرقب المدى الفسيح بعينيه البرّاقتين اللامعتين الحائرتين متسائلا عن المصير المحتوم.
أما الضابط الشاب سراج فقد تسللت الحيرة إلى نفسه وبدأ يفكر في الحكاية التي أخبره بها القائد عبد الرحمان، وتساءل في نفسه quot; هل يمكن أن يحدث هذا معنا بالفعل؟quot;.
أيام لم تمر أي سفينة على القائد عبد الرحمان، صار متيقنا أنه لن تمر عليه سفينة لتنقذهم أو تنعت لهم الوجهة الصحيحة إلى جزيرة المنظر الجميل التي يوجد فيها الشحنة التي سينقلونها إلى البلاد.
و بعد تأكد الضابط سراج أن تيههم في المحيط طال أمده وربما سيستمر أكثر، بدأت تساوره الشكوك في خروجهم من هذا الضياع، وأوجس في نفسه خيفة من انفلات الأمور.
تمر الأيام عليهم ثقيلة، الماء و المئونة نفذت وبدأ الصراع على الحياة.
لم يكن البحّارة على قدر كبير من المسؤولية و الوعي، كل واحد منهم يريد النجاة بنفسه ، بدأ الاقتتال على الخبز و الأكل و الماء ؛ لم يستطع سراج أن يوقف هذا النهر الجاري من الدم بعدما صارت السفينة إلى بضعة عناصر من بحارة تحالفوا على أصدقائهم البحارة الآخرين فزجوا بهم في سجن السفينة ، بعدما قتلوا من تصدى لهم و صار القائد عبد الرحمان و سراج إلى السجن. أما الجثث الأخرى فقد رموا بها في المحيط لتكون طعاما للأسماك.
هؤلاء الخارجون عن الصف كانوا بضعة بحّارة أشداء مدربون على القتال ، كان يرأسهم البحّار هيثم صاحب القيراط الموضوع في حلمة أذنه ، كانوا يمنعون الطعام و الماء عن المساجين وكلما مات منهم فرد رموا بجثته في المحيط، لقد ماتت الإنسانية بقلوبهم إلى درجة لم يتصورها أحد، لقد ذهل القائد عبد الرحمان و سراج و باقي البحارة الآخرين أن تصير الأمور إلى هذا الحد و يتحول هؤلاء إلى سفاحين و قتلة ، لم يكونوا بهذه الصورة البتة ، لقد أدهشتهم تصرفات من كانوا بالأمس أصدقاء، هؤلاء المتعطشون إلى الدم لأجل بقائهم ينفـّذون حكم القتل ، تأسف القائد عبد الرحمان أنه لم يعرف حقيقة هؤلاء على وجهها الصحيح، تمنى من كل قلبه لو لم يبحر في هذه السفينة التي ستقضي عليهم جميعا.
كانت السفينة تتحرك شمالا و جنوبا، غربا و شرقا و في كل الاتجاهات كخبط العشواء، وكلما تعب البحارة الذين صاروا في صورة عبيد لهيثم صاحب القيراط إلا و أكلت السياط ظهورهم، كثيرون منهم ماتوا جراء الجلد و القسوة المفرطة من العذاب والضرب.
ما بقي من المؤن مقسم بين هيثم صاحب القيراط و أصحابه، أما باقي البحارة العاملون معهم فبالكاد يعطون قليل من الخبز ما يكفيهم لحفظ حياتهم لا غير.
كان يموت من في الأسر الواحد تلو الآخر فتعفنت أعماق السفينة بالرغم أن الجثث ترمى في البحر. القائد عبد الرحمان لم يتحمل الجوع و العطش لكبر سنه فصعدت روحه للسماء و بكى عليه سراج كثيرا.
مع الأيام خارت مقاومة الأسرى ولم يبقى منهم حي إلا سراج الذي صار إلى حالة مزرية، صار لا يقوى على النظر و لا على الكلام. كان هيثم صاحب القيراط قد أخذته العزة بإثمه وعرف أنه لم يبقى له من سجين إلا الضابط سراج.
و انقلب السحر على الساحر؛ لقد قتل البحارة الآخرون قائدهم الجديد هيثم بعدما رأوا فيه الاستبداد و الطمع و القسوة و الأنانية ، بعد نفاذ كل ما يؤكل في السفينة صار الرجال يقتلون الآدمي و يأكلون لحمه بلا رحمة و لا إنسانية و بكل توحش ، صاروا كحيوانات يفترسون بعضهم بعضا.
فوضى كبيرة كان يقتل فيها البحار صديقه دون رحمة، كل من يقوى على الآخر قتله، إنها مجزرة على ظهر السفينة، ما نجا منها من أحد، إلا الضابط سراج الذي بداخل سجن السفينة.
لحقتهم لعنة المحيط، لعنة هذا المكان الذي جعلهم يقتلون بعضهم بعضا.
كانت الجثث مرمية على سطح السفينة؛ الطيور تمزقها و تبقر بطونها، مرت أيام ثلاثة لم تبقى إلا الهياكل العظمية و السيوف و الخناجر والحراب و باقي أسلحة السفينة ما عدا ذلك فلا أثر لحياة بشر.
كان سراج يقلع خشب السفينة و يمضغه لأجل البقاء حيا بخاصة لم يبقى إلا هو وحيدا، انغلقت عيناه من الظلمة ، وانطوت بطنه من الجوع وجف جلده من العطش ما بقى به إلا النفس يدخل و يخرج، تحول إلى هيكل عظمي، إنه يصارع لحظات الموت البطيئة في هذا الأسر.
انغلقت عيناه فكان يرى والده أيام كان يساعده في عمله، وكان يرى تلك الفرشاة والناس يحفونه و تلك الألوان الجميلة التي كان يصنعها، وجوه كثيرة تمر أمامه، صورة القائد عبد الرحمان و البحّارة الآخرون ، صورة صاحب المطعم، القرصان صاحب اليد المبتورة، وصديق والده البحّار الأعور الذي كان يضع قطعة جلد أسود في حجم حبة الخوخ على عينه. كانت صورة الشاطئ ماثلة أمامه و بيتهم المتواضع وصوت أمه الذي يناديه.
لا زال يسمع هذا الصوت الملائكي لأمه و هو يناديه quot; قف يا بني قف، السقوط يعلمك الوقوف، لا تبكي قف، أمسح الرمل من ركبتيك وقف، ألا تريد أن تكون بحّارا؟quot;
لا زال يسمع صوت أمه في أعماق غيبوبته يناديه ويمنحه القوة، تغلّب على ألمه، يمسك بالحياة لا يريد أن يموت، وقف من جديد ، مسح الرمل من ركبتيه، ورفع رأسه إلى وجه أمه مبتسما لها حابسا الدموع في عينيه:
ــ quot; لن أبكي يا أمي وكما ترين أنا لا أبكي، سأصير أكثر من بحار بل ربّانا كبيرquot;
فتح سراج عينيه متمتما بنفس هذه الكلمات التي أعادت روحه إلى الحياة، لم يرى قبالته سوى وجه امرأة جميلة عارية بكاملها، استحى مد النظر إليها ، أدار وجهه إلى جهة الشمال فرأى أخريات مثيلاتها، يمينا أخريات مثيلاتها، أغمض عينيه مرة أخرى حياء وفي نفسه رغبة لا تقاوم للنظر إلى جمالهن الأخاذ، فتح عينيه مرة أخرى، هذه المرة وجدهن قد أخفين جمالهن في كسوة من أعشاب البحر؛ بسؤال حيرة سألهن:
ــ أين أنا؟
سمع الحريات يتكلمن بلغة غريبة غير مفهومة، لغة لم يسمعها من قبل.
غير أن الحرية التي كانت تمسك برأسه بين كفيها والتي سقته دواء كان مزيجا من ألوان، حدّثته بلغته التي يفهما و رّدت عليه مُطرقة رأسها:
ــ أنت في بلد الأمن و السلام، أنت محظوظ، لا يحصل شرف الدخول إلى عالمنا إلا من كان قلبه نقيا من كل شر و إثم، قلبه عامر بالحب و الخير و الفضيلة والطموح، مشعا بالأمل لخير البشر.
ــ لم أفهم؟
ــ قوافل من السفن غرقت هنا بما تحمل من كنوز وبحّارة و قراصنة، سفن كثيرة أبتلعها المحيط وتغطّت في قعره فصارت ملجئ الأسماك و الطحالب، بسبب الجشع و الشر المضمر في قلوبهم ؛ لقد كانوا يقطعون آلاف الكيلومترات ليسطو بعضهم على بعض في مكر و خديعة. ناقلين عيش شعب إلى شعب آخر ليحيا رفاهية على حساب الآخر، ظلم و احتقار، كان يهلك الجميع للنيّات السيئة للبشر.
ــ ومن يأمر المحيط بذلك؟
ــ إنها سنن الكون و القدر التي تنهي ما بدأه الإنسان بجبروته.
وقف سراج ليرى أجسادهن ، كانت نساء حوريات لهن أجساد بلورية تضيء كالحباحب، اجتمعن عليه ثم نقلنه من السفينة التي غرقت إلى مكان كل شيء فيه برّاق.
رأى مجتمع آخر يتحرك تحت الماء ، فصار يتنفس مثلهن، أخذوه إلى مرآة كبيرة تعكس صورا، رأى فيها مشاهد لأناس في جزيرته كيف يعملون، مشاهد لبعض البحّارة السافلين كيف يسرقون بعضهم، وهذه المشاهد لبعض المجرمين وهم يقتلون أطفالا صغارا، وهؤلاء السادة المحترمون كيف يلحقون العذاب بهؤلاء الضعفاء، تغيرت المشاهد ليرى مشاهد أخرى في عوالم أخرى كيف الحرب في المحيط وعلى الجزر كيف تدمر الإنسان، سيوف و مدافع و دماء و أشلاء، ثم غيرت المرآة الكبيرة المشاهد ليرى سفينته ومن فيها و ماذا كان يخطط البحارة فيما بينهم متواطئين مع المستأجر، سمع أصوات تتحدث عن البضاعة ، هؤلاء الذاهبون لإحضارها. كثير من البارود و الموت، كثير من المدافع و البنادق الطويلة.
نقلته الحوريات اللواتي يضئن إلى غرف أخرى ، رأى وجوها يعرفها ميتة لا حركة فيها، موضوعة في مرايا زجاجية كبيرة، وجوه رفاقه.
عاش سراج وقتا بقانون هذا العالم الغريب ولما ألفه خيّروه إما بالعيش في هذا الوطن العامر بالأمن و السلام أو العودة إلى عالم الموت و الدمار و الظلم، إلى عالم القراصنة والقوة و القهر، عالم الحيتان الكبيرة التي تأكل الأصغر منها.
أختار العودة إلى شاطئه المتواضع، إلى مهنة الألوان و الجمال و البساطة، و أقسم أمام ملكة العالم السفلي للمحيط بأن يحيا حياة بسيطة لا شيت فيها، مع الأم و أن يغدق عليها من حنانه الذي تدفق فجأة كينبوع، وأقنعهن أن في الإنسانية شيء من جمال وخير لا ينقطع.