صلاح سليمان من ميونيخ: مات فاتسلاف هافل الكاتب المسرحي والشاعر ورئيس الدولة، مات الروائي والسياسي والمناضل التشيكي في 18 ديسمبر الماضي تاركا ورائه تاريخاً مفعماً مليئاً بالصفاء والنقاء الآدبي والسياسي والأخلاقي.
لعب فاتسلاف هافل دوراً سامياً في تحرير بلاده من قبضة الحكم الشمولي تجلت فيه ثقافته وابداعاته التي حركت مشاعر الناس وأججت فيهم رفضهم للحكم الشيوعي ـ فقد نجحت مسرحياته ومقالته في جمع الشعب التشيكي للإلتفاف حول الثورة المخملية التي نجحت في نهاية المطاف في نوفمبر من عام 1989 وعلي إثرها تولي هافل الرئاسة في تشيكوسلوفاكيا في 29 ديسمبر 1989 حتي 20 يوليو 1992 ثم رئاسة جمهورية التشيك بعد اإنفصالها عن سلوفاكيا في 2 فبراير 1993 وحتي 2 فبراير 2003.
كان العالم يكن تقديراً واحتراًما لثقافة هافل التي أهلته للفوز بجائزة غاندي للسلام رفيعة المستوي، وكان إختياره لهذه الجائزة نظراً لإسهاماته حيال قضايا السلام العالمي والتزامه بحقوق الإنسان في أصعب المواقف من خلال إنتهاجه لنفس أساليب الزعيم الهندي الراحل غاندي.
لم يكن إنتقاله من عالم الأدب الرفيع الي عالم السياسة الشائك لتحقيق أمال شعبه، إلا عملاً أخلاقياً رفيعا، ساهم في وضع بلده علي الطريق الصحيح ـ وعندما أدي رسالته واستنفذ مدة رئاسته رجع مرة أخري الي عالم الآدب وانغمس فيه حتي وافته المنية في وقت يظل فيه نبراسا لكل المتطلعين الي الحرية حول العالم.
أول مسرحيات هافل التي عرضت علي المسرح كانت بعنوان quot;حفلة في الحديقةquot; في عام 1963 التي سخر فيها من النظام الشمولي وهي تنتمي الي مسرح العبث وأدت به تلك المسرحية كذلك مقالاته وكتاباته الي السجن 4 سنوات في ظل انتقاده الدائم الي الشيوعية ورغبته في تحرير بلاده من ذلك الإرث الثقيل.
لعب فاتسلاف هافل دورا كبيرا في quot;ربيع براغquot;، مع الكسندر دوبيتشك ـ ثم شارك في في صياغة الوثيقة التي سميت quot;ميثاق 77quot; احتجاجا على قمع الحريات، وساهم في تأسيس quot;لجنة الدفاع عن المضطهدينquot; عام 1979.
دمج في فترة حكمه بين روح الأدب المرهفة وروح السياسة الثقيلة ومنعه القادة الشيوعيون في عام 1969 من ممارسة عمله كاتباً ومحرراً بعد قمع إصلاحات ربيع براغ عام 1968، واضطر للاشتغال عاملا يدويا في مصنع بيرة. ثم أسس حركة سلمية عرفت باسم الثورة المخملية التي قادت كفاحا سلميا طويلا ضد جبروت الحزب الشيوعي.
اشتهرت خطبته التي ألقاها في نيويورك في سبتمبر 2002 بمناسبة آخر زيارة له للولايات المتحدة الأمريكية بصفته رئيسا لجمهورية تشيكيا في المحافل الآدبية والسياسية وتم نشرها في مجلة laquo;نيويورك لمراجعة الكتبraquo; العريقة في 24 أكتوبر 2002 بعنوان وداعاً quot; أيتها السياسةquot; وكانت بمثابة وداعا للسياسة ونقداً للذات قبل عودته الي جذوره الثقافية مرة اخري.

كان نجاح الثورة المخملية في تشيكوسلوفاكيا يحمل كثير من الأمل من أجل عالم أكثر إنسانية.. عالم سعي فيه فاتسلاف هافل أن يكون للشعراء والأدباء والمثقفين صوتاً مسموعاً.
من أجمل تعبيرات فاتسلاف هافل التي أطلقها هي ذلك السؤال الذي وجهه لنفسه عندما قال هل تغيرت بسبب سنوات الرئاسة التي قضيتها في الحكم طيلة 13 عاما؟ ثم يجيب هو نفسه عن ذلك في نقد صريح ومكشوف للذات ـ وفي صدق يحسد عليه أنه علي عكس ما إعتقد من أن المنصب الكبير كان سيعطيه الكثير من الثقة في النفس إلا أنه اكتشف انه أصبح أقل ثقة في النفس وأكثر تواضعاً من ذي قبل،وكان يري كذلك أن مواجهة الجماهير كانت تمثل له رهبة كبيرة وتخوفا من عدم تحقيق آمالهم وحل مشاكلهم.
في صورة أدبية بديعة التعبير يقول كنت أخاف من أن أكرر نفسي ويقول كنت أتفادي علي قدر الإمكان وسائل الإعلام بسبب الخوف غير المبرر من أنني سوف أُفسد هذه الفرصة وأصبح مملاً الي الناس ، وكلما زاد عدد أعدائي، أصبحت في داخلي معهم ضد نفسي، وبذلك أصحبت أسوأ عدو لنفسي.
في خطبته في نيويورك قبل توديع عالم السياسة طرح الأسئلة السياسة أمام المستمعين مغلفة في قوالب أدبية جميلة المعني ـ فهو يقول عندما تحين لحظة الحقيقة وأجد نفسي سواء كنت موجود في هذا العالم أو غير موجود محاطاً بأسئلة مثل ماذا فعل هذا الرجل؟ وماذا حقق؟وما هي النتائج؟وما هو الميراث السياسي الذي تركه؟وما هي طبيعة الدولة التي تركها خلفه؟ يقول هافل هكذا اشعر بإضطرابي الروحي والفكري وتتملكني روح الثورة التي أجبرتني على تحدي النظام الشمولي السابق ودخولي السجن،وهو ما يتسبب في أن تكون عندي شكوك قوية في قيمة عملي الذاتي.