quot;إنَّ دَمْعي يا رينو عَلى الأَمْواتِ مَوْقوفٌ، وَصَوْتي في رِثاءِ الظّاعنِينَ مَعْروفٌ. أنْتَ فَوقَ الرَّبوةِ جَليلٌ عَظيمٌ، وَبيْنَ أطْفالِ السُّهولِ جَميلٌ وَسيمٌ. غَيرَ أَنَّكَ سَتُصْرَعُ كَما صُرعَ مورارُ، وسَيَقِفُ عَلى قَبركَ أَصْحابُكَ المَحْزونونَ يَبْكونَكَ وَيَنْدُبوكَ ! سَتَنْساكَ التِّلاعُ، وسَتبْقى قَوْسُكَ المُرْخاةُ مَهْجورَةً في إحْدى زَوايا القاعَةِ الكُبْرى!quot; (آلپين Alpin)
***
الرَّبُّ المُتَعاليَ في السَمَواتِ، يا مَنْ بيَدِكَ القُدْرَةُ العُظمى في قَهْرِ الوجودِ، وَخَلقِ الأكوانِ وبَعْثِ النُفوسِ بَعْدَ المَماتِ، أَيُّها السَرْمَديّ السّاكِنُ في عالَمكَ المَحْضورِ، المُتَخَلْخِلُ في الأزْمانِ وَالعُصُورِ...
هَلْ وَصَلَكَ صَوْتي؟
أرْسَلْتُ إليْكَ خِطاباً (لحَنُهُ النّياح... يَمْتَطي الرّياح )
هَلْ حَالَ بَيْنيَ وبَيْنَكَ شَيء؟
تُرى، لِمَ تَأخّرَ جَوابَكَ عَنّي؟
خُذْني إليْكَ... إلى عالَمِكَ الذي تَقول
أُقْسِمُ أنّي لَنْ أَخْدشَ فيها عُوداً، وَلَنْ تَرانيَ كُلَّ يَومٍ أسْتَغيث، لا رَغْبَة لي بِقَصْرٍ أَوْ حُورِ عِينٍ أَوْ شَرْبةِ ماءٍ مِنْ عَيْنٍ سَلْسَبيلٍ، فَقَطْ، أُريدُ أَنْ أَسْتَريحَ، فَبَعْضُ بُعْضُ الوَجَعِ حِيْنَ يَتراَكمُ يَصيرُ ثِقْلاً، وبَعْضُ الشّوْقِ حِيْنَ يَنْضَحُ، يَسْكُبُ ألماً فَوْقَ ألَم.
ما احْتفاظكَ بيَ هُنا؟ مَسْبيّاً في قِفارِ الجَهَلة، مَأسوراً في وَحْشةِ البائِسينَ، فيَّ شَوْقٌ لِحَياةٍ أهْنأ، أُريدُ أنْ أسْتَبْدِلَ جَسَديَ المَهْتوكِ مِنَ السَّحقِ، صَدْريَ المُهَشّم فيهِ أَصْواتٌ غَريبة، بُكاء الأَطفالِ وَعَويل ذِئابِ المَقْبَرة القَديمَةِ وَهَفْهَة الأَحْراش في الأكماتِ المُوحِشة، تَعْزِفُ كُلّ لَيْلَةٍ وتَنْدبُ جَنائِزَ عَلى مَدِّ البَصَر.
خُذْني إلَيْكَ، سَأسْرُدُ لَكَ حِكايات أَرْضي وشَعْبيَ، حكِاياتِ بيُوت الطّينِ وَالحَيارى السّائِرينَ بأطْرافِ المُدُنِ المَنْخورةِ، يَخْجَلونَ مِنْ ثيابِهمُ المُمَزّقةِ، وجُيوبِهمُ الخاوية، وأَيادِيهِمُ المُعَطّلةِ، الفُقراءِ الّذينَ يَصومونَ قَهْرَاً ويَفْطِرونَ جَمْراً، أَلحالمات بِغَدٍ أَحْلى، وَذَكَرٍ يَطْرُقُ البابَ لخِطْبةٍ، المُساقات سَبايا مِنْ أَزمانِ قَسْوَةٍ إِلى أَزْمانٍ خَوف، وَرِفاقيَ الّذينَ ماتوا بِالمَشانِقِ، هُمْ بَيْنَ يَدَيْكَ الآنَ، ورُبّما تَتركهُم يَسْمَعونَ ما أَقُول... سَأَصِفُ لَكَ أَيّام الطُّوفانِ وَما فَعَلَتْهُ الغِيلان، وكَيْفَ حَرَقوا غاباتِ النَّخيلِ حَتّى تَسيرَ المَواكِبُ وَتُدّق الطُبُول، وكَسَّروا أعْشاشَ الطُيورِ المُهاجرة عِبْرَ المُحيط ليُوفوا النُذورِ، سَأُخْبِرُكَ إنْ أردّتَ، عَنْ سُجونِ البَشَرِ وقَسْوَةِ البَشَرِ وكَيْفَ تَقاتَلَ البَشَر، بِتَفصيلٍ يُدْميَ قُلوبَ المَلاكِ الحافّينَ بِعَرْشِكَ، سَأُخْبِرُكَ عَنْ عَطا، ألفَتى الكُردّيُّ الجَميل، حينَ شَنَقوهُ وَلَمْ يُكْمِل خَمْسة عَشَرَ رَبيعَاً، وعَنْ طِفْلٍ مَخْنوقٍ في مَقْبَرةٍ، وَبيَدِهِ (دَعابُل ) زُجاجيّة، التُرابُ أكَلَ جَسَدَهُ وَبَقَتِ الزُجاجاتُ في عِظامِ كَفِّهِ، حِكايات فَرمِ الشّباب وَحَرْقِ النِساء وهَتْك بَكاراتِ العَرائِسِ لَيْلَةِ عُرْسِهِن مِنْ سُرّاقِ الوَطَن، عِنديَ الكَثيرُ مِنْ مَلاحِمِ الحُزْنِ وصوَرِ النَّوحِ الآدَميّ... وإنْ لَمْ يَرُق لَكَ ذلكَ رَبّي، فَلا تَعْجَل بِطَرْدي مِنْ سَناءِ حَضْرَتِكَ، فَسَأَحْكي لَكَ حِكايات الغَرامِ في دُنْيا الأَحْلامِ، وَساعاتِ الحُبِّ في أَزقّةِ مَدينتنا المَنْكوبةِ، سَأَحْكي لَكَ عَنْ أَقْماريَ الزَرقاء البَعيدَة، وَجنيّات لَياليَّ الطَّويلة، سَأُخْبِرُكَ بِصدقي وَعِفّتي مَعَهُنّ، وكَيْفَ كُنْتُ كَالطّفلِ المُشاكِسِ يُداعِبهن، وكَيْفَ اسْتَحالت أقْداريَ مِنَ المُكُوثِ عِنْدَهنّ، سَأَرْوي لَكَ الكَثير عَنْ جمَالِ وبَراءةِ ورِقّة مَنْ أحْبَبْتُ، وسَيَطولُ الحَديث حَتّى تَملَّ مِنْ وَصْفيَ وشَكْوايَ وهُموميَ، وسَتَعْلَمُ كَمْ قاسَيْتُ هُنا، في هذهِ الأرْض التي كانَ أَبي سَيّدها، وصِرْتُ أنا المُعَذّبُ المَنفيّ مِنها، وأَخْتِمُ لَكَ سُطوريَ بِعالميَ السُفْليّ الذي استَقَرّيتُ فيهِ بِمَحْضِ إرادَتي، إذْ تَجَنَبْتُ تَفاصيل المُدنِ المَحروقةِ، والبيوتِ المَمْلوءَةِ بِدُخانِ العَرباتِ المُفَخّخةِ والألغامِ المَتْروكَةِ مِنْ زَمَنِ الحُروبِ الأهْليّةِ، والشّوارِعِ، تِلْكَ التي كانَتْ مَقاصِدَ العُشّاق، صارت مزينّةً بِجُثَثٍ مَقْطوعَةِ الأَطْرافِ، مَلَلْتُ المَساجِدَ التي تَحّثُ عَلى سَبْيِ العُقولِ ومُصادَرةِ كُلّ شَيءٍ جَميلٍ، اخْتَرْتُ العالَمَ السُفْليّ حينَ رَأَيْتُ الحُبَّ تَبَخّرَ وتَلاشى مِنَ القُلوبِ، والصّدقَ تَكَسّرَ بَيْنَ الحُروفِ، والتَفاهَة زَيَّنَت أَنْصافَ الرِجال، وَزُوّرَ التاريخ، وصَعَدَت أُمَمٌ ونَزَلَت أُخْرى، وكَثُرَ اللّطْمُ والعَويلُ عَلى مَداخِلِ المُدِنِ المُقَدّسَةِ، فَصارَت غَيْر مُقَدّسة، وكانَ مِنْ أَمْرِنا ما كان، جَفّتِ الأَنْهارُ ورَحَلَتْ غِزْلانُ التِّلاع الجّميلة، ولَمْ يَعُد لَنا حَدائِق وَأَزهار ياسَمين، لَمْ تَرْجع مَراكِبُنا المُبْحِرة عِبْرَ الخُلْجانِ لِتَجْلِبَ لَنا العِطْرَ وَالحَريرَ وَالبَهار، لَمْ تَعُدْ مَدينتنا كَما كانَتْ، فَلا سَمَرُ لَيالي، وَلا قيثارة وَجْد تَعْزِفُ أَساطير لَحْن الخُلودِ، وَلا حَتّى، خَبَر عَنْ لِقاءٍ جَديد، كُلّ أَخْبارنا، سَيّديِ الرّب صارَتْ عاجِلة، حَمْراءَ تَحْكي المَزيدَ مِنْ سُطورِ الدّمِ، وَتُذيّل قَوائِمَ الرّاحِلينَ بِراحلينَ جُدُد، إِلَيْكَ في غَيْرِ مِيعادِهِمْ.
أَيُّها الرَّبُّ الجَميلُ... خُذْ كَلاميَ عَلى مَحْمَل جدٍّ، واسْحَبْني إِلَيْكَ، يَئِسْتُ مِنْ هذا الكَونِ الأَحْدَبِ الّذي طالَ بِهِ المُكُوث.


[email protected]